بعد إطلاق سراحه من السّجن، يصل "آدم" إلى الكنيسة من أجل إعادةِ تأهيلٍ روحيّ أَمَرَت به المحكمة. يخبره راعي الكنيسة إيفان أنّ عليه إيجاد هدفٍ لنفسه، كي يشغل وقتَه أثناء فترة خدمته، وأنّ هذا الهدف والسعي له سيُشعِره بالرضى عن نفسه وعن مكانته في العالم. يسَخَر آدم من الفكرة. يسرح قليلاً قبل أنْ يجيب متهكّماً أنّه سيخبز فطيرةَ تفّاح. يوافق إيفان على ذلك. لكن على آدم أنْ يأتي بالتفاح من الشّجرة المزروعة في حديقة الكنيسة، ما يعني أنّ على عاتقه أيضاً الاعتناء بها، حتى يحين موعد القطاف بعد عدة شهور.
لكنّ شجرة التّفاح تتعرّض لهجومِ الغربان واليرقان والبرق والتعفّن، وهكذا يتحوّل الأمر بعدها إلى سلسلةٍ متفجّرةٍ من الأسئلة حول الخير والشّر، حول الله والشّيطان. وهي أسئلة يزداد وقعها مع إصرار آدم على استفزاز إيفان لخلع قناع الخير والإيجابيّة الذي يرتديه، وإقناعه بسوداوية الحياة وشرورها وفراغها من المعنى والقيمة.
تستعير الكثير من الأفلام، بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، التحليل النفسيّ، فيما تغرق غيرها في المجازات والاستعارات. وعلى ما يبدو فإنّ فيلم تفاح آدم - Adam’s Apples لمخرجه الدينماركيّ أندرس توماس جينسن Anders Thomas Jensen، قد اختار أنْ يسير في المسار الأول. نَجِدُ في مشاهد هذا الفيلم أثرَ سيجمون فرويد وكارل يونغ دون أن نبذلَ جهداً في التفكير بهما. وربّما نستطيع القول أيضاً إنّه واحدٌ من الأفلام التي تعطينا نظرةً أكثر قرباً على التحليل النفسيّ لمسألة الدين.
يرى الكثير من النقّاد أنّ أسلوب جينسن في فيلمه هذا تأثّر بإنجمار بيرغمان - Ingmar Bergman، بالأخصّ فيلمه ضوء الشّتاء Winter Light. بالتالي لا عجب في استعارة جينسن للتحليل النفسيّ كما اعتاد بيرغمان أن يفعل في أفلامه جميعها. كما أنّ أفلام بيرغمان كانت مسكونةً كذلك بالأفكار عن الله والشّيطان والدّين والخطيئة والخير والشّر، وغيرها. إلا أنّ ما يجعل فيلم جينسن، تفّاح آدم، أكثر إثارةً ليس تأثّره ببيرغمان فحسب، وإنّما في أنّه يضعنا أمام فيلمٍ ساخرٍ غير متوّقع؛ رموزه متطرفة، وأحداثه غير مبرّرة.
مُهمة الدّين الثُلاثيّة
رغم إيمانهِ وتقواه المُعترَف بهما، يبدو أحياناً أنّ إيفان، راعي الكنيسة، يفتقد للرحمة والتعاطف. هكذا مثلاً نرى في أحد مشاهد الفيلم رجلاً مسنّاً ينهض -أثناء العظة التي يُلقيها إيفان- لقضاء حاجته، فيوقفه الأخير ويسخر منه أمام الحاضرين، ويحتجزه لبرهةٍ من الزمن قبل أنْ يسمح له بالذهاب إلى المرحاض.
في مشهدٍ آخر، نراه يكذب على سارة؛ المرأة التي جاءت تَستَشيره حول جَنينها الذي قد يُولَد مُعاقاً، ولديها إمكانية إجهاضه قبل فوات الأوان. يحوّل إيفان القصةَ إلى نفسِهِ، فيُخبرُها أنّه قد ساوره نفس القلق حيال طفله بينما كان جَنيناً، لكنّه اليوم كأيّ طفلٍ عاديّ يذهب إلى المدرسة ويؤدّي واجباتِه. لاحقاً، تكتشف سارة أنّ طفل إيفان مشلولٌ بالفعل، فتشعُرَ بالخيانة والإهانة معاً.
خلال سير العمل، يتّضح أنّ الكثير من عالم إيفان -أو حتّى كلّه- هو مجرّد خيالٍ مبنيٍّ على اعتقاد الخير في كلّ شيء، وأنّ أيّ شرٍّ يحدث، إنّما هو اختبار الشّيطان له. زوجته مثلاً لم تمت بشكلٍ عرَضيّ، كما كان يُخبِر النّاس، لكنّها انتحرت. والدته أيضاً ماتت أثناء ولادته. أمّا والده، فقد اعتاد على اغتصابه هو وأخته بينما كانا طفلين صغيرين. وقد عاشت أختُه شبابها عاهرةً قبل أن تموت.
لكنّ إيفان يتغاضى كلّياً عن هذا وكأنّه لم يحدث أبداً. يسرد قصصاً ورديّةً عن ذاتِهِ وماضيه وحياته، معتقداً الخيرَ فيها. نجده في حالة إنكارٍ دائمةٍ لكلّ ما حدث ويحدث معه. وبما أنّ إيفان هو راعي الكنيسة، فإنّ هذا يجعلنا نطرح سؤالاً أساسياً حول العلاقة بين الدّين والواقع: هل الدّين هو شكلٌ من أشكال إنكار الواقع والحياة والتعامل معهما؟
يأخذنا السّؤال بشكلٍ مباشرٍ إلى فرويد، الذي اعتقد أنّ الدّين هو محاولة لأنسنة الطّبيعة ووحشيّتها التي لا تُقهر. فهو، أيّ الدين، خطٌّ عقليّ دفاعيّ ضدّ مصاعب الحياة وأزماتها وكلّ ما يراه الإنسانُ قاسياً. وهو يفيد الإنسان في مواجهته لتلك المصاعب من خلال البحث عن نوعٍ من الشّعور بالأمان والاطمئنان، يستطيع من خلاله الهروب من تلك الأقدار، أو التّصالح مع قسوتها؛ كأنْ يشعر -على الأقل- بأنّ هذه الكوارث من الممكن أن تحمل معنىً كبيراً وقيمةً عُليا.
في نظريته عن الدّين، نرى فرويد مُقتنِعاً بأنّ الآلهة تحتفظ بمهمّة ثلاثيّة يُفترض أن تؤديها؛ فهي تعمل أولاً على حماية الإنسان من شرور ووحشيّة الطبيعة، ثمّ تعمل ثانياً على مصالحته مع الأقدار الصّعبة، وتستطيع ثالثاً تعويضه عن الآلام والأوجاع وضروب الحرمان التي تفرضها عليه الطّبيعة والحضارة الحديثة. وبتلك التصوّرات الدينيّة، يشعر الإنسان أنه محميٌّ من كلا الجانبين: من العالم الخارجيّ وأخطار الطّبيعة والقدر، ومن الأضرار التي يتسبّب فيها المجتمعُ الإنسانيُّ وقمع الحضارة له.
إقحامٌ لا بدّ منه لعقدة أوديب
في كتابه "الطوطم والتابو"، استخدم فرويد عقدة أوديب الشّهيرة لشرح القوّة الهائلة للحياة الدينيّة، وما يرتبط بها من مشاعر الخضوع والالتزام والذنب والخوف، وغيرها. يفترض فرويد مرحلة من مرحلة ما قبل التاريخ البشريّ حين كانت القبيلة أو الجَماعة تتكون من الأبّ والأمّ والذرّية.
في تلك المرحلة، نال الأبُّ، بصفته رئيساً للعائلة أو القبيلة، حقوقاً حصريةً على جميع أعضاء قبيلته أو أبنائه. بالمقابل رأى هؤلاء أنّهم لا يستطيعون تحدّي سلطة والدهم، فقرّروا قتله. يرى فرويد أن هذه هي الجريمة الأساسية التي ولّدت الشّعور بالذنب؛ الشّعور المسؤول عن الكثير من التوتّر والعُصاب داخل النفس البشريّة.
في نهاية المطاف، تطوّر شعور الذنب إلى الموانع الأخلاقيّة والمعتقدات الأخرى الموجودة في الأديان. حيث أنّ الأبناء، بشعورهم بالذنب والندم، لا يستطيعون خلافة والدهم كرؤساء للقبيلة. لهذا السّبب، أصبحت شخصيةُ الأبّ، التي تطوّرت فيما بعد إلى فكرة الإله، قويّة في العقل الجَمعيّ البشريّ. ما يعني أنّ الناس أصبحوا متديّنين بسبب شعورٍ عميقٍ بالذنب، والحاجة إلى التكفير عن جريمة القتل، عن طريق الطّاعة والإذعان.
كان فرويد مقتنعاً بأنّ الدين هو نوعٌ من الوهم؛ وهمٌ محكومٌ بتحقيق رغباتنا وحاجاتنا البدائية العميقة لشخصيةٍ قويّةٍ وقادرة على إحداث الخير لنا، وحمايتنا من الأشرار من حولنا، وضروريّة لمساعدتنا في كبح جماح المحظورات في وقتٍ مبكّر من تطوّر الحضارة. وهي حاجة ممكنة التحقق الآن من خلال العلم والعقل. وقد أصرّ فرويد مراراً على أنّ الممارسات الدينيّة تساهم في إضعاف الفكر الاستقصائيّ. يجادل بأنه "لا يمكن لأيّ شيءٍ على المدى الطّويل أن يصمد أمام العقل والخبرة". وليس الإيمان الدينيّ بحد ذاته هو الذي يسبّب المشاكل، بل التوتر الحاصل بين الاحتياجات البشريّة والمُثل الحضاريّة.
السقوطُ المُتكرّر لسِفر أيوب
ثمّة مشهد يتكرّر أكثر من مرة في الفيلم. في كلّ مرة يُغلَقُ فيها بابُ غرفة آدم، أو تُدقّ أجراس الكنيسة، كانت نسخة الكتاب المقدس الخاصّة بآدم تسقط من على الطاولة، لتفتح دائماً على نفس الصّفحة؛ سِفر أيّوب. تُعجبني هذه الاستعارات الواضحة للكتب المقدّسة في الحياة اليوميّة. يروي النصّ الأصليّ للسِفر معاناة النبيّ أيوب المتكرّرة، اختباراً لإيمانه.
استخدم كارل يونغ يونج السِفر، تحديداً علاقة النبيّ أيوب مع الله، ككناية عن علاقة الإنسان مع المعاناة والآلام الحياتية. وفي عقده السبعين، أنهى اثنين من كتاباته؛ "الردّ على أيوب"، و"بين يهوه وأيوب" ونشرهما بعد ترددٍ وتأمل طويليْن كما يُخبر هو بنفسه، إذ يعلم تماماً حساسية الموضوع وجدلية المسألة والانتقادات التي سُتثار حوله. يحاول يونغ فيهما إعادة قراءة سِفر أيّوب من ناحية سيكولوجيّة، محلّلاً العلاقة التي جمعت اليهود بالله، ومُعتبراً أنّ السِفر هو العلامة المميّزة لتطوّر الصّورة الإلهية عندهم، والتي ترسّخت مع الزمن في عقول الناس وأذهانهم. وكتاباته تلك ليست في اللاهوت، بقدر ما هي دراسة للدور الرمزيّ الذي تلعبه القصص اللاهوتيّة في الحياة الشخصيّة للأفراد والمجتمعات.
في حين أن رواية فرويد للدين مختزلة أساساً بصراعات أوديب الطفوليّة مع الأبّ، فإنّ كارل يونغ، من ناحية أخرى، يلغي هذا التفسير ويتخذ منهجاً أكثر سموّاً -لكنّه غامضٌ بعضَ الشيء- في التعامل مع الدّين. فالدّين عنده ميولٌ روحانيٌّ وفطريٌّ، طبيعيٌّ وصحيٌّ. حسب يونغ، تشكّل هذا الميول عند النّاس، بشكلٍ لا واعٍ في مرحلة ما من التّاريخ، ثمّ مُرِّر ووُرِّثَ فيما بعد عبر "اللاوعي الجمعي". لم يكن فرويد مُعجباً بالفكرة أبداً على أية حال، ما أدّى إلى القطيعة النهائية بين الاثنين، بعد أن جمعتهما صداقةٌ فريدة من نوعها لعدة سنوات.
يأخذنا فيلم "تفاحة آدم" إلى الحالة التي كان عليها النبيّ أيّوب، ويجعلنا نتساءل فيما إذا كان الله سيضعنا أمام ظروفٍ شبيهة بتلك التي عاشها أيوب؛ ظروف هائلة من المعاناة والآلام التي لا يمكن تخيّلها، فهل سيثبت إيماننا بالقدر الكافي لنتمكّن من التكيّف والبقاء؟ أم هل سيُسحق إيماننا في أية لحظة؟ في هذا السياق، يرى آدم أنّ إيمان إيفان ليس قويّاً بما فيه الكفاية، وأنّه قائمٌ أساساً على محاولاتٍ عديدة من الهرب من الواقع وتلافي مواجهة الحقيقة. على مقربة من نهاية الفيلم، يبدأ إيفان بالشك. وكما كانت معركة أيوب بين الخير والشّر، تحدث معركة بين إيفان المؤمن وإيفان الذي بدأت الشكوك تتسلّل إليه.
من وجهة نظر يونغ، فإنّ أيوب لم يجعل من معاناته تورّطه في خصامٍ شخصيّ مع الله، فلم يعترض على بلاءاته. على العكس من ذلك، استعان أيوب بالجانب الخيّر من يهوه، وظلّ يبرّر ما يحدث معه ويستجدي حكمته في كلّ ما يحدث معه. وبكلمات يونغ، فإنّ هذا تفوّق أخلاق حقّقه أيوب بتحمّل البلاء والصّبر على المعاناة، وهو كذلك تفوّقٌ عقليٌّ لأنه عَلِمَ كيف يخاطب ربَّه دون اعتراضٍ على مشيئته وقدره.
سِفر أيوب، بالنسبة ليونغ، هو كتاب رثاء، على غرار الكتب الأخرى التي تتحدّث عن المعاناة والألم في الكتب المقدّسة. كما يستخدمه في تحليلاته النفسيّة لرسمِ صورةٍ بين الإنسان وظلّه، بين الظلام والنور، وبين الأضداد الموجودة في طبيعة "الإله" المزدوجة. وهو إذ يستكشف مفهوم الأضداد في جميع أنحاء الكتاب، فإنّ الإله بالنسبة له هو المسؤول عن الشرور في الحياة، تماماً مثلما هو مسؤول عن خيرها.
ولأنّه كان من الصّعب على الإنسان تصوّر الجوانب المتناقضة لله، فإنّه، كما يقول يونغ، خلق لنفسه فكرة الشّيطان المسؤول عن الشّرور والزلّات. لكنّ التطوّر في قصة النبيّ أيّوب، هو في أنّها تطوّرٌ للوعي أيضاً؛ إذ أصبح أيوب قادراً على دمج فكرة الخير والشرّ معاً، وذلك جعل "الله" حاضراً في وعيه أكثر من ذي قبل، ومكّنه من أن يتواصل معه بشكلٍ أعمق مع إدراكه للمعاناة الإنسانيّة في العالم.
الخيار لك!
في نهاية الفيلم، يعود إيفان لإيمانه شيئاً فشيئاً. هو مقتنعٌ بأنّ الله يعمل بطرقٍ غامضةٍ، وأنّ كلّ معاناةٍ فيها حكمته وخيره، كما حدث في الجزء الأخير من حياة النبيّ أيوب. لعلّ إيفان هنا يُخبرنا بأنّ فشل الإيمان أو تقلقله، قد يكون الشّرارة نفسها التي تُشعِلُه من جديد. وكما يصوّر الفيلم، ففي بعض الأحيان قد تكون الاختبارات هي أفضل ما قد يأتي في طريقنا، في حال آمنّا بالطرق الغامضة والخفية التي يعمل بها الله.
فيلم "تفاح آدم" كوميديا سوداء وهزليّة، يضع مخرجه على قائمة المخرجين الاسكندنافيين الموهوبين عالميّاً. وهنا لا أُخفي إعجابي بالنهاية السّعيدة وغير المبرّرة أبداً لأبطاله، وهم يستمعون إلى أغنيةٍ رومانسيّةٍ من مذياع السيارة.
لم يُجِب الفيلم على الكثير من الأسئلة كغيره من الأفلام، لكن بطبيعة الحال، فإنّ مجرّد طرح السؤال يكون -أحياناً- أفضلَ من الإجابة عليه. قد تفسّر آلامك ومعاناتك على أنّها تدخّلات إلهيّة ترى فيها حكمةً وخيراً قد تحمله معها فيما بعد، أو قد تراها كظواهر يمكن تفسيرها من وجهةٍ نظرٍ علميّةٍ وغير دينية إذا أُعطيتَ الوقت الكافي لذلك. الخيار لك!