26 فبراير 2024

"بحثت عن قطة فلم أجد".. عن تجويع الشمال

"بحثت عن قطة فلم أجد".. عن تجويع الشمال

"أخرج من البيت كل يوم صباحاً، أواصل السير في الشوارع والحارات حتى وقت المغرب لعلي أجد شيئاً للأكل، ولا أجد سوى قليلاً من التمر والليمون والبسكويت.. حتى أنّي أبحث عن قطة لصيدها وتناولها فلا أجد"، هكذا قال حسن لـ "متراس".  

حسن (37 عاماً)، من سكّان مدينة غزة، واحدٌ من الصامدين الكُثر (حوالي 300 ألف) في شمال قطاع غزّة. وهو إذ يتحدث عن نفسه، يصف حالةَ مجاعةٍ منظّمة تضرب الشمال، تُنفِّذها "إسرائيل"، وتتواطأ معها دول ومنظمات1حسن اسم مستعار، للحفاظ على خصوصية الشخص بناء على طلبه.

التجويع في الشمال سياسة انتقام وعقاب جماعي إسرائيلي، للذين فضّلوا رعب البقاء والصمود في بيوتهم وأحيائهم والموت السريع بالقصف الجنوني أول الأمر، على تمرير مخطط التهجير والموت ألف مرة بالاعتقال والنزوح والتكدس والاصطفاف على طوابير الماء والمعونات والكهرباء ومحلات الصرافة والبحث عن فراش وخيمة يؤون إليها. 

يسارع الإعلام إلى تغطية كل نبأ عن قصف هنا أو غارة هناك، عن تقدّمٍ للآليات أو اشتباك في أحد الأحياء، لكن كلمة "المجاعة" ظلت لغزاً غير مفهوم، تعجز الأخبار وعواجلها عن رسم حقيقتها، وعن رصد الحرب الدائرة في شمال القطاع، والتي تقتل الناس ببطئ دون صخبٍ أو دوي انفجارات. ومما يزيد الطين بلّة، افتقار معظم أحياء الشمال لمراسلين صحفيين، ولكهرباء وشبكات إنترنت قادرة على إيصال حقيقة الصورة، حتى ولو كانت صورة بجودة ضعيفة! 

الجوع.. لواء عسكري يحتل الشمال 

نحو خمسة شهور مضت على حرب الإبادة، صار خلالها شمالُ القطاع حقلاً للتجارب الإسرائيلية. في البداية فصلوا الشمال عن وسط القطاع وجنوبه، ومسحوا أحياء وعائلات بأكملها، وهجّروا مئات الآلاف من الناس، ثم الآن يُشهِرون وبشكلٍ غير مسبوق سيفَ التجويع لمن تبقى من السكان، الذين ينزحون باستمرار من حيٍّ إلى حيّ، في حركة مدٍّ وجزر مرتبطة بتقدم آليات الجيش الإسرائيلي أو تراجعها. 

اقرؤوا المزيد: غزّة.. كيف نقرأ جغرافيا المعركة؟

حتى الشهور الثلاثة الأولى من العدوان، تناسى الشمال شبح المجاعة الذي زحف إليه رويداً رويداً، وذلك أمام جحيم الموت المنصب عليه من السماء، بالأحزمة النارية، وتدمير المربعات السكنية على رؤوس أهلها، وتغوّل آليات الاحتلال وجنوده. ومع احتلال مستشفى الشفاء، ونزوح مئات الآلاف نحو الوسطى والجنوب، ظل ما اختزنته بيوت أهالي الشمال من معلبات وبقوليات وطحين وغيرها، ذخيرةً لمن قرر البقاء في بيته، ومُؤنَتَه لأيامٍ أو أسابيع. وقد تشاركت البيوت ما تبقى فيها، واجتمع الجيران وضيوفهم من النازحين على موائد مشتركة، قبل أن تنفد هذه المؤن في ظل استمرار الحصار وعزل الشمال. 

أطفال يبحثون عن الحبوب بين الأكياس التالفة وعلى الأرض، لإعداد صحن "شوربة"، في ظل التجويع والحصار الذي يفرضه الاحتلال على شمال غزة، 25 شباط\فبراير 2024. (المصدر: شبكة قدس)

علت بعدها غريزة البقاء، فأصبحت الدكاكين والمحال التجارية ومخازن التجار والبيوت التي قصفت أو هُجّر أصحابها منها؛ عناوين للبحث عمّا تبقّى صالحاً للأكل من مؤونة، وهي كذلك سرعان ما نفدت.

"لولا الحرامية علينا لمتنا من الجوع"؛ يقول شاب من سكان الشمال لـ "متراس". ومن يقصدهم، هم أولئك الذين امتهنوا عملية البحث طوال اليوم عن مخازن أو مستودعات لتحصيل كل ما يمكن تناوله من أطعمة، وافترشوا بها الأرصفة لبيعها بأثمان مضاعفة، أو هؤلاء الذين تمكّنوا من انتزاع ما يزيد عن حاجتهم من قوافل المساعدات، ليُعيدوا بيعها للسكان.

ماذا يأكل المرابطون؟

كلّ شيء. وهذه الإجابة، على نقيض ما قد يفهم منها، هي دليل على انعدام الخيارات وبؤسها، إذ صار كل ما يصلح لأن يدخل أفواه الجياع والأمعاء التي يعصرها الجوع طعاماً يُبحث عنه ويُشترى ويُتسابق للحصول عليه. 

فبعدما نفد القمح والدقيق من شمال القطاع، بدأ الناس في الشمال بطحن الشعير والذرة، ثم بالتفتيش في مزارع الدواجن والأبقار ومخازن مربيها عن التبن، وأكياس العلف التي يقومون بتنقية حبوب الذرة والقمح والشعير منها لطحنها وإعداد الأقراص التي تسمى زوراً بـ "الخبز".

كذلك، راح الشبان يبحثون في المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال، عن أكل تركه الجنود وراءهم. فيما حاول آخرون إزالة أنقاض البيوت المدمرة بأيديهم، بحثاً عن مؤن دُفنت. وعلى امتداد حارات الشمال وأحيائه السكنية، يطوف المئات لساعات طويلة، بحثاً عن كيس أرز أو طحين، أو معلبات وسكر، أو حتى عن ورقيات كالخبيزة.

ويغامر آخرون بالبحث فيما تبقى من بيارات بيت لاهيا وشرق جباليا، عن ثمار الليمون والحمضيات على أغصان الأشجار التي نجت من التجريف والأحزمة النارية، وقد تعرّض أولئك للاستهداف من آليات الاحتلال، فاستُشهد بعضهم وأصيب البعض الآخر. 

وجبة واحدة؛ هي أقصى ما قد يناله المرابطون في الشمال، أطفالاً ونساءً ورجالاً وشيوخاً، وقد يمتد الجوع بهم دون تناول لقيمات لأيام عدة. 

هكذا، وبين انسحابين متتالين لألوية الاحتلال من أحياء مدينة غزة، لم يتغير من المشهد المأساوي على الأرض، سوى موقع كمائن الطحين، التي انتقلت من دوّار الكويت على شارع صلاح الدين جنوب شرق المدينة، إلى شارع الرشيد الساحلي غربيّها، وذلك مع انتقال مكان وصول شاحنات المساعدات الإنسانية، والتي يقل عددها -القليل أصلاً- باستمرار. فيما يُصبح آلاف الكرام الذين طحن الجوع أمعاءهم والمتجمّعين حول هذه الشاحنات، عرضةً لقنص رشاشات الدبابات الإسرائيلية وطلقات "الكواد كابتر" ورمايات الزوارق الحربية. 

يُحكم الاحتلال اليوم الإغلاق على الشمال. لم تعد هناك مسارات أو ممرّات لمن يريد النزوح من الشمال إلى الجنوب، كما كنا نسمع من قبل. هذا معناه، أن "إسرائيل" قررت ألّا تهجر أهل الشمال الذين أفشلوا مخطط التهجير في أيامه الأولى، بل قرّرت قتلهم بالجوع، لتدفيعهم ثمناً باهظاً على صمودهم.

كيف تُرك الشمال وحيداً؟

13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ هو اليوم الذي ألقت فيه المنظمات الدولية أكثر من مليون مدنيّ فلسطينيّ من سكان شمال القطاع، في أتون الجحيم الإسرائيلي. جهّزت هذه المنظمات سيّاراتها، وأخذت طريقها إلى الجنوب، في استجابة فورية لأوامر جيش الاحتلال، معلنةً تخليها الكامل عن مسؤوليتها القانونية والأخلاقية تجاه السكان. هكذا تُرك الشمال وأهله، منذ البداية، فريسةً لتوحّش "إسرائيل". 

اقرؤوا المزيد: كيف تتواطأ المنظّمات الأممية على العدوان على غزّة؟

خلال الشهر الأول من موجة القصف الجويّ الأعنف في تاريخ فلسطين، طالت القنابل الخارقة للتحصينات كل معالم الحياة الإنسانية في شمال قطاع غزّة؛ من مقار حكوميّة أو خاصّة، ومرافق خدماتية واقتصادية، ومشافٍ وآبار مياه ومخابز ومستودعات ومحال تجارية، وذلك بهدف تحويل الشمال إلى مكانٍ لا يصلح للحياة الآدمية. وبشقّ الأنفس، حاول الجهاز الإداري التابع لحركة "حماس" البقاء على قيد الوجود، إلى أن حلّت ساعة الاجتياح البريّ الذي لم يتصوّر أحد المدى الذي يمكن أن يصل إليه. 

ومع احتلال مستشفى الشفاء في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، نزحت معظم وكالات الأنباء والقنوات الفضائية، وغابت المؤتمرات الصحفية الرسمية اليومية، وأصبح الشمال من بيت حانون إلى غزة، تحت حُكم معركة الاشتباك والبقاء. 

وبعد انتهاء الهدنة الإنسانية المؤقتة (24 - 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) واجتياح الاحتلال محافظة خان يونس، انسحب الاحتلال من مناطق واسعة في شمال القطاع وتراجع إلى نقاط تمركز رئيسية في الشمال الغربي والشرقي وفي موقع مستوطنة "نتساريم" البائدة جنوب غرب مدينة غزة، فدبت الحياة على مهلها في كل حي تراجعت منه الدبابات الإسرائيلية، وبدأت عجلة السعي للبقاء تدور ببطء في ظل الحصار المتواصل الذي غرس مخالبه عميقاً في أجساد أهل الشمال.

هكذا، انتبه أهالي الشمال فجأة أنهم تركوا وحدهم، بعد أن جرى عزلهم عن كامل القطاع، وقطع الغذاء والماء والدواء والوقود عنهم. انتبهوا أن الظروف التي تركها العدوان على مدنهم وأحيائهم، لا تصلح للحياة الآدمية، فلا تبدو أي معالم لمدينة نابضة بالحياة كانت هنا. من ذلك مثلاً، سجّلت بلدية غزة في آخر إحصائياتها، تدمير نحو مليون متر مربع من الطرق والشوارع و260 ألف متر طولي من حجر الأرصفة، ومئات آلاف الأمتار من خطوط المياه والصرف الصحي، وكوابل الكهرباء والاتصالات وغيرها. وما يجري على غزة، يجري على جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا وغيرها.

مع كل ذلك، هناك محاولات لإعادة تنظيم الناس واستعادة شيءٍ من السيطرة على الأوضاع، سواء من خلال أجهزة الشرطة والبلدية أو من خلال مبادراتٍ ولجان شعبيّة. ففي مخيّم جباليا مثلاً، ومع الانسحاب الأول لجيش الاحتلال منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2023، ظهرت قوات شرطية لأول مرة منذ بدء الحرب، وتجوّلت بزيها الرسمي على الملأ داخل حدود المخيم، وكذا في مطلع شباط/ فبراير الجاري. وفي المخيم أيضاً، تشكّلت لجانٌ شعبيّة عملت على تنسيق جهود الإغاثة وطهي الوجبات وجمع المواد الغذائية والسعي لضبط الأمن، وملاحقة اللصوص والمشبوهين، وحتى إسعاف الجرحى وانتشال العالقين تحت الأنقاض ومساعدة طواقم الدفاع المدني والإسعاف. 

هذا هو المشهد الذي تخشى عودته "إسرائيل" في قطاع غزّة، وتحديداً في الشمال، فتواصل استهداف سيّارات الشرطة وجرّافات البلدية، لتحاول منع أي شكل من أشكال استعادة الناس عافيتها. 

قطاعات غزّة؟

بعد أسبوعين على حرب الإبادة الجماعية، دخلت أول قوافل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة. أما الشرط الإسرائيلي، فكان: اقتصار دخولها على جنوب القطاع، مع تهديد بقصف واستهداف أي شاحنة تحاول الوصول إلى الشمال. 

لاحقاً، وبعد نحو خمسين يوماً على الحرب، كسرت مقاومة الناس والمجاهدين قيد المساعدات عن الشمال بعض الشيء، ومع ذلك ظلّ ما وصله منها عبارة عن مساعداتٍ شحيحة في كمّيتها ونوعيتها. فعلى سبيل المثال، من 1 - 10 كانون الثاني/ يناير الماضي، أدخلت إلى الشمال 3 شاحنات فقط من أصل 21 شاحنة مساعدات إنسانية كانت مخصصة لمناطق شمال وادي غزة.

وفي 12 شباط/ فبراير الجاري، صرّح المفوض العام "للأونروا"، فيليب لازيني، بأن الوكالة لم تتمكن من إدخال المساعدات إلى شمال القطاع منذ 23 كانون الثاني/ يناير الماضي، مشيراً إلى أن "إسرائيل" رفضت منذ بداية العام الجديد نصف طلبات المساعدات التي تقدمت بها الأمم المتحدة لإيصالها إلى الشمال.

لم يقتصر مخطط تجويع الشمال على قرار منع دخول المساعدات، بل وصل إلى حد قصف واستهداف الشاحنات التي تحمل هذه المساعدات، والتي كان آخرها في 5 شباط/ فبراير الجاري، حينما قصفت زوارق الاحتلال شاحنة لـ "الأونروا" على الطريق الساحلي غرب غزة. دفع ذلك "برنامج الأغذية العالمي" لإعلان وقف إيصال المساعدات إلى الشمال لثلاثة أسابيع كاملة، قبل محاولة استئنافها في 19 شباط/ فبراير، حيث تمكن البرنامج من إيصال شاحنة واحدة إلى الأطراف الجنوبية الغربية لمدينة غزة، والتي أحيطت بآلاف الجوعى. 

في اليوم التالي، زعم البرنامج تعرض شاحنة مساعدات متجهة إلى الشمال للسلب والنهب قرب مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ليُعجّل بعدها بيوم بإعلان تعليق عمليات توزيع المساعدات في شمال القطاع إلى حين "توافر الظروف التي تسمح بالتوزيع الآمن"، وفق بيانه.

أما فيما يخص الوقود، قام "مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" خلال النصف الأول من شباط/ فبراير الجاري، وعبر 25 مهمة من أصل 42، بإيصال 450 ألف لتر من الوقود إلى مناطق جنوب القطاع، بينما سمح الاحتلال بإيصال 38 ألف لتر فقط من الوقود إلى مناطق شمال الوادي، عبر مهمتين اثنتين من أصل 21، كما ورُفضت كل مهمات إيصال الوقود إلى الشمال لصالح محطات ضخ المياه والصرف الصحي البالغ عددها 16 مهمة.

إنّ الناظر في مشهد إدارة الاحتلال لعمليات الإغاثة على امتداد قطاع غزة، يلاحظ كيف تحوّل القطاع إلى كتل مجزّأة، يفاضل بينا الاحتلال وفق تقديراته الميدانية ومخططاته، وقدرته الكاملة على التحكم بالمنظمات الإنسانية الدولية وعملها على الأرض، والتي تلتزم بكل شروطه وقراراته.