8 نوفمبر 2020

طبريا.. مواسم البَحْرة والمطبخ البحريّ

طبريا.. مواسم البَحْرة والمطبخ البحريّ

من مفرق مَسكنة عند قرية لوبية المُهجّرة كان النّاسُ يدلفون زُواراً وحجيجاً وتُجاراً إلى الشّرق مروراً بقرية حطين المُهجّرة، ثمّ نزولاً إلى أن تنبعثَ رائحةُ الكبريت مع الدلف والدفلى، فيعرفُ القادمُ أنّه بات على ظهر جبل اللوزات المُطلِّ على "بَحْرَة طبريا" أو "بحر الجليل" كما سمّاه العربُ قديماً. 

تحطّ طبريا المدينة على بحرتها من جهة الغرب صعوداً حتى بطن الجبل، بينما يلفُّ بحرتَها من الجهات الأربع ريفُها البحريّ مُزنِّراً إياها بقرى الفلاحين ومضارب البدو. من الشمال تحف البحرةَ كلٌّ من قُرى الغوير والطابغة والسمكية، بينما سمخ قريةٌ يتيمةٌ في الجنوب كما لو أنها خرجت من بطن البحرة. من الغرب إلى شمال طبريا المدينة الأمّ تقعُ قريةُ المجدل التي يحمل ريحُها الغربيّ الموجَ منها شرقاً، إلى أن يغدو مَوْجُها رذاذاً يُبـلِّلُ خيامَ بدو عرب النقيّب.1السمكية أو السمّاكية: قرية عربيّة كانت تقع على موقع قرية رومانيّة قديمة اسمها كفر ناحوم، ذُكرت في الإنجيل، وذكرها العديد من الرحالة والمستشرقين بهذا الاسم، وفيها مواقع أثريّة قديمة ويعتبرها المسيحيون قرية مقدسة. راجع: الدباغ، بلادنا فلسطين، ج6، ق3، ص359. كانت أسماءُ  مضارب وقرى ريف طبريا كلُّها مستمدةً إما من تراثها البحريّ أو من حَكايا الكتب المقدسة وأديانها فيها.   

كانت طبريا بازلتيّةَ المعمار والتكوين، مما جعلها مدينةً سمراءَ في النهار، أما ليلاً فإنّ من يطلُّ عليها من جبال القعقعية يظنُّها مدينةً بلا بيوت لولا قناديل نورها التي كانت تدلُّ عليها، وذلك لسمار حجارتها التي كانت تسرق من الليل سواده.2القعقعية: الجبال المحيطة ببحيرة طبريا من الناحية الشماليّة الشرقيّة عند الحدود السوريّة. عن ذلك يقال في حكايةٍ مجازيّةٍ من المخيال المعماريّ الشعبيّ إنّ أهل طبريا تَعَمّدوا بناءَ بيوتهم من الحجر البازلتيّ الأسود، والذي يسمّونه "الحجر السوريّ"، كتعبيرٍ عن حدادهم الدائم على مقتل حاكم مدينتهم صليبا ابن ظاهر العمر الزيدانيّ، وذلك في أيار سنة 1773 أثناء حملةٍ قامَ بها ظاهر العمر ضدّ مماليك مصر وقادها ابنه صليبا وقُتل فيها. وقد أنشد شاعرٌ شعبيّ بيت عتابا يتداوله الطبارنة يوّثق لحزن المدينة الثـكلى:

طبريا من بعد بو ناصر ما عاد بيك
كـثر روش الوشـاوش والمـعاد بيـك
وروحـي يـا روحـي مـا عـاد بيـك
وروحـي ليـوم الحـاشر واللـقى...3راجع: توفيق معمّر، ظاهر العمر، مطبعة داوفست الحكيم، الناصرة 1979، ص 206. تعني "ما عاد بيك" الأولى: ليس للمدينة من بيك بعده، والثانية "المعاد بيك": أي المُعادين للمدينة من داخلها، والثالثة "ما عاد بيك": أي لم يعد بوسعها.

مدينة صيد الأسماك طبريا الواقعة على الشاطئ الغربي لبحيرة طبرية، عام 1900. (المصدر: Getty Images)

كانت مرحلة حُكم الزيادنة أهم وآخر بَعثٍ عربيٍّ لمدينة طبريا، بعد أن نزلوها مطلع القرن الثامن عشر ثمّ انطلقوا منها لتأسيس إمارتِهم في باقي مدن وقرى الجليل. ترك الزيادنة في طبريا معالم أثريّة ما زالت تُشكّل وجه المدينة إلى يومنا؛ السّورُ، وقلعة الصقرية، وجامع الزيداني، وآخر عند كتف البحرة أُطلِقَ عليه الجامع البحريّ أو جامع الجسر، فضلاً عن كنائس النصارى وكُنس اليهود فيها.4سُمّيت قلعة الصقرية في طبريا بذلك لأن الزيادنة بنوها بمال الخيل التي غنموها من بدو عرب الصقرية الذين نزلوا في مرج ابن عامر في القرنين السابع والثامن عشر الميلادي. راجع: الصبّاغ، ميخائيل نقولا، تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، تحقيق: أحمد حسن جودة، بيروت 2019، ص 44.

ظلّت طبريا طوال الحكم العثمانيّ للبلاد مدينةً عربيّةَ الهويّة والهوى، وذلك رغم سكانها من يهود البلاد الأصليّين الذين شكّلوا أغلبيةً فيها منذ أن أنزلَهم السّلطان سليمان القانوني فيها سنة 1562م على إثر طردهم من إسبانيا.5راجع: الأغا، نبيل خالد، مدائن فلسطين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1993، ص 249. عشية النكبة، كان اليهود يشكّلون ثلثي سكان المدينة، بينما شكّل المسلمون والمسيحيون الثلث الباقي. تكلّم يهودُ طبرية العربيّةَ بلكنتها الشاميّة وتمسّكوا بالعادات والتقاليد المشرقيّة إلى أن جرت صهينتُهم في ظلّ الانتداب البريطانيّ على البلاد.6فوزي الحاج خليل، مقابلة مصوّرة على موقع "فلسطين في الذاكرة" ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجريت المقابلة بتاريخ 22.06.2011.

رِجل بالـ مي ورِجل بالـ فيّ

لم يُدِر أهلُ طبريا ظهورَهم لبحرتـهم فقد عاشوا عليها ومعها؛ شربوا من مائها، واغتسلوا وتطهّروا فيها، وخصّصوا مواقعَ محددةً على حوافها لسقي الدواب والقطعان، واعتادوا إنزالَها في البحرة كلّ جمعةٍ في طقسٍ يُشبه طقوس الغسل والتطّهر لتبرأ مواشيهم من أمراضها. وقد حفظت ذاكرتُهم الشعبيّة صورتَها، فهذه عائشة سحتوت تحكي عن صفاء مياه شاطئ بُستان الحشّاش إلى حدٍ يُمكن فيه تمييزُ وعدُّ حبّات الرمل داخل الماء.7عائشة سحتوت، مقابلة مصوّرة على موقع "فلسطين في الذاكرة" ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجريت المقابلة بتاريخ 23.06.2013.

"كلُّ ولاد طبريا حيتان" كان أهل الجليل يرددون، وحتى عرب السّاحل قالوا عنهم ذلك، لأنّ الطبارنة كانوا أولَ من غَطَسَ في فلسطين وتعلّم السباحة في مائها، فالسباحة في فلسطين بدأت في المياه الحلوة قبل المالحة وذلك في الأنهار وبحرتي طبريا والحولـة قبل أن يتم تجفيف هذه الأخيرة بعد قيام دولة الاحتلال. مع ذلك، ظلّ أهل طبريا وريفها في علاقة مع بحرتهم يحكمها منطق "رِجل بالمي ورِجل بالفي"، أي قدم في البحر وأخرى في الحقل.

الصيد

في مطلع أربعينيات القرن الماضي وبينما كان الحاج نايف الطبري يستلقي في مضافته اقتحمها صبيٌّ قاطعاً عليه قيلولتَهُ مُستنفِرَاً إياه: "إلحق يا حج نايف! ولّعت بالخان"، فهبَّ الحاج من مكانه مهرولاً إلى هناك. داخل الخان اشتباكٌ بالأيدي كان فيه الضرب من كلّ فجٍ عميق بين رجال حطاطنة (من حطين) وبعض الطبارنة. ولمّا حاول الحاج نايف وقف العِراك اقترب منه فلاحٌ من أهل حطين مُعاتِباً: "إنتو يا حج ما بتحترمو ضيفكو"، يقصد الطبارنة. ولمّا استفسر الحاج قال الحطينيّ: "قطعولي ذيل الفرس" فَفَهِمَ الحاج نايف وقال: "حقك مربع، مش ذيل الفرس، الفرس كلها عندي، بس الله وكيلك ابني كل ما بتفوت فرس غريبة على هاي البلد منقوم على طوشي إلها أول ما إلها آخر". كان الطبارنة يجدلون من شعر ذيول الخيل خيوطاً لسنانير صيد السمك، لذا كانت خيول الغرباء مُهدّدَةً في مدينتهم.8عن استخدام شعر ذيل الخيل في صنع سنانير وشبك صيد السمك راجع: فوزي أبو خليل. مصدر سابق.

الحياة على شاطئ الجليل في طبريا ، فلسطين. تظهر الصورة غير المؤرخة أشخاصًا على شاطئ طبريا يشترون الأسماك. (المصدر: Getty Images)

وبينما كان صيّادو طبريا يجدِلون خيوطَ سنانيرهم، كانت النساء تشتركُ في جدل وخياطة شبك صيد الجرف9يُسمّى صيد السمك بالشبك صيد الجرف، لأنّ بواسطته يتم جرف السمك، وأحياناً يُسمّى الشبك نفسه بـ"الجرف".، خصوصاً شبك "أبو عين صغير" المُعد لصيد سمك السردين، والذي يُبقي الصيادون ونساؤهن  فتحاتِه صغيرةً كي لا ينفد السردينُ منه، في طقسٍ تتحلق فيه النسوة تحت شجر الزنزلخت والنخيل على شاطئ البحرة ويهزجن:

ع زنـزلـخـتي يـا دادا ع زنـزلـخـي
من أول طوفي يا دادا شو مالك دُختي…   10المقصود بـ"الطوفة": الطوف على ظهر المركب بالبحيرة، والذي كان يُسبب دوخاناً بسبب دوار البحر.والطوفة تعني أحياناً فيضان ماء البحيرة، فيقال "سنة الطوفة" مثلاً. عن مشاركة النساء في حياكة شبك الصيد راجع: عائشة سحتوت، المقابلة السابقة.

كان صيدُ السنانير في العادة بغرض الاكتفاء المنزليّ أو ممارسة لقتل الوقت يتبعها أبناءُ ريف طبريا من فلاحي وبدو القرى. بينما الصيد بواسطة الشبك من على شخاتير الجَرف التي كانت تمخُـر عباب البَحْرة ليلاً فقد كان حكراً على الصيّادين من أبناء المدينة المتعاقدين مع كبار وكلاء صيد السّمك فيها. وهذا ما اُعتبر أحياناً واحداً من مظاهر طبقية العيش مع البحرة ما بين المدينة وريفها.

للصيد أصولٌ وأعراف تعارف عليها الطبارنة على مدار تاريخهم، منها احترام مواسم الصيد ومراعاة مواقيتها، والأهم الالتزامُ بعُرف توسيع فتحة شبك صيد السمك، ليبقى كبير الحجم فيه، بينما يفلت الصغير منه عائداً للبحرة إلى أن يكبر.

كان الصيدُ تربيةً أكثر منه تجارةً، إلى أن تغيّر ذلك مع سياسات التدخل الاستعماريّ في طبريا البحرة قبل المدينة، إذ ألزمَتْ بريطانيا الصيّادين بترخيصٍ للصيد، عُرف لدى الطبارنة بـاسم "الجواز البحريّ"11صالح سعدية، مقابلة مصورة على موقع "فلسطين في الذاكرة" ضمن برنامج التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، أجريت المقابلة بتاريخ 22.06.2011.. غير أن ملامح هذه التحولات صارت أكثر وضوحاً وقسوةً مع قدوم يهود أوروبا الصّهاينة إلى المدينة، والذين اتبعوا طريقة صيد السمك بأصابع الديناميت؛ يُرمى الديناميت في الماء إلى أن ينفجر، فيطفو السّمكُ على سطح الماء ميتاً، وهذا ما اعتبرهُ بحارةُ المدينة قتلاً لا صيداً للسمك.12عن الصيد بأصابع الدنياميت راجع: فوزي الحاج خليل، مصدر سابق. كان ذلك واحداً من مظاهر التحامل والإرباك التي بدأت وقتها تخترقُ النسيج الاجتماعيّ بين عرب المدينة ويهودها.

المواسم والست سكينة

من بين الأسماك التي اشتهر بها الصيد في طبريا سمك المُشط الطبرانيّ، وله موسمٌ انتظرَهُ في كلّ خريف جميعُ أهالي الجليل في المُدن والأرياف. يظلُّ المُشط، الذي لا يتجاوز حجمُه راحة يدّ الست، أجود أنواع السّمك وأكثرَه شهرةً في فلسطين إلى يومنا، لأنه ابن المياه الحلوة كما يقولُ أهلُه. واسم المشط على دين أهله في طبريا، فيهود المدينة كانوا يسمّوه المُشط، ومسيحيوها سمّوه "مار بطرس"، أما المسلمين فقد سمّوه "البُلطي".13سُمّي سمك المشط بمار بطرس نسبةً للقديس مار بطرس والذي قيل إنّه حين رمى سنارة صيده في بحيرة طبريا عند شاطئ كفر ناحوم اصطاد سمكةً من نوع المشط فحملت السمك اسمه. للمُشط الطبراني لونان؛ الأبيض الذي يكثر عند شاطئ قرية الطابغة لأنّ أرض البحرة فيها حشائشية، والأسود الذي ينتشر عند شاطئ البـطّيحة لانعكاس سواد صخور البحرة هناك عليه.

صيادو السمك في بحيرة طبريا، 1900. (المصدر: Getty Images)

أما سمك السَـردين، فيبدأ موسمه في تشرين الثاني ويستمرُ صيدُه حتى آخر الشتاء. كانت مدينة طبريا تستعد عن بكرة أبيها لموسم السَـردين، في طقوسٍ بحريّةٍ تدفع بالناس إلى التدافع على البُـنـط من أجله. يُكَوّمُ السَـردينُ كلّ صباحٍ بعد عودة بحّارة البحرة فوق حُصر قصب البابيـر المفروشة على "البُنـط"14سمى أهالي الجليل المنطقة المحاذية لشاطئ البحيرة "البُنْط"، وفيه يقع مرسى السفن ومقاهي البحيرة.. وبينما البحّارة يضجعون في مقهى العيلبوني يُنادي السمّاكة على النّاس: "محلوف عليك بالدين يا سردين". وما لا يُباع عند البنط ينقُلُه السمّاكة إلى حِسبة توفيق الخوري، حِسبة السمك الوحيدة في طبريا، والتي حظي صاحبُها بامتياز احتكار بيع الجملة أيام الانتداب15كان توفيق الخوري من صفد الوكيل الوحيد على صيد السمك في بحيرتي طبريا والحولة وبيعه في حسبته في طبريا خلال الانتداب البريطاني. وقد جاءت جميع المقابلات الشفوية المذكورة هنا على ذكره..

للبحرة "طوّفات" خالدة رغم قسوتها في ذاكرة طبريا وأهلها، فعلى أعتاب كل شتاء تزامنا مع موسم السردين، كانت تجب الزيارة السنوية لمقام الست سـكيّنة -بضمّ السين أو تسكينها- الواقع في الناحية الغربيّة من المدينة. يعتقد أهلُ طبريا بأن سُـكيّنة هي بنت الإمام الحسين بن علي16عرّاف شكري، طبقات الأنبياء والأولياء الصالحين في الأرض المقدسة، مطبعة إخوان مخول، ترشيحا 1993، جزء2\ ص331.. بينما يعتقد آخرون من مسيحيّي المدينة بأنّها قديسةٌ اشتق اسمها من صفة المدينة التي وهبها إياها موقعُها؛ سْـكينة بتسكين السين من السَـكينة والطمأنينة التي كان النّاس يرتجونها في ظل طوّفات البحرة المحتملة في كل شتاء.

يؤمُ الطبارنة مقام الست سكينة كل عام تبركاً وتشفعاً عندها، ووفاءً للنذور والاستخارة وطلب الرزق. وغير ذلك، فالست سـكينة هي شفيعة البحارة والصيادين إذا ما هاجت البحرة وماجت بهم شخاتيرهم ليلاً، يناجونها بتمائم مسجوعة تواترت عن أجدادهم وتعارفوا عليها، مثل القول "بعرضك يا ست سكينة تنجيني…"، وهكذا17فوزي الحاج خليل، مصدر سابق..

المطبخ الطبراني

تجود البحرة على أهلها في المدينة والريف بأكثر من عشرين صنفاً من السمك. أسس ذلك عبر الأجيال لمطبخ طبريّ بحريّ كان السمك فيه خبز أهل المدينة وشيخ موائدها، إلى حد ألزمت فيه مدراس طبريا أطفالَها بتجرع زيت السّمك كلّ يومٍ في طقسٍ صباحيّ لبعث العافية والنشاط في أبدانهم.

كانت مواسم الصيد توقظ المطبخ الطبرانيّ بحسب صنف السّمك فيها، فالسردين جرت العادة على هرسه بجرنٍ حجريٍّ وتحويله إلى كُفتى تعرف بكُفتى السردين، ويطلق عليها أيضا أكلة "الكوكلاس"(فوزي الحاج خليل، مصدر سابق). غير أن "الـمطبق" كانت أكلة الشتاء، وهي مطبق سردين بعد فصل الحسك عن لحمه، ثم تُطبق السردينة على الأخرى ثم تُقلى معاً بزيتٍ مغمور مع الليمون والثوم والفلفل.

من عادة الطبارنة حشو السّمك بِلحمِهِ ثمَّ طبخه، وحشو السّمك ارتبط بالذات مع سمك الـ"حفّافِ" ويسمّى "الحفّاف الشاميّ"، كان يصل طوله في بحرة طبريا إلى طول ساعد يد الصبي. ولأن حسك سفّيره رفيع وكثيف وجلده سميك فضّل أهل طبريا أكله حشواً؛ يستخرجون أحشاءه منه ثمّ يفرمونها ثم يُتبلونها بالبصل والبقدونس، ثم يحشونها مجدداً داخل السمكة نفسها. وهكذا يُقلى "الحفّافِ" محشواً بِلَحمِهِ ومغموراً بالطحينية18فوزي الحاج خليل، مصدر سابق.. وأحياناً كان يُحشى سمك "الحفّافِ" بِلَحمِ سمكٍ آخر صغير من سمك الـ"بزري".

طبريا، عام 1934. (المصدر: Getty Images)

ومن المطبخ البحريّ الطبرانيّ أكلة سمك "البربوط" وكبّته. إذا ما صاحت من مطبخها امرأةٌ غريبةٌ تزوجت حديثاً في طبريا، يعرف جيرانُها بأنّها قد "تبربطت" على الأغلب، أي خافت من البربوط، فسمكة البربوط الطبرانيّة التي كان يصل طولها إلى مترين أحياناً تظلُ على قيد الحياة بعد إخراجها من ماء البحرة لأكثر من 24 ساعة، مما كان يدفع نساء المطبخ للصراخ وقتلها بالساطور.19صالح سعدية، مصدر سابق. ارتبط البربوط بالكُـبّة الطبرانيّة، فأغاني رقصة السكين في مطابخ بيوت المدينة ارتبطت بهذا السمك الذي كان يجري تقطيعه ودقّه بالجرن ثمّ خلطه مع البرغل وقليه أقراصاً عُرفت بـ"كُـبة البربوط". هذا عدا عن صـيّادية طبريا المطبوخة بمُشط البحرة مع الرزّ والبصل، وكُـفتى أسماك القشرة والسركيس، والقائمة تطول في مطبخٍ اتسعت موائده بوسع المدينة على بحرتها وخيراتها.

اقتُلِع عربُ طبريا وجفّت المدينة من أهلها، غير أنّ البحرة باقيةٌ يبلل ماؤها ذاكرةَ الزمان والمكان هناك. على الضفة الشرقيّة من نهر الشريعة (اسم نهر الأردن) ظلّ بعضُ اللاجئين الطبارنة يطلّون من على جبال البطيحة السوريّة مستفقدين مدينتهم السمراء، بينما يواعد بعضُهم عند حافة النهر السمكَ القادم من البحرة يحمل لحمه وشوق المدينة لراحيلها.