26 ديسمبر 2024

حرب لا تسلب أرواحنا فقط

حرب لا تسلب أرواحنا فقط

منذ عشر سنوات أحتفظ بقصائدي في مجلد ما، كنت أحلم أن أنشرها في ديوان مرفق برسومات فنية تعبر عن القصيدة، هكذا كنت أتصور كل قصيدة، بجانبها رسمة تقول المعنى بصريًا، لكن ذاك الحلم ظل حبيسًا لسنوات في انتظار شريك يرسم تلك اللوحات.

هذه الحرب أعادت إلي ذاك الحلم مرة أخرى، وبينما كنت أتصفح الإنترنت وجدت حساب الفنانة محاسن الخطيب مصادفة، لم أكن أعرفها ولم أكن قد سمعت قط عنها، لكن شيئا ما لفتني في كلماتها ورسوماتها، كانت روحها نقية نابضة بالحياة.

قلت لنفسي هذه هي، شريكة الديوان، حفظت الاسم وقررت أن أحدثها بالأمر لتحقيق الحلم بعد انتهاء الحرب.

ولكن، يبدو أنني تأخرت، ففي مساء 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 قتل الاحتلال محاسن، قتلوها وقتلوا رسوماتها، وقتلوا أجهزتها، وقتلوا الحلم.

يخطر ببالي كم من الأحلام قد قتلت في هذه الحرب؟ وكم من الأهداف سجلها الغزيون في دفاترهم ومذكراتهم وحواشي كتبهم آملين تحقيقها؟ غير أن الحلم كان دائمًا ما ينتهي بانفجار صاروخ.

لم يكتف الاحتلال بقتلنا وسحق أطفالنا، بل يريد قتل المعاني واغتيال أرواحنا؛ أن تستكمل الأحلام عندما تبدأ مسارها، ألا تغير المشاريع حياة أصحابها، أن يحمل الأب ابنه على كتفه شهيدًا بدلًا من أن يعيش معه حتى يكبر الطفل ويكون حلم أبيه.

أحلامنا قوية نعم، وعميقة نعم، لكنها لم تكن يومًا خطيرة، كل أحلامنا جميلة كغزة وبسيطة، لكن يبدو أنها كانت تخيفهم، لذا اغتالوها بكل هذه القسوة. يخافون من أحلامنا لأنها تحمل النور، ترغب بالحرية، تنشط رغم الألم وتتحقق رغم الفيتو الأميركي. يخافون من أحلامنا لأنها واضحة جلية يقينية وهم يعلمون أنها محققة، لكنها يأملون تأجيلها بسفك مزيد من الدماء.

لم تكن محاسن الوحيدة التي رحلت قبل تحقيق أحلامها، فقد خطفت هذه الحرب أحلام أطفال لم يبلغوا سنّ الإدراك بعد، وحرمت شبابًا من فرصهم الأولى في العمل والدراسة. حتى الأفكار البسيطة التي كانت تنبت من أزقة المخيمات، أُجهضت تحت الأنقاض. كم مشروع صغير توقفت خطواته وسط الدمار، وكم حفل زفاف تأخر إلى أجل غير مسمى أو إلى الأبد، وكم شخص غادر الحياة قبل أن يترك بصمته التي أراد أن يحدثها في هذا العالم.

عِش اللحظة الآن

منذ بدء الحرب، لم يعد هناك مجال للانتظار. الانتظار، ذلك الشيء الذي اعتدنا عليه أصبح رفاهية. كل ما كان مؤجلًا بالأمس بات عبئًا ثقيلًا اليوم. باتت الحياة سريعة ومرهقة، تحثّنا على فعل كل شيء "الآن" قبل أن تُسلب الفرصة بصاروخ أو قذيفة أو رصاصة من مسيّرة.

لا يمكنك أن تضع خططًا طويلة الأمد في غزة، الحياة هنا تأتي في شكل لحظات خاطفة نعيشها بكل تفاصيلها. نرسم، نكتب، نغني، نحلم، نحب ونقاتل. في كل لحظة، ندرك أن الغد قد لا يأتي. كل ابتسامة نشاركها، وكل قصيدة نكتبها، هي محاولة لتحدي اليأس والخراب، ولتأكيد أن هذا المكان، رغم كل شيء، لا يزال ينبض بالحياة.

لن توقفوا أحلامنا

الحرب ليست محاولة لسلب أرواحنا فحسب، لكنها محاولة لإخماد الأمل في قلوبنا كذلك. ومع ذلك، سنعيد بناء أنفسنا ومدينتنا وأحلامنا، نرتبها من جديد كما نرمم بيوتنا بعد القصف. نحلم بمدارس جديدة، بمستقبل أفضل لأطفالنا، بأعراس لا تنتهي. نحلم أن تتحول غزة، يومًا ما، من ساحة موت إلى مدينة سياحية جميلة يزورها العالم لتحقيق حلمه برؤية هذه المدينة العنيدة التي وقفت أمام الإبادة وقاتلت حتى النهاية.

ستظل الأحلام تنبض بين الأنقاض. تخرج على هيئة رسمة على جدار مهدوم، أو قصيدة كتبت على ضوء شمعة وسط ظلام الحصار، ستظل غزة تنتج الحلم، حتى عندما يبدو تحقيقه مستحيلا. أحلامنا لن تنكسر، فهي تعيد تكوين ذاتها في كل مرة يُهدم فيها جدار أو تُقطع شجرة. أحلامنا هي قصصنا التي نرويها، وهي الأمل الذي نحمله، مهما بدا المستقبل بعيدًا أو مستحيلًا.