21 يوليو 2024

برقة: كلما اقتربت منها، ابتعدت أكثر

برقة: كلما اقتربت منها، ابتعدت أكثر

كلّما اقتربنا من بُرقة ابتعدنا أكثر، كنّا ندور حولها ولا نَصِلُها، كأنّ "أحدهم" يسرقها بعيداً عنا. بدلاً من التوجه في طريقٍ مباشرٍ من مدينة رام الله شرقاً نحو القرية، تُجبرنا المستوطنات التي تخنق القرية أن نسلك طريقاً آخر. نسافر شمالاً باتجاه مخيّم الجلزون ثمّ عين يبرود في الشمال الشرقيّ، ثم نرجع جنوباً عبر بيتين ودير دبوان، وأخيراً برقة، في رحلةٍ استغرقت 45 دقيقة.

لم ألتقط أنفاسي بعد حتى أصبحتُ كما أهل القرية، نترقب اعتداءً جديداً من المستوطنين في أي لحظة. هذا "الحدث" الذي تقرأه بشكلٍ شبه يوميّ في نشرات الأخبار حتى فقد "هيبته"، وربما تتجاوزه سريعاً، هو "حدثٌ" مُرعِبٌ وله تبعاته على أهل برقة. لا يكاد يمرّ اعتداءٌ كهذا إلا بتسجيل إصاباتٍ في الأرواح، أو بتخريبٍ للمنازل والممتلكات، أو بسرقة وقتلٍ للحيوانات، أو حتى بقطعٍ للأشجار وحرقٍ لها.

لم يقع ما توجّست، إذ شهدت القرية في ذلك اليوم هدوءاً نادراً، فاقتنصت الفرصةَ لأتجوّل فيها وأخبركم عن بعض مما تعيشُه في يومياتها، عن حصارها والمواجهة فيها، عن الراعي أبو علي، والشهيد قصي، وعن نوافذها المسلوبة. وهي يوميات باتت تتشارك فيها مع كثير من قرى الضفّة، التي تواجه تهديد التهجير حقيقةً لا مجازاً.

أراضينا: ننظر إليها فقط!

تلتصق منازل برقة ببعضها البعض، بينما يتسع الفضاء حولها. فضاء تسيطر عليه المستوطنات والبؤر الاستيطانية: بسغوت، "تل تسيون"، "كوخاف يعكوف"، "تسور هرئيل"، "رمات مغرون"، و"جفعات آساف" التي شرعنها الاحتلال حديثاً. وشرقي القرية، يمر شارع 60 الاستيطاني، يلتهم أراضي القرية، لكنه لا يسمح بوجود منفذِ منها باتجاهه. ولفرض مزيدٍ من السطوة، أقام المستوطنون في السنوات الأخيرة المزيد من البؤر الرعوية حول القرية، آخرها كان في شباط/ فبراير 2024. وفي 15 تموز/ يوليو 2024، نصب المستوطنون بيتاً زراعيّاً بلاستيكيّاً على قطعة أرضٍ تابعة لبرقة، وهو ما قد يتحوّل مع الأيام إلى بؤرة استيطانية إضافية، فمستوطنة مشرعنة.

اقرؤوا المزيد: "على هامش المستوطنة".

برقة، إحدى قرى رام الله الصغيرة، لا تتعدى مساحتها 20 ألف دونم، لم يبق لأصحابها إلا ثلاثة آلاف دونم منها فقط. لا يوجد للقرية إلا مدخل واحد، يُغلقه المستوطنون متى شاءوا، أما مدخلها الرئيس الذي يصلها بشارع 60، فقد أغلقه جيش الاحتلال قبل 25 عاماً، لتتضاعف المسافة التي يقطعها أهل برقة وصولاً إلى رام الله، من 10 كيلومترات إلى 25 كيلومتراً. وبذلك، فُصلت برقة عن امتدادها الطبيعيّ نحو مدينة البيرة، كما فُصِلَت أيضاً عن القرى المحيطة بها، وهذه بعض معاني الحصار.

من نوافذهم، ينظر أهالي برقة إلى أراضيهم، لكنهم لا يصلونها. من نوافذهم، يتفقدون أشجارهم التي نجت من مجازر الحرق والقطع، أو إلى تلك التي لم تنجو، فبعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، منعهم جيش الاحتلال من الوصول إلى تلك الأراضي الزراعيّة، ولأوّل مرّة لم يقطفوا زيتونَها، ولم يتذوّقوا زيتها. 

محرومٌ من الرعي.. محرومٌ من الظلّ

لم يعد الراعي أبو علي، نظام معطان (49 عاماً)، يغفو تحت ظلّ شجرةٍ، كما اعتاد أن يفعل بعد جولةٍ لرعي أغنامه. لا يُشعل النار تحت إبريق الشاي، ولا يعزف بشبابته. هو في قلق دائم، يدور ويدور، لا يهدأ لحظة، مرة يتفقد أغنامه، ومرة يحاول الإنصات لما حوله، تحسباً لهجوم جديد من المستوطنين. في ظلّ سعيهم للانتقام بعد معركة طوفان الأقصى، صعّد المستوطنون من اعتداءاتهم على برقة، وكان نصيب أبو علي أربعة اعتداءات، أشدّها وأخطرها في 22 أيار/ مايو 2024.

يروي أبو علي عن ذلك اليوم: "كنا قاعدين في أمان الله جوا دارنا، لما هجم علينا المستوطنين الساعة 8:15 مساءً، ولعوا الشعير والنخالة داخل المزرعة، ثم قتلوا واحدة من الأغنام، وجرحوا أخرى، وسرقوا اثنتين". منع حينها جيش الاحتلال أبو علي من الوصول إلى مزرعته، فاضطر أن يبقى واقفاً على بعد أمتار ينظر إليها والنار تلتهمها. في هذه الأثناء، حاصر المستوطنون عدداً من شبان القرية ممن استطاعوا الدخول إلى المزرعة لإطفاء الحريق، وأصابوا اثنين منهم بالرصاص.

أبو علي، الأب لسبعة من الأبناء، كسب سمرة وجهه لكثرة ما جاب مراعي شرق رام الله وصولاً إلى أطراف الغور، ممتهناً الرعي مثل جده ووالده. إلا أنّه يعيش اليوم ما يشبه الإقامة الجبريّة، تفرضها عليه اعتداءات المستوطنين، فأصبحت مناطق رعيه مقصورةً على ما اقتربَ من منزله، وهي المناطق التي تضيق عليه وتسلب منه المزيد من المساحة يوماً بعد يوم. 

هكذا مثلاً، على بعد أقلّ من كيلومترٍ واحد من منزل أبو علي، أقام المستوطنون قبل عامين بؤرة استيطانيّة، وقد باتت منطلقاً لهم لشنّ اعتداءاتهم على القرية. في 7 نيسان/ أبريل 2024 مثلاً، وبينما كان أبو علي يرعى أغنامه، هاجمته مجموعة من المستوطنين بعُصِيّ حديدية، وذبحوا أربعةً من أغنامه. بالمزيد من البؤر والمزيد من الاعتداءات، يحاولون توسيع حدود استيطانهم، وهي حدود ليست بالضرورة على شكل سياجٍ أو جدار اسمنتيّ، ولكنهم استبدلوها بجدار غير مرئي من الخوف يُلقونه في قلوب الناس. 

يُشير أبو علي تارةً إلى منزله، وتارةً أخرى إلى البؤرة: "هم إلهم سنتين هان، احنا من مئات سنين، هاي أرض أبونا، وجدنا، وجد جدنا، احنا صحاب الأرض من بعد ربنا (..) بدهم إيانا نترك الدار والأرض، احنا بنتركها بس للقبر". 

نوع نافذتك يفرضه المستوطن!

"احنا بإذن الله صامدين"، يردّد أبو علي، ولا يُخفي شعورَه بالخوف، ولا يُخفي أيضاً شعوره بالوحدة، إذ تزداد اعتداءات المستوطنين عنفاً مرّة تلو الأخرى، ويزداد عددهم، وتزداد جرأتهم بالتقدم نحو منازل القرية. وما زال أبو علي وأهالي برقة، يصدون وحدهم، بتجمهرهم، وبحجارتهم، اعتداءات يشنّها المستوطنون بالرصاص والنار.

في ظل هذا الخوف، بدأت بعض العائلات بتركيب ألواحٍ حديدية (على شكل سياج) على نوافذ منازلهم، حتى أولئك الذين يسكنون وسط القرية. هو الهاجس من أن تتكرر مجزرة عائلة الدوابشة وأن يُحرقوا نياماً. هكذا، استولى المستوطن حتى على النافذة، وأقام حدود بؤرته عليها. 

في منزل أبو علي، حضر الحدّاد وبدأ بتركيب الألواح على نوافذ الطابق الثاني. وبينما ذهب أبو علي لجلب أغنامه، كنت وابنته في الخارج نراقب الحدّاد وهو يُغلق نافذة جديدة، فيما نحن نختنق أكثر، ونشعر بانقطاع الهواء؛ هذا الخوف الذي زرعه المستوطن بناره. ومن خلفنا، كانت ترنّ أجراس أغنام أبو علي معلنةً عودتها إلى داخل البركس، رغم أن الشمس ما زال تتوسط السماء، إلا أن تأخرها أكثر خارج المنزل يُهددها باعتداء المستوطنين، وهو ما يشتد غالباً في المساء والليل. وهكذا، سلب المستوطن الزمن من الراعي، كما سَلَبَه المرعى. 

شهيد برقة الشجاع

"شجاع وبطل وشهم.. أنا بفتخر وبعتز بابني"، تُعدّد رفيقة توفيق (50 عاماً) صفات نجلها الشهيد قصي معطان، أصغر أبنائها السبعة. طيلة حديثها، لا تتوقف رفيقة عن وصف قصي بـ"الشجاع"، وتزيد: "كان محبوباً، لم يكن يرفض طلباً لأحد.. ربنا حبه واختاره".

استشهد قصي في 4 آب/ أغسطس 2023، في يوم جمعةٍ ظنّ أهالي برقة أنه سيكون هادئاً، وكان قد قرر فيه قصي وأصحابه تناول العشاء سوياً في منطقةٍ بريّة قريبة على القرية، إلا أن خبراً وصلهم قطعهم عن ذلك: هجم المستوطنون على القرية! لبّى قصي ورفاقه النداء، وتوجهوا لصدِّ هجوم المستوطنين. 

50 مستوطناً هجموا على برقة في ذلك اليوم، وبدؤوا بحرق أشجار زيتون في أراضيها من الجهة الغربية. وما إن وصل أهالي القرية، حتى بدأ المستوطنون بإطلاق النار، فكانت الرصاصة الأولى من نصيب قصي، ليُصبح أول شهيد في القرية، وأول ابن لبرقة يقتله المستوطنون. وقد لفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي شقيقه حسن، الذي كان بجواره. من تلك اللحظة، عرف أهالي برقة جيداً، أن قصي لن يبقى شهيدهم الوحيد، وأنهم أمام مواجهة ستشتد مع المستوطنين المسلحين. 

الساعة الرابعة عصراً، حضرت الحافلة التي تقلّ أهالي برقة إلى رام الله، ثمّ تعود الساعة السادسة مساءً من رام الله إلى برقة، وبعدها يتوقف خطّ المواصلات إلى صباح اليوم التالي. صعدتُ إلى الحافلة لأغادر القرية، وكان الركّاب يشتركون في سؤالٍ واحد: هل مدخل القرية مفتوح؟ هل تتوقعون هجوماً من المستوطنين؟ بجواري، جلست أمٌّ هاتفتْ أطفالها لتؤكد عليهم مجدداً أن يبقوا الأبواب والنوافذ موصدة. وفي المقعد الخلفيّ شاب يطلب من صديقه أن يتصل به إذا هجم المستوطنون ليعود سريعاً. 

لحسن الحظ، لم يكن المدخل قد أُغلق بعد في ذلك اليوم، خرجت الحافلة بعددٍ قليل من أبناء برقة سيغيبون ساعاتٍ قليلة، تعتمل في قلوبهم مشاعر القلق والانتظار لأي خبر قد يرد من القرية، ولا تهدأ قلوبهم إلا بعودتهم والاطمئنان أن برقة ما زالت مكانها.