أواخر أيلول من عام 1938، وفي ظلّ ثوران عرب فلسطين، وفوران الدّمِ على الحكم الإنجليزيّ للبلاد، ومع انبعاث مظاهرِ الفقرِ والفوضى والعوز، اقتحم ملثّمون بيتَ إحدى عائلات الأعيان المُتنفذة في مدينة النّاصرة. يَعرِفُ عمومُ فلاحيّ القضاء البيتَ وصاحبه؛ "زِنجيلٌ" من زناجيل "مقطعجية" المدينة، فمن منهم لم يقف على عتبتِهِ لِدفعِ ثُلث محصولِه إتاوة له، أو لغرض الاستدانة والرهن كلّما ضاقتْ الدنيا ذرعاً بفلّاح.1"زنجيل": مفردة استخدمها الفلاحون في فلسطين للتعبير عن المُتَنَفِذ من مٌلّاك الأراضي في زمن الدولة العثمانية. إتاوة: مبلغ ماليّ يُعطى لحاكمٍ أو إقطاعيّ كدليل على الخضوع أو كثمن للأمن. مقطعجية: كلمة بالعاميّة وتعني الإقطاعيّ أو صاحب الأرض والنفوذ.
سطا الملثّمون على البيت بمن فيه. لم تسلم منهم حتّى حلقان الذهب في آذان النساء، فعلى ذمّةِ الراوي أنّهم انتزعوا القُرطَ ومعه لحم شحمة الأُذن.2ذُكِرت هذه الرواية على لسان الحاج أحمد الحايك من قرية أندور (عين دور)/ قضاء الناصرة. نُشرت على "يوتيوب"، ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجرى المقابلة سعيد عجاوي، بتاريخ 2/7/2007.وعندما همّوا هاربين هبط أحدهم مقتحماً اسطبل الخيل، سَحَبَ خنجره وبعج به بطنَ فرس "الزنجيل"، ثمّ ولّى هارباً بعد تيقنه من أنّ أمعاءَها باتت بين قوائمها - "قضيناها أُحرث وادرُس لَبطرس"، يَسبُّ بعالي صوتِه.
بعد أقلِّ من أسبوعين قُبض على الملثمين، وتبيّن أنّهم حرّاثون من قرية عيلوط الواقعة غرب مدينة النّاصرة. لم يستوقف شرطةَ الانتداب انتزاعُ الحلقان من آذان النساء رغم قسوة الفعل ووحشيته، إنّما استوقَفَهم السؤالُ: لماذا بَقروا بطنَ الفرس ولم يسرقوها؟ سألَ الضابط. "بِسنة اللّم على حرب تركيا، ولمّا وقفت إمي ورهنت نص دارنا من شان طحنة قمح، كانت خيل البيك مربوطة على المعلف توكل لوز!"، أجاب الحرّاث.
رهنُ نصفِ بيتٍ من أجل طحنة قمح، بينما معالفُ خيل "البكوات" مملوءة باللوز!3معالف: مفردها معلف وهو المكان الذي يوضع فيه العلف للمواشي والدّواب. البكوات: لفطة بالعاميّة وهي جمع لكلمة "بيك".كان ذلك من أيام الحرب العظمى سنة 1915. ما الذي لم يُطلِقهُ النّاسُ على ذلك العام؛ النفير، و"السفر برلك"، وكذلك سنة "القِلة"، وعام الجراد، وسنة المجاعة أو جائحة زمن تركيا. عامٌ تمدّد وفرّخ أعواماً تَـلَتْـهُ من الحرب والنفير والفرار؛ مَحْلٌ وقِلّة، جورٌ وجوع، جدريّ وجراد وأمراض، وكلّ ما يمكنه أن يحمل مذاق القبر.4مَحْل: انقطاعُ المطر ويُبْسُ الأرض من الكلأ.
السفر برلك
اندلعت الحرب العظمى أو حرب تركيا كما سمّاها أهلُنا في حينه، فوصلت برّ الشام مع صوت نفير طبول فرقة إزمير العسكريّة التي حطّت على أبواب القدس الشريف.5سليم تماري، "عام الجراد: الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني في فلسطين -يوميات جندي مقدسي عثماني"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 113.استدعاءٌ للتجنيد الإلزاميّ قُرأ من على سور المدينة، مختوماً وموقعاً باسم السّلطان، يستنفر فيه عربَ الشّامِ للالتحاق بجيش بني عصمان، "أي شانلي أوركو، أي شانلي عسكر" – في خير جيشٍ وفي خير عسكر.
اقرأ/ي المزيد: "أوبئة ومحاجر صحيّة.. من ذاكرة فلسطين".
تعجُ ذاكرةُ النّاس بحكايا الهرب والفرار من تلك الأيام، فما لنا وحرب السّلطان؟! فقد ولّى زمان الترك يا عبد الحميد، يقول لسان حال أهل الشام. يتذكرون أنّ من المجندين قسراً من نَقـَلتهُ بوابير سكك الصحراء، ومنهم من حملته بوابير البحر.6بوابير: مفردها بابور، أطلقت هذه التسمية على القطار والسفن ذات المحرك. وقد بقى دخانها عالقٌ في ذاكرة ذوي المجندين غِناءً:
سافر حبيبي ببابور السكة
والقلب يودع والعين بتبكي…
بابور السكة خانك زمانك
عميت عيون الحلوي بدخانك...
وفي محاولة للهرب، أطنب أهلُ المطلوبين للحرب على عتبات بيوت "البكوات" من "المقطعجية"، لدفع ضريبة البدل مقابل إعفاء أبنائهم من التجنيد.7ضريبة البدل: أُطلق هذا الاسم على الضّريبة التي فرضها العثمانيون مقابل الإعفاء من التجنيد الإلزاميّ للحرب العالمية الأولى.ومنهم من دفع الضريبة ذهباً ومع ذلك سيق ابنُهُ إلى الجبهة، ذهاباً بلا رجعة. من لم يملك مالاً ولا برطيلاً لدفع البدل، لاذ فراراً عن عيون الباشا وجنده، فمنهم من ساح في الجبال وتوّطن المغاور والجيوب، ومنهم من لجّ عباب البحر بلا وجهةٍ ولا مصير.8المقصود بالباشا القائد العسكريّ العثماني جمال باشا، المعروف كذلك بالسفّاح. برطيل: مبلغ من المال يُقدّم للبيك أو أحد المتنفذين من أجل طلب مساعدته أو استمالته لأمر. وقصص الفرار والمطاريد مسترخيةٌ إلى يومنا في ذاكرة الفلسطينيّين، أشجاها يومَ أنْ غنّتْ نساءُ الفلاحين: "عالأووف مشعل الأوف مشعلاني، مع السلامة يا بعد خلاني".
من لم يستطع على البدل والبرطيل ولا الفرار لحاجة أهله له، لجأ إلى إهانة كرامته البدنيّة، وذلك عبر تشويه جسده لعلّ في ذلك خلاصاً من التجنيد والحرب. فمنهم من فقأ عينَهُ أو جَدعَ أنفه، أو حتى شطف أذنه، وغيرهم ممن استعانوا بسمِّ الفئران لدهن عيونهم به كفقدٍ مؤقتٍ للبصر.9دهن العينين بسمّ الفئران تقنيةٌ ابتكرها الفلاحون المصريّون هرباً من تجنيدهم القسريّ أيام محمد علي باشا، إذ تؤدي إلى فقدٍ مؤقتٍ للبصر. انتقلت هذه التقنية إلى فلسطين وبلاد الشام مع حملة إبراهيم باشا على سوريا سنة 1831. راجع خالد فهمي، "كل رجال الباشا"، دار الشروق.
خطف وعويل، بدلٌ واستجداء وبرطيل، وسواري يستعلم عساكرُها عن مطلوبين، بوابير في البرّ وأخرى في البحر، تحمل لحم أبناء مدن فلسطين وأريافها إلى جبهات الأناضول حيث النار والدخان، فالذاهب مفقود والعائد منها مولود.10سواري: جمع السوار: قوّة ضبط وأمن داخليّة يتنقل أفرادها على الخيولغير أنّ الحرب لم تقف عند جبهات القتال، إنّما طرقت بجوعها وجرادِها أبوابَ المدن والأرياف.
الجوع والجراد
قَطَع الحلفاءُ خطوطَ إمداد العثمانيين، فكان الحصار البحريّ الشهير الذي منع الذخيرة والقمح عن كامل بلاد الشّام على ساحل المتوسط. اجتاحت جائحةُ الجوع مدنَ بلاد الشّام قبل أريافها، إذ علّم كفافُ الريف الفلاحينَ احترامَ القمح. يصفُ العسكريُّ المقدسيُّ إحسان الترجمان، في يومياته عن المدينة، مشهدَ تدافع المقدسيّين رجالاً ونسوةً على أبواب الأفران شوقاً واستنشاقاً لرائحة الخبز، فقد نفذت حبوب المدينة، والباقي منه حَمَلَهُ عسكرُ الباشا إلى عنابر الجند طعاماً للجيش. صراخٌ وعويل ومجاذيب تغني للبرغل قبل القمح، للحدّ الذي لم يبقَ للناس فيه سوى البرتقال وبقشره ليأكلوه، لأنّ يافا لم تعد قادرة في حينه على توريد برتقالها لإنجلترا، فبقي "على أمه" كما يقول زارِعوه، فغدا ملاذَ أفواه الجياع من أهله.11سليم تماري، "عام الجراد"، ص226.
على إثر قطع خطوط الإمداد وحصار البحر، امتدّت مخالبُ العصملي إلى مخازن الفلاحين. لم يُبقي جشعُ جند الباشا لا على قمحٍ أو زيت أو سمنٍ، باستثناء الـ"طُـز" - وتعني الملح بالتركيّة - الذي كان يركلُه الجندُ لقلّة حاجتهم به، تاركينه لأصحابه، ليبقى الملح في ذاكرة أهله تعبيراً عن ملوحة الدّهر ودورانه عليهم. إلى يومنا ما زال أهل فلسطين وعموم الشام، كلّما أرادوا التعبير عن لامبالاتهم أو عدم اكتراثهم وحاجتهم لأمرٍ ما، يقولون: "طُـز".
سيقت طروش الفلاحين ودوابهم وعليها الحبوب طعاماً أو عتاداً للحرب، فاشتدّ جوعُ الناس إلى أن صاروا "زُغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر"، فمنهم من فتّش في روث الخيل والدواب عن حبوب كي يغسلَها، ويجِدَ قوت يومه. عدا عن الذين قايضوا على بيوتهم وأراضيهم من أجل ما يسدّ الرمق، إلى حدِّ أن قايضَ ودلّلَ بعضُهم على بناتهن بتزويجهن مقابل صاعٍ أو صاعين من القمح.
النعّاب
ابتزّ الجوعُ كرامةَ النّاسِ وكبريائهم، وأضحت النساء يتضرعنّ على طريقة النبي داوود، بمناجاة الوهّاب بالنعّاب.12راجع: خالد تركي، "سفر برلك"، إصدار: مكتبة كل شيء، ص 35."يا رب يا رزّاق يا وهاب.... ارزقني مثل ما بترزق النعّاب". ويُقال إنّ من النسوة من كانت تدلع ثديها خارج ثوبها نحو جِهة القِبل من شدّة الفاقة، وتقول: "يا رب بجاه الحلّاب ... ترزقني رزقة النعّاب".
النعّاب هو فرخ الغراب، فحين يرقد الغراب على بيضه ليفقّس، تخرج فِراخه من بيضها بيضاء اللون كالثلج نقيض لونه، الأمر الذي يثير استغراب الغراب لسواده وبياض فراخه فيهجُرها. لكن لمنقار فرخ النعّاب رائحة فوّاحة تجذب إليه الديدان والحشرات لتدخل منقاره ويتغذى عليها. بعد فترة يعود الغراب إلى عشّه، لأن الغربان لا تغير أعشاشها، فيجد فراخَه وقد غدت على شاكلته سوداءَ الريش، فيُجَدِّدُ تغذيتَها.
كانت تلك صرخة لله من عبادٍ غلبتهم فاقةُ الحرب والحصار. ومع ذلك بقي حال أهل فلسطين أرحم مما آل إليه حال سكان جبل لبنان في جائحتهم. إذ يُذكر أنّ في الجبل من أَكَلَ أطفالَهُ بعد أن تَعَمّدَ جمال باشا السفاح استقصادهم وزادهم على الحصار بحصار.13مجاعة اللبنانيين في الحرب العالمية الأولى، مجلة بدايات، العدد 12، خريف 2015.
لم يدفع التجنيدُ ولا التجويع الناسَ إلى التفكير في الرحيل، غير أنّ الجراد دفعهم إلى ذلك. اجتاحت موجة الجراد الأولى فلسطين في آذار من عام 1915، أي في نفس عام الحرب، وتلتها موجات أخرى حتى أواخر أيلول من نفس العام. جاء الجراد على الحرث والزرع ولم يُبقي أخضراً ولا يابساً، فالغلال التي أخطأتها عين العصملي تلقّفها الجراد.
كان سرب الجراد يهجم مثل سُحب الغمام، إلى حدٍّ حَجَبَ فيه شمسَ النّهار عن مدن البلاد وقراها. استنفرت الدولةُ العلية معبأةً الناس على بيض الجراد مثلما استنفرتْهم في التعبئة للحرب. على كلِّ رجلٍ بالغٍ أن يجمع مقداراً من بيض الجراد لإتلافها، ومن يتخلّف يُعاقب أو يدفع ضريبةً سُميت "ضريبة الجراد". ناهيك عن واجب نقر التنك، وهي المهمة التي أُلقيت على عاتق الصبية والأطفال من أجل تجفيل الجراد وإبعاده.14خالد تركي، المرجع السابق. إلى أن حلّ الشتاء مع مطلع كانون الأوّل، فـفلّ الجرادُ عن البلاد والعباد فيها تاركاً وراءه مَحْلاً وقحلاً وأهازيج عجائز ناقمةٍ على "تجار البخل في سنة الغلا"، منها: "إجا الجراد لاشي... أكل ومخلّاشي... زرع الخِيّر أكله... وع البخيل ظل ماشي".
يُعيد الناس اكتشافَ أنفسِهم وبعضهم بعضاً في الويلات والملمّات، فكان عام الحرب عاماً يصعبُ حذفه من ذاكرة أهل فلسطين وسائر أهالي الشام. قيل عنه وفيه الكثير، وكُتب القليل لأنّ ليس من عادة النّاس تدوينُ جوعهم وأمراضهم.