9 أغسطس 2022

جولة غزة الأخيرة: أسئلة عمّا حدث

جولة غزة الأخيرة: أسئلة عمّا حدث

انتهى العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة بارتقاء 44 شهيداً من أبناء شعبنا من الرجال والنساء والأطفال، ومنهم قياداتٌ عريقة في المقاومة، أبرزهم الشهيد تيسير الجعبري، قائد لواء الشمال في سرايا القدس، والشهيد خالد منصور، قائد لواء الجنوب في السرايا. 

حملت هذه الجولة، كسابقاتها من اعتداءات الاحتلال، مشاهد قاسية من القتل والغدر والتدمير، تكثّفت فيها من جديد ملامح خنق غزّة ومحاولة تركيعها وسعي "إسرائيل" المستمر لتدفيع الناس ثمن انحيازهم للمقاومة. إلا أنّها كانت قاسيةً أيضاً بالنظر إلى موقعها من مُنجزات معركة "سيف القدس" عام 2021. 

يُمكننا القول إنّ هذه الجولة كانت المحطة الثالثة في بعثرة المنجزات الوطنية الفلسطينية التي تحقّقت في "سيف القدس"؛ ففي المحطة الأولى فرض الاحتلال اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى في النصف الثاني من رمضان الأخير، مُثبّتاً واقع التقسيم، في الوقت الذي اكتفى إعلامُنا المقاوم في حينه بـ"منعها" إعلاميّاً فقط! أما الثانية، فكانت عندما تكرّر اقتحام المُصلّى القبلي من قبل قوات الاحتلال والذي جاء بعد محاولة تثبيته "خطّاً أحمر" يستدعي الردّ من قبل المقاومة. 

وصولاً إلى ما حدث في الأيام الأخيرة، المحطة الثالثة، التي عمل فيها عدوّنا على تقطيع أوصال ما تجمَّع على مستوى الوحدة الجغرافيّة للمقاومة، وذهب لأبعد من ذلك بالاستفراد بفصيلٍ فلسطينيّ مقاومٍ لوحده، واستهدافه بشكلٍ حصريّ، على المستوى الخطابيّ والفعليّ، وإلحاق الضرر به وبسكان القطاع، كاسراً بذلك من هيبة الردع التي بدا كأنّنا ننتقدّم في فرضها كمعادلةٍ تحمي كرامتنا أمام هذا العدوّ الذي كان سيلتهمنا كلنا لولا وجود تلك الهيبة.

كانت هذه الجولة علينا أكثر مما كانت لنا. ومن المهم مواجهة ذلك وتوضيحه، ليس لندب حظّنا، ولا للمساهمة في نقاشات المزاودات السياسيّة، وإنما لنعرف أين أخطأنا وما المطلوب منّا. فالجولات المتتالية والتي تراكم على بعضها بعضاً صوب التحرير ليست أرضاً مفروشةً بالورود، إنما هي هكذا طريق تصعد أحياناً وتتراجع أحياناً أخرى. لكن وظيفتنا أن نُعجّل من تصاعدها، ونُحيّد قدر الإمكان تبعات تراجعها، لذلك من المهم التعلم من أخطائنا، سعياً لتقليل معاناتنا وزيادة قهر عدوّنا.

ما الذي حدث في هذه الجولة بالذات؟ 

اعتقل جيش الاحتلال مساء الاثنين (الأول من أغسطس/آب 2022) الشيخ بسام السعدي، أحد أبرز قيادات حركة الجهاد الإسلاميّ في الضفّة الغربيّة، بعد أن نكّل به وأصابه وسحله. في أعقاب ذلك، اعتبرت حركة الجهاد ما حصل تجاوزاً للخطوط الحمراء، وأعلنت سرايا القدس "الاستنفار ورفع الجاهزية لدى مقاتليها والوحدات القتالية العاملة"، والاستنفار يعني أن تدخل كلُّ الوحدات في حالة تأهبٍ في انتظار أن يُتخذ القرار لمهاجمة أهداف العدو، إنها خطوةٌ أخيرة قبل إعلان الحرب. وفي المقابل، بدت واضحة محاولة الاحتلال تضخيم هذا الإعلان وتكثيف جهوده في صناعة جوٍّ من التوتر من خلال جملة من الإجراءات الأمنيّة مثل إغلاق الطرق ووقف حركة الطيران.  

وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أنّ اعتبار اعتقال قياديّ في الضفّة الغربيّة والاعتداء عليه مسألةً ذات أهميّة كبرى تستدعي الرد، هو بحدّ ذاته أمرٌ ضروريّ يرفع من قيمة حياة الناس بدلاً من تحوّل اعتقالاتهم المتكررة لأخبار روتينيّة واعتياديّة. لكنّ في الوقت نفسه، يُطرح السؤال: هل بالفعل هناك قرارٌ بتحويل اعتقال أيّ فردٍ أو قائدٍ في الضفّة الغربيّة لخطٍّ أحمر يستوجب دخول فصائل المقاومة في غزّة حرباً بسببه، وهل هذه قاعدة جديدة من قواعد الاشتباك؟  

وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني: في حال كانت هذه قاعدة جديدة، هل وُضعت محل إجماعٍ فصائليّ في غزّة؟ وهل يُعتبر هذا الاعتقال سبباً لأن تُكسر آليات التنسيق السابقة التي كان يتم من خلالها اتخاذ القرار وأثبتت نجاعتها، وأبرزها غرفة العمليات المشتركة. 

ولماذا لم تكن هناك أهداف أخرى أُضيفت لمحددات هذه الجولة، مثل الأهداف التي جرى الإجماع عليها سابقاً وتستدعي جهداً للمحافظة عليها، تحديداً ما يتعلق منها بـ"سيف القدس" (كحماية الأقصى من التقسيم واعتداءات المستوطنين، ومصادرة البيوت…)؟ إذ يبدو من قراءة أحداث هذا العام، أنّ حسابات عسكرية ما أثرت على قدرة الفصائل في المحافظة على مكتسبات "سيف القدس" السياسيّة، فكيف تمت إضافة هدفٍ جديد لقائمة الأهداف المذكورة؟ 

صواريخ فلسطينيّة تُطلق من غزة باتجاه الأراضي المحتلة عام 1948، أغسطس 2022. سامح رحمة/نور فوتو.

استغل الاحتلالُ المحطات السابقة التي ساهمت في إضعاف مكتسبات "سيف القدس"، واستغل أيضاً حالة اللإجماع هذه، واتخذها فرصةً مواتيةً لتحقيق مجموعةٍ من الأهداف لصالحه، أبرزها: ضرب حالة الردع والإرادة التي راكمتها الناس بعد "سيف القدس"، وكذلك ضرب حالة الوحدة الجغرافيّة بين مختلف المناطق الفلسطينيّة، وضرب الوحدة الفصائليّة من خلال الاستفراد بالجهاد الإسلامي وتصوير "المشكلة" على أنّها مع فصيل بعينه، وهو إسفينٌ تضرِبُه "إسرائيل" بين "حماس" والجهاد الإسلامي شديد الخطورة، وآثاره النفسيّة والمعنويّة شديدةُ السلبية على الفصائل وحاضنتها.

 في المحصلة، انتهت هذه الجولة بأضرار كبيرة، ماديّة ومعنويّة، وسط ارتباكٍ عامّ لم يتكفل أحدٌ بتوضيحه أو شرحه، وكالعادة جرى تغطية ذلك برفع مستوى التصريحات الإنشائية. بل حتى ما طُرح كـ"شرط" لوقف إطلاق النار، وهو إطلاق سراح السعدي والأسير خليل عواودة، بدا أنّه مجرد كلام "في الهواء" طرحه المصريون، وسارع الاحتلال لنفي تقديم أي وعودات بذلك.

الحاضنة الشعبيّة التي تحمي..

ومما أُثير في خُضمّ هذه الجولة، النقاش حول المقاومة وردّها. ظهر نوعان من الخطابات، يتداخلان فيما بينهما في بعض الأحيان، لكن من المهم التمييز بينهما، وقد شهدناهما خلال هذه الجولة. 

الخطاب الأول: هو خطاب الحاضنة الشعبية للمقاومة، التي تريد من المقاومة باستمرار الردّ على كلّ اعتداء، والمحافظة على هيبة الردع، وعدم السكوت على أي عدوان. هذا خطابٌ مهم وحيويّ لاستمرار المقاومة، ومن الفائدة بمكان أن تبقى رُوحه مشتعلة، وهو أفضل بكثير من أن يأتي يومٌ على المقاومة تُطالبها فيه حاضنتُها بالتهدئة، وهذه كارثة إن وصلنا لها. 

ويجب العمل باستمرار على تغذية هذه الحاضنة الشعبيّة واحترامها وأخذِها على محمل الجدّ، مما يعني أنّه يجب شرح ما أمكَنَ من مواقف المقاومة لها بلغةٍ واضحةٍ بعيداً عن الشعاراتيّة والكلام الذي لا يُفهم منه شيء. فالمُلاحظ أنّ هذه الحاضنة، تكونُ في كثير من الأحيان، محطَ إهمالٍ في خطابات المقاومة، فلا أحد يخرج يشرح ويوضح الاستراتيجية التي تتحرك فيها وأين أخطأنا وأين أصبنا ولماذا دخلنا هنا ولم ندخل هناك، ويكون كثير مما يُقال مجرد كلام عاطفيّ حصراً، دون تطوير خطابٍ يتعامل مع الحاضنة على مستوى إضافي من الجديّة والعقلانيّة.  

إنّ روح التأييد هذه، والتي تختلط فيها العواطف بالهتاف بالنقد اللاذع، كفيلة بإبقاء روح المقاومة مُشتعلةً في قلوب الناس وتطلعاتهم، وهي حين تغضب من تلكؤ أو تأخر أو حسابات ما، فإنها تكون مدفوعةً بمشاعر الانتماء والحرقة الجديّة على مقاومة "إسرائيل" وإذلالها. وهو كذلك غضبٌ ينتج أحياناً عن حالة الغموض التي تُتخذ فيها القرارات دون توضيح ويُترك للناس التكهن والتحليل. 

اقرؤوا المزيد: "جولة غزّة الأخيرة: تصعيد على هيئة إسفين".

في هذا السياق، يُمكن القول مثلاً إنَّ كتائب القسام لم تتدخل لأنّها لم توافق على الهدف السياسيّ الذي وضعته حركة الجهاد للمواجهة، أو إنّ الحسابات الميدانيّة قدّرت عدم جهوزيتها لحربٍ جديدة خاصّة أنّها خرجت من واحدة قبل حوالي سنة (وقد يُضاف على ذلك القول أنّ القسام لم يخالف الجهاد فقط في تصوره حول الجولة الأخيرة، وإنما سبق وخالف قيادته السياسية في مايو 2022، عندما كثّفت تلك القيادة تهديداتها للاحتلال في حال اقتحام الأقصى وتنظيم مسيرة الإعلام). 

وهناك رأيٌ ثالث يقول إنّ الرغبة متوجهةٌ صوب أن تكون المعركةُ القادمة بتوقيت المقاومة لا بتوقيتٍ يفرضه الاحتلال، أو إنّ هذا التوقيت يجري التفكير بربطه بحسابات حربٍ إقليمية تكون المقاومة في غزّة فيه جزءاً من محور أوسع في مواجهة "إسرائيل" حتى تضمن إيلامها في أكثر من جبهة وتحصل على ضمانات إقليمية لمنجزات الحرب القادمة وهو ما كانت تفتقده على الدوام. 

فلسطينيون يشيعون جثمان الشهيد خليل أبو حمادة الذي استشهد في قصف لمخيم جباليا، أغسطس 2022، (مجدي فتحي/ نور فوتو)

يُقال كل ذلك وغيره في محاولة تفسير عدم مشاركة القسام في الجولة الأخيرة،‏ لكن كلّ ذلك يبقى في إطار التكهنات ما لم يجرِ التصريح به. كما أنّه لا يُمكن نقاش صوابها من خطئها ما لم يجرِ تبنيها، وهذه مشكلة الضبابية التي نعاني منها اليوم، والتي تترك الناس في حالةٍ من عدم وضوح الرؤيا والتخبط.

 أما الخطاب الثاني، فهو خطابٌ لاعلاقة له بالحاضنة الشعبية، بل هو أقرب لمن يُمكن أن نُسمّيهم "المرجفين في المدينة". يُريد هذا الخطاب من "حماس"، ومن فصائل المقاومة عموماً، أن يُقدّموا له بين الحين والآخر دليلاً إضافيّاً على أنّها ما زالت حركة مقاومة، وأنّها لم تخُن إرثها النضالي. وهذا الخطاب جاهزٌ عند كل مفترق أن يُشكّك ويخوّن، متجاوزاً بالكلام حدّ النقد إلى حدّ المزاودة. 

وأحياناً يحمل هذا الخطاب ذات الأشخاص الذين كانوا يخرجون بعد كل حرب يقولون: "هذه آخر الحروب ولن تجرؤ المقاومة على دخول المزيد: لقد دخلوا بتفاهمات نهائية، لقد اشترتهم المنحة القطرية، لقد أغرقتهم المنح والمساعدات! لقد انتهت المقاومة وهي اليوم أصبحت سلطة تحرس منافعها!"، وما إلى ذلك. إن هذا النوع من الخطاب لا يتكلّم حرصاً على استمرار المقاومة بل تعجلاً في دفنها، ويتعمد تكرار الحديث عن عثراتها.

خاتمة 

قد تبدو الأمور قاتمة وشديدة القسوة، إلا أنّ ذلك لا يمنع آفاقاً ممكنة للتفكير والعمل. فمن المهم أن لا تُترك الفصائل الفلسطينية المقاومة وحيدةً في إقرار المواجهات وافتعالها، بل أن يُسند هذا الجهد بجهدٍ شعبيّ مُبادرٍ وخلاّق، تماماً كما كانت مواجهات الأقصى عام 2021 بجهدٍ شعبيّ بوابةُ فصائل المقاومة في غزّة للتقدم، وبوابة كلّ الجهود الشعبية الأخرى في الضفّة والداخل والخارج.

اقرؤوا المزيد: القدسُ بعد عامٍ على هبّتها: كيف يُصانُ الأمل؟

كذلك علينا أن نتخلص من ذهنية أن على غزّة مسؤولية تحرير فلسطين. نعم لغزّة الدور الطليعي الأبرز، وهي قطعة حرّة تُحرّر روحنا ووعينا وتحفّزه، لكن علينا أن لا نُحوّلها لملعبٍ للفرجة ونصبح نحن جمهوراً من المتفرجين على الدوام. وهذا يعني ضرورة العمل بجديّة على تفعيل كافة الساحات، وهذه أولوية يجب أن لا نتوقف عن تذكير أنفسنا بها.

وفي النهاية، علينا أن نصون الأمل باستمرار ولا نخلط بينه وبين الوهم، وأن نعترف بأخطائنا في الوقت ذاته الذي نشحذ فيه إرادتنا للاستمرار وتجديد العمل. علينا أن نتذكر أنّ المعارك التي تجري على الأرض شديدة القسوة، وأشدُّ قسوةً منها هي تلك التي تهزم إرادتنا ووعينا، ذلك الوعي الذي عليه أن لا يرف للحظة عن حقيقة أنّنا قادرون على هزيمة "إسرائيل"، وإلا لاختفينا منذ زمن بعيد. علينا أن نذكر أننا ما زلنا هنا، ومن هذه الحقيقة الصلبة نستمد إيماننا الاخير أننا سنستمر.