2 نوفمبر 2023

انتحار الجيوش العربية

انتحار الجيوش العربية

لعل الإجابة عن أسئلة الأطفال الفلسفية والوجودية من أصعب ما يواجهه الكبار دوماً. فلم تُجهّزني عشراتُ السنوات من العيش بين الكتب، وتأملِ التاريخ، للإجابة عن أسئلة ابني ذي السنوات السبعِ، في هذه الأيام. فبعدما فهِم أن غزة تحدّ مصر سأل: أليس في مصر جيش؟ وما زال ينتظر الإجابة مني. كما لم أستطع أن أشرح له أني كتبت قبل سنوات عن موت الجيوش العربية.

ففي صباح 14 آب/ أغسطس 2013، تحرّك رتلٌ  من المصفحات المصرية باتجاه نقطة وسطَ القاهرة. بدأت المصفحات وجنودها يدكّون آلافَ الخيم التي يتجمّع داخلها عشرات الآلاف من المواطنين المصريين المطالبين باحترام قيم العدل والشورى. وبعد إطلاق الرصاص الحي لساعة تقريباً، وسقوط مئات القتلى، كانت مجموعة من الجنود تحاول دخول أحد المستشفيات الميدانية، فاعترضتْ ممرضتان طريقَ الجندي ووضعتا جسميْهما درعاً دون دخول الجنود من الباب، مراهنتيْن  على أن بين جنبيْه قلباً ينبض. كانت المفاجأة أن قلبَ الجندي نبض بالإنسانية، فتراجع. لكن، نزل الضابط الذي كان يرقب المنظر من فوق دبابته وأشهر مسدسه مُطلقاً النار على الممرضتين، فسقطتا مُضمّختيْن  بدمائهما. ثم التفت إلى الجندي وأمره ورفاقه بالمرور على جثتيهما، والدخول إلى المستشفى حالاً. 

ومع تمكّن الضابط وجنوده من الانتصار على الممرضتين، فإن التاريخ كان قد أعلن تلك اللحظة انتحار الجيش المصري إلى أبد الآبدين. وقل نفس الشيء عن بقية الجيوش العربية كذلك. ولعل متابعةَ الضجة الكونية اليوم بشأن الإبادة في غزة، وبسالة المقاومة، ومراهنتها على الشعوب العربية والمسلمة بدل الجيوش، تَذكارٌ آخر بأن تلك الجيوش قد ماتت منذ أزمان.

مصريتان تعتصمان، في 8 يوليو 2013، أمام الجيش المصري الذي يحاصر مقر الحرس الجمهوري في القاهرة، ويمنع الوصول إليه، بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي.

إن الإنسان العربي لا يسمع منذ عشرات السنوات عن جيوشه إلا الهزائم، ولم تقدّم له إلا المشانق والإذلال. فقد تعرّف العربي على جيوشه خلال العقود الماضية من خلال الصور التالية:

الصورة الأولى؛ ضابطٌ نحيل القسمات، مهلهلُ اللغة مُتَكَلّفُها، يظهر فجأة على شاشة التلفزيون معلناً انقلاباً عسكريّاً وميلاد “ثورة”. ثم لا يلبث الإنسان العربي أن يكتشف أن الضابط الذي ألقى "البيان رقم واحد" ليس إلا ذئباً في مسلاخ إنسان، ويجد أن جيشه الباسل ما هو إلا قيدٌ صمّم ليدمي معاصمَ العربيات، ويكبل أرجل نبلاء العرب الراكضين ليكون للأمة العربية مكان. تكرّرت تلك الصورة كثيراً في سوريا والعراق والسودان ومصر واليمن وموريتانيا وليبيا وغيرها، وتكررت صور منها في معظم ديار العرب.

الصورة الثانية؛ صورة الجندي العربي رافعاً راية بيضاء، يُساق إلى الموت وهو ينظر. صورة الجندي العربي النحيل البائس المنهزم، يسوقه جندي إسرائيلي واثق من نفسه، أو جندي أميركي ضخم الكراديس قويّ البنية منتصب القامة. ثم يرى العربي لاحقاً أنّ هذا الجندي الصهيوني يذلّه المقاومون الهواة في جنبات القدس، وحارات رام الله، ويضع جنود القسام أرجلهم على رقبته وهو محاط بآلياته ودباباته داخل حصونه. ثم يرى أن ذلك الجندي الأميركي ذا الكراديس يتلهّى به شبان الأفغان بين جبال ووهاد أفغانستان، ويذله فُتوات الأحياء في الفلوجة.

إن الجنود في الخيال الجمعي لأبناء الأمم رمزٌ للعزة والكرامة؛ يستحضر المواطن صورها مع أفعال إيجابية من قبيل الإنقاذ في لحظات الكوارث، والانتشال من أماكن الخطر والانفلات الأمني في البيئات البعيدة عن الوطن، ومقاومة العدو المهاجم.

الجيش الإسرائيلي يعتقل عشرات الجنود المصريين خلال حرب الأيام الستة عام 1967.

الصورة الثالثة للضابط العربي في ذهن مواطنيه أنه تاجر جشع، يضايق الأمهات في أسعار حليب أطفالهن في البقالات، وينافس الحمالين البؤساء في أسواقهم بتجارته وشركاته وحمّاليه. فصورة الضابط - التاجر الجشع المنافس في السوق صورةٌ ثابتة يستحضرها العربي عندما يفكر في ضباطه ابتداءً بموريتانيا وانتهاءً بمصر. حتى إن "دير شبيغل" الألمانية نشرت مرة تقريراً عن الجيش المصري بدأته بهذه البداية الطريفة محاولة تقريب حالة الجيش المصري لذهن القارئ الألماني: "تخيل أنّ الجندي الألماني يقضي يومه يخيط الملابس ويبيع اللحوم ويحرس صالات الفرح بالليل"، ثم بدأت تفصل طبيعة تجارة الجنرالات التي جعلتهم يسيطرون على خمسة وستين بالمائة من الاقتصاد المصري.

إنّ من مشاكل العربيّ مع جيشه أيضاً أنه حطم صورة المقاتل العربي الباسل تاريخياً في أذهان المعاصرين. فمع أن دارسي التاريخ كانوا يقفون حيارى لدى تحليل المعارك التي قادها العرب منذ دخولهم التاريخ مع مجيء الإسلام، ويحارون لقصص الفروسية العربية المعروفة عن العربي الشّهم وفرسه السريعة وصبره على مقارعة الأقران. فهذه الصورة بدأت تتبدد بسبب هذه الجيوش التي لا تتنصر إلا على العُزَّل في الساحات العامة، أو على المسجونين المكبلين في الزنازين المعتمة.

لقد قضت تلك الجيوش خلال العقود الماضية على صورة العربي الشجاع لدرجة أنّك لو وضعت في محرك غوغل بالإنكليزية: "لماذا الجيوش العربية…" لتطوع المحرك لإكمالها بـ "لا تستطيع الانتصار في الحروب؟"، وذلك لكثرة ورود السؤال بتلك الصيغة على المحرك. فلا تعرف محركات البحث عن الجيوش العربية إلا الهزائمَ والتجارةَ والانشغالَ بالسياسة. فهي أحزاب سياسية ونقابات تجارية، لا غير.

لقد غطت صور هذه الجيوش الهزيلة على حقيقة المقاتل العربي الباسل، ولم تترك لفتيان العرب مكاناً يبرزون فيه شجاعتهم الفطرية إلا في المعارك الخاطئة والساحات المشبوهة. لكن فصائل المقاومة في فلسطين اليوم ترمّم تلك الصورة، وتعيد للفتى العربي صورته الأصلية السليبة، وللبدوي عنفوانَ النار التي تضطرم بين جنبيه. فصورة العربي عن ذاته تاريخياً أنه لا يُهزم، وإن فرّ فَلَهُ كَرة. فما كان العربي يرضى بالدون ولا الفرار من ساحات الوغى، وما كان الجندي العربي يرفع يده لصفع امرأة من نساء العدو؛ فكيف بقتلها في القاهرة وهي تعالج الجرحى، وما كان للجندي العربي أن يتفرج على نساء غزة وهن يحصدن بآلات الفناء صباح مساء.

ترتبط الجيوش في أذهان الأمم المعافاةِ في أنظمتها السياسية بالتقدم التكنولوجي والاكتشافات العلمية وارتياد عوالم الإبداع الفسيح. فالأميركي عندما يفكر في جيشه يتذكر إسهاماته في اكتشاف الإنترنت، وتطوير التكنولوجيا الدقيقة، وقُلْ نفس الأمر عن معظم جيوش العالم مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية. أما في عالمنا، فإن الجيوش العربية التجارية لم تكتشف وتطور غير تكنولوجيا "الكفتة" وعلاج الأيدز بالكبدة؛ ممّا حَوّلها إلى مسخرة تضحك الثكالى المحزونات، ويقهقه لتفاهتها الشيخ الوقور.

غير أن مما يُطمئن المتأمل في خلاصات التاريخ وشواهد الليالي، أن هذه الجيوش قد ماتت، وأن احترامها قد تلاشى في الضمائر، وأن عروشها آيلة إلى السقوط بعد نفاد رأسمالها النفسي. وقد جاءتها القاضية بصور يوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر لتذكر العربي أنها ليست بشيء. فما أحرزه شبان غزة المحاصرون منذ 16 عاماً عجوزا هم عنه لعقود.

فمنذ النكبة لم يدخل جندي عربي واحد إلى أراضي عام 1948، لكن بواسل المقاومة دخلتها بعزة وكرامة رغم وقوف العالم ضدهم، وحصارهم وشيطنتهم. وحدهم بواسل المقاومة هم المعبرون عن التقاليد العسكرية العربية النبيلة، وعن ذلك الخيال الجمعي الجمح المليء بالبطولات والحماسة والفروسية. وهذا أمر يفهمه الأعداء أكثر من غيرهم. فلم تتجرأ "إسرائيل" على الدخول إلى غزة إلا بغطاء أميركي، وحاملات طائرات قابعة قبالة غزة، وبعد تدمير نصف القطاع، وطرد مليون إنسان. كل هذا خوفاً من الفرسان المحدودي التسليح القابعين وسط غزة. هذا هو الجندي العربي الحقيقي، أما "جندي" الجيوش العربية فعامل نظافة، وسالخ ملحمة، ونافخ كير، وحارس زنزانة مليئة بالأحرار الأبرار.

لقد قسّم نزار قباني العالم العربي في أيامه إلى طاغية ونعجة مذبوحة فقال: "والعالم العربيُّ إما نعجة مذبوحة... أو حاكمٌ قصابُ!"

لكن الزمن دار دورته. فقد أصبح ثمة خط ثالث: مقاوم يبني نفسه، ويرفض رفع الراية لجيش نووي تقف وراءه قوى نووية. ووراء ذلك المقاوم أمة ترفض الاستسلام، وتشحذ العزائم، وتتربص الدوائر بأعدائها.. وبحماتهم المحليين.

وما زال ابني ينظر الإجابة.