4 سبتمبر 2024

برك سليمان: هل جفت ساقية القدس؟

برك سليمان: هل جفت ساقية القدس؟

"بُرك سليمان"، أو كما يصفها البعض "ساقية القدس"، تقع 5 كيلومترات إلى الجنوب من مدينة بيت لحم، وتحديداً في أراضي قرية أَرْطَاس، قريبة من مخيّم الدهيشة للاجئين. قد يتساءل المرء مستغرباً: ما علاقة القدس بهذا المكان الواقع أصلاً في بيت لحم؟ وقد يَرُدُّ البعضُ السببَ إلى أنّ الفلسطينيّ يميل إلى ربط القدس بكلِّ صغيرةٍ وكبيرة، لسببٍ أو لغير سبب. لكنّ هذا الوصف الذي تحمله البرك ليس مجرد ربطٍ عاطفيّ، إنما نشأت هذه البرك فعليّاً ضمن مشروعٍ لنقل المياه من بيت لحم والخليل إلى القدس.

الجنوب يسقي القدس

تتألف "برك سليمان" من ثلاث برك رومانيّة، حُفِرت بعضها في الصخر، وبعضها الآخر مبنيٌ من أحجار ضخمة. يُطلق عليها شعبيّاً: البركة الفوقا، الوسطى، والتحتا. تتدرج في الارتفاع والسعة (الفوقا الأقلّ  سعة، والتحتا الأكثر)، وتصبُّ كل بركةٍ في البركة التي تليها عبر قنواتٍ مائيّة.

وهذه البرك جزءٌ من نظامٍ مائيّ ضخم، أُسس في الأعوام ما بين 37 قبل الميلاد إلى 325 بعد الميلاد. كان الهدف أن تُجمع المياه القادمة من عين العروب وقناة وادي البيار في تلك البرك، ومن ثمّ تُنقل إلى القدس عن طريق قنوات أنابيب فخاريّة. وقد صُمّم هذا النظام ليزوّد القدس الفقيرة بمصادر المياه وحجاجها بما يحتاجونه من الماء.

في الرواية الشعبيّة ربطها الناس بالنبي سليمان عليه السلام، فقالوا إنّ "الجنّ والحيوانات ساعدوه في بنائها، وأنّ الجنّ ما زال يُحيط بالبرك ويحميها". وقد ذكرها الكاتب أسامة العيسة، ابن مخيّم الدهيشة، في روايته "مجانين بيت لحم"، إذ يروي قصة "المجنون" الذي أنهى حياته في البرك، تاركاً نظارته، والراديو، وعلبة السجائر على إحدى حوافها. وأشار الكاتب إلى أنّ من ابتكر فكرة البرك وبناها كان "مجنوناً" بطريقة ما أيضاً، والذي قد يكون بحسب أسامة الروماني هادريان. أما كتب التاريخ فتشير إلى أنّها جاءت نسبةً للسلطان العثمانيّ سليمان القانونيّ، والذي يُنسب له ترميم البرك وإعادة تشغيلها في القرن السادس عشر. 

ومن إسهامات العثمانيين في المنطقة، قلعة مراد، والتي بناها السلطان العثمانيّ مراد إلى الشمال من البرك بهدف حمايتها، وحماية القوافل المسافرة من الخليل إلى القدس عبر بيت لحم. 

وفي الفترة العثمانية كان يُطلب من أهل أَرْطَاس، بيت لحم وبيت ساحور، حراسة القنوات التي تمرّ من قراهم. ولأجل حماية البرك نفسها، سكن أهل أرطاس قلعة مراد، ففي عام 1838 ذكر إدوارد روبنسون في كتاباته أنّ بيوت القرية كانت بالمعظم مهجورة، إذ غادرها أهلها ليستقرّوا في القلعة لحماية البرك من أي هجوم.

الحياة التي تحوّلت إلى "خطر الموت"

يوماً ما كانت مياه البرك - التي تتجمع من مياه الأمطار - زرقاء صافية، لكنّها اليوم تميل إلى اللون الأخضر الداكن، بفعل ما يُحيطها من أشجار الصنوبر الخضراء ذات السيقان البُنية التي تعكس لونها على المياه، وأيضاً بفعل قلّة العناية التي تركت الطحالب تكسو الجدران بعدما هجرها الناس، أو هُجّروا منها لأسباب شتّى. 

يُحيلنا هذا المشهد إلى الماضي، فقد كان هذا النظام المائيّ سبباً رئيساً في التطور الحضري للمنطقة، إذ بدأ السكان في التجمع والبناء من حولها، وقرية أرطاس اليوم ودير الجنّة المقفلة هما دليل على ذلك. 

لوحة ارشادية من الحديد يملؤها الصدأ، تحذر من السباحة في البركة "ممنوع السباحة، خطر الموت، المياه مليئة بالمجاري"، حزيران 2023. (تصوير: يارا رمضان\ متراس)

تصف ماري إليزا روجرز، صاحبة كتاب "الحياة في بيوت فلسطين"، الذي وثّقت فيه زيارتها لبلادنا منتصف القرن التاسع عشر، البياراتِ المحيطةَ بالبرك أنّها مليئة بأشجار الرمان، والتين، والخوخ، والدراق، والتفاح، والبرقوق، وكذلك الكوسا والخيار، والبطيخ، والبندورة. كما أشارت روجرز إلى براعة أهل المنطقة في زراعة الوادي ومساطبه بالعدس، والفاصولياء، والبطاطا، والذرة الذهبيّة، وأشتال التبغ والسمسم. أما أشجار الصنوبر فهي دخيلة، رشّ بذورها المستعمرون، لتخفي أسفلها معالم قرانا، وليطردوا عنهم شعورَ الوحشة إذ يُذكّرهم الصنوبر بأوطانهم الأصليّة في أوروبا.

اقرؤوا المزيد: "كيف ابتلعت غاباتُ "إسرائيل" أراضينا المُهجّرة؟"

ثمّ جاء عام 1948، فتوقفت البرك عن توفير المياه للقدس على إثر النكبة، إذ أصبحت البرك وبعض من قنواتها تحت حكم الأردن، بينما وقعت مناطق أخرى تمرّ فيها القنوات، خاصّةً في القدس، تحت الاحتلال الإسرائيليّ. لكن في ذلك الوقت، استمرت عين العروب وقناة وادي البيار (تُسمّى راس العبدة محليّاً)، بتزويد المياه للبرك، دون أن تُكمل طريقها للقدس، وكان يستفيد منها سكان قريتي أَرْطَاس والخضر، وبعد ذلك سكان مخيّم الدهيشة. بعد النكسة ونتيجةً للأوضاع السياسية والإهمال المستمر للنظام المائي والبرك، توقفت البرك عن العمل. 

اليوم لا تزال بعض أراضي القرية تُزرَع ببعض المحاصيل، كأراضي دير الجنة المقفلة، كما أنّ مساطب قرية أَرْطَاس تُزرع بالخس في موسمه، حتى أنّ القرية تُقيم مهرجاناً للخس كلّ صيف.

ولكن على أثر الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة التي تجري على مختلف قرى فلسطين، وبفعل السياسات الاستعماريّة، تُركت وأُهمِلت الكثير من الأراضي الزراعيّة، بعد أن التهم جدارُ الفصل الكثير منها، وبعد أنّ أصبح العمل في الأراضي المحتلة عام 1948 أكثر جدوىً من الناحية الاقتصاديّة. لكن طوفان الأقصى بدّل الأحوال، فالبعض يقول إنهم عادوا لاستعادة مهاراتهم ومعرفتهم التي فقدوها مع السنوات، في مجال الزراعة، بعد أن مُنع منهم العمل في الداخل.

البركة الوسطى من وراء السياج، حزيران 2023. (تصوير: يارا رمضان/ متراس)
البركة الوسطى من وراء السياج، حزيران 2023. (تصوير: يارا رمضان/ متراس)

ذكريات أمام الاقتحامات

لا تنبع أهميّة الموقع من قيمته التاريخيّة ودوره في السقاية أو موقعه الجغرافيّ فقط، إنّما هو أيضاً جزءٌ من ذكريات أبناء قريتي أَرْطَاس والخضر ومخيم الدهيشة بشكلٍ خاصّ، والفلسطينيّ بشكل عام. فشباب المخيّم مثلاً تعلّموا السباحة في البرك في الثمانينيات، وكان أطفال المخيّم في تلك الفترة يتوجّهون في الشتاء للتحطيب من خشب أشجار الصنوبر هناك، ليستخدموها في تدفئة منازلهم. كما كانت البرك موقع تصوير مميّز للعديد من العرسان.

أما أهل أَرْطَاس فكانوا يتوضأون بمياه جدولها المتدفق منذ قرون، وكان نساء القرية، كما روت ماري أليزا روجرز، يتحلّقن حول المياه المنسابة، ويضعن أثوابهن البيضاء والأرجوانية وطرحاتهن على بلاطات ملساء تحت حافة البركة. 

وأمام هذه الذاكرة التي تواجه الاندثار، تشهد المنطقة اقتحامات متكررة للمستوطنين بحماية جنود الاحتلال، خاصّةً أولئك القادمين من مستوطنة "إفرات" القريبة، التي توسّعت في السنوات الأخيرة واقتربت بيوتها من البرك. تحمل هذه الاقتحامات معنى فرض الحضور في المكان، ومحاولة صبغه بصبغة يهوديّة دينيّة، تمهيداً للسيطرة عليه، وهو ما لا يُستبعد في ظلّ التوغل الاستيطانيّ الذي تضاعفت حدته وتوسّع بطشه بعد معركة الطوفان.

اقرؤوا المزيد: "خربة الطويل.. تلال الشفا التي تحرس السهول".

يحدث هذا بالتزامن مع انخفاض الحضور الفلسطينيّ فيها، بالذات من أهل المنطقة، بسبب حوادث غرق في البرك، وهو ما أدّى إلى تسييج البركة وفرض تقييد من الشركة المديرة للموقع الأثريّ على الأماكن التي يمكن زيارتها. نتج عن ذلك فصل المكان عن أهله، وأثّر على ارتباطهم اليومي به، فتحولت الزيارات من روتين يوميّ إلى زيارات عابرة، كأنّهم في زيارةٍ لمتنزه عامٍ، يُضاف إلى ذلك أنّ الدخول منوط بدفع دخولية.

إن لم تزر الموقع بعد، أقترح عليك زيارته خاصّةً في هذا الوقت الذي يسبقنا فيه المستوطن إلى كل قطعة أرض وإلى معالمنا الأثريّة والطبيعيّة. زره برفقة الأطفال، سابقهم على قذف الحجارة في البرك، واتركهم يضعون أرجلهم المتعبة من المشي في مياه النبع الباردة المنعشة، حتى تُطبع في ذاكرتهم علاقة وقصة شخصية تربطهم بالمكان، واحرص أن تعرف تفاصيل تاريخه فمن يعرف المكان وقصته يتمسك به أكثر فأكثر.



7 سبتمبر 2020
"شعب الله" في حيفا

على بُعد خطوات من بوابة حيفا الغربيَّة على الساحل، افتتح التمبلريون الألمان عام 1870 مستعمرتهم الأولى والأكبر في فلسطين، ونقشوا…