خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لبلادنا المحتلة في تموز/ يوليو 2022، عُلّقت على لوحات الإعلانات في بيت لحم ورام الله لافتات كُتب عليها: "سيادة الرئيس، إنه أبارتهايد!". ذُيّلت اللافتات بشعار مؤسسة "بيتسيلم" الإسرائيلية ذات التوجه "اليساري"، في محاولةٍ منها للفت نظر الرئيس الأميركي لما تَصِفُه بالتمييز العنصريّ الذي يمارسه "النظام الإسرائيلي" ضدّ الفلسطينيين. وقد حظيت هذه الخطوة بكثير من الاهتمام فلسطينيّاً وأيضاً بكثير من الإعجاب.1تعرّف "المعاهدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها" الفصل العنصري تعريفا إجرائيا، حيث جاء في المادة الثانية من الاتفاقية: "تنطبق عبارة "جريمة الفصل العنصري"، التي تشمل سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الأفريقي، على الأفعال اللاإنسانية الآتية، المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر على أية فئة عنصرية أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية". وتفصّل تباعا السياسات التي تعد جرائم فصل أو تمييز عنصري. ومنها القتل والاعتقال وإلحاق الأذى والتهجير، والاستغلال والحرمان من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والفصل بين السكان، وغيرها.
لم يكن مسعى توصيف الحالة الفلسطينيّة/الصهيونيّة بأنّها حالة "فصلٍ عنصريّ" مسعىً جديداً، إذ تعود بدايات ذلك إلى فايز صايغ في كتابه "الاستعمار الصهيونيّ في فلسطين"، المنشور عام 1965، والذي استخدم فيه مفهوم "الفصل العنصريّ" لوصف السياسات الصهيونيّة بحقّ الفلسطينيين الذي بقَوا في أراضي 1948.
ومع تراجع خطاب الاستعمار الذي كان يستخدمه الفلسطينيون في مواجهة المشروع الصهيونيّ بعد التوجه لخيار التسوية القائم على حلّ الدولتين، ثمّ انهيار هذا الحلّ لاحقاً؛ عاد خطاب "الفصل العنصريّ" ليشغلَ حيزاً مُهماً من الخطاب والنقاش الأكاديميّ الفلسطينيّ والعالمي.2كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد تبنت في "الميثاق الوطني" خطاب الاستعمار من خلال اعتبارها الحركة الصهيونية حركة استعمارية وربطها بالإمبريالية الغربية، واعتبار هدف المنظمة هو تحرير كامل التراب الفلسطيني من الاستعمار الصهيوني في تكامل مع حركات التحرر الوطني التي كانت تخوض نضالها للتحرر من الاستعمار الغربي. في العام 2001، شاركت مؤسسات حقوقيّة فلسطينيّة في المؤتمر الدوليّ لمناهضة العنصريّة الذي عُقِدَ في مدينة ديربان في جنوب أفريقيا، ورفَعَت فيه شعار "الصهيونيّة عنصريّة وإسرائيل أبارتهايد". وبات هذا الشعار، مع السنين، هو الخطاب الموجَّه من المنظمات الحقوقيّة الفلسطينيّة نحو الخارج، لتتبناه العديد من المنظمات والمؤسسات الحقوقيّة الغربيّة بعد حين.
"إنّه أبارتهايد".. ثمّ ماذا بعد؟
وفي السنوات الأخيرة عاد خطاب الأبارتهايد ليأخذ صدىً كبيراً بعد تبني عددٍ من المؤسسات الحقوقيّة الغربيّة والإسرائيليّة له. من بين المنظمات التي تبنت هذا الخطاب، لجنة الأمم المتحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا (الإسكوا)، التي نشرت عام 2017 تقريراً وصف السياسات الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطينيّ بأنّها تندرج تحت إطار الفصل العنصريّ. وتبعتها في ذلك عام 2020 مؤسسة "يش دين" الإسرائيلية، ثمّ مؤسسة "بيتسيلم" في بداية عام 2021، ومنظمة هيومن رايتس ووتش في العام ذاته. ثمّ جاء الإعلانُ الأخير عن تبني هذا الخطاب من منظمة العفو الدوليّة (أمنستي) بداية عام 2022، وقد قابلت المؤسسات الحقوقيّة وعدد من المثقفين الفلسطينيين هذا الإعلان بحفاوةٍ بالغة.
اقرؤوا المزيد: "صفقة القرن.. ما يقترحه المصطلح وما يُخفيه الواقع".
مع الأهمية التي حظيت بها مواقفُ هذه المنظمات الغربيّة والإسرائيليّة، إلا أنّ هناك جملة من الانتقادات التي وُجِهَّت لها. فتقرير منظمة العفو الدوليّة لا يشتغل بمعالجة جذور "الفصل العنصريّ" المُتمثلة في أنّ "إسرائيل" كيان استعمار استيطاني يتخذ من سياساته العنصرية أدوات لتحقيق أهدافه الاستعمارية. ولم تدعُ المنظمة مثلاً إلى إنهاء الاستعمار أو الاحتلال كحلٍّ لنظام الفصل العنصريّ، وإنّما اكتفت بدعوة الحكومة الإسرائيليّة لإجراء الإصلاحات اللازمة من أجل امتثال "إسرائيل" لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.
والأهمّ من ذلك أنَّ المنظمة عادت لتؤكد بعد صدور تقريرها على لسان الأمينة العامّة للمنظمة أنيس كالامار، على "حقّ الشعب اليهودي في تقرير المصير"، مبينةً أنهم لا يستهدفون "انتقاد حقيقة وجود دولة يهودية وأن ما تدعو إليه المنظمة هو أن تعترف الدولة اليهودية بحقوق جميع الأشخاص الذين يعيشون تحت سلطتها وعلى أراضيها".
أما منظمة "بيتسيلم" فتقول إنّها اكتشفت أنَّ هناك نظاماً واحداً مُطبَّقاً على أراضي 1948 وأراضي 1967، على خلاف الاعتقاد السابق بأنَّ هناك نظاماً ديمقراطياً في "إسرائيل" ونظام احتلالٍ مؤقت في أراضي 1967، وتقول بأنّ هذا النظام الواحد هو "الأبارتهايد". وتُقدّم "بيتسيلم" في تقريرها العديد من الحجج والأدلة على ذلك، ولكنها تتورع عن تسمية الأمور بمسمياتها وتعتبر أنّ الإشكالية الأساسية هي الفصل العنصري، لا أنّ "إسرائيل" هي كيان استعماريّ استيطانيّ، يُعتبر الفصل العنصري واحداً من أدواته.
وإضافةً إلى ذلك، فإنّ "بيتسيلم" تفصِلُ في خطابها وتقريرها بين النظام الإسرائيليّ وبين المستوطنين (داخل وخارج الخطّ الأخضر)، ففي وجهة نظرها لا يُعدّ المستوطنون شركاء ومنفذين لجريمةِ الفصل العنصري، وإنما فقط النظام الإسرائيلي هو من يتحمل مسؤوليتها. وعدا عن ذلك، فالمنظمة في تقريرها لا تتحدث عن أي حلولٍ سياسيّة، ولو حتى الدعوة إلى إنهاء الاحتلال في أراضي 1967.
وفوق ذلك كله، وربما هو مربط الفرس، تُنكر "بيتسيلم" على الفلسطينيين حقّهم في المقاومة والدفاع عن أنفسهم، إذ تُخصِّص في موقعها الإلكتروني باباً كاملاً تحت عنوان "الاعتداء على مواطنين إسرائيليين من قبل فلسطينيين"، ترصد فيه عمليات المقاومة الفلسطينية، حتى التي تنفّذ ضدّ المستوطنين في الضفّة الغربيّة الذين تُسمّيهم المنظمة "مدنيين"، مصنّفةً إياها على أنّها انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب.
التوصيف ومدلولاته السياسية..
جاء تبني المنظمات الغربيّة لخطاب الأبارتهايد بعد تراجع حقبة الاستعمار والتحرّر وتعميم الليبرالية والنيوليبرالية الغربيّة على العالم، إذ أصبح مفهوم الأباتهاريد مفصولاً عن جذوره المُناهضة للاستعمار والداعية للتحرر الوطنيّ وحقّ تقرير المصير، ليتحوّل ضمن السياق الحقوقيّ الليبرالي - في الحالة الفلسطينيّة- إلى مجرد مسألة انعدام المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس مسألة استعمار أو احتلال يستوجب التخلص منه.
وعليه، فإنَّ التبني الغربيّ لخطاب الأبارتهايد في السياق الفلسطينيّ لا يعدو كونه محاولةً لتجاوز جذور الصراع، وتجاوز حتى حلّ الدولتين الذي أصبح ميتاً على أرض الواقع، وحصر الصراع في ظواهره، وليس في جوهره.
وهذا التجاوز يعني بطبيعة الحال أنّ خطاب الأبارتهايد ينطوي على توصيف غير دقيق للواقع الذي يعيشه الفلسطينيون. والأخطر من ذلك أن تبني هذا الخطاب يعني تلقائياً طرح حلول سياسيّة لا تتعلق بإنهاء الاحتلال تماماً، وإنما تنحصر في محاولة "تعديل سياساته"، وهكذا يكون الحلّ المرجو من وراء هذا الخطاب هو حلّ الدولة الواحدة. إذ يعني تبني هذا الخطاب أنّ هناك اعترافاً ضمنيّاً بأنَّ "إسرائيل" أصبحت أمراً واقعاً من البحر إلى النهر، وأنّه لا حلّ سوى المطالبة بالمساواة في إطارها، فالمطالبة بزوال الأبارتهايد يعني أن نكون نحن والمستوطنون سواء في دولةٍ واحدة.
وفي هذا السياق يرى الباحث والأكاديمي وليد سالم أنّ النقاش حول الواقع الفلسطينيّ أهو أبارتهايد أم لا، ليس مجرد ترفٍ فكريّ، وإنّما هو نقاشٌ له تبعات سياسيّة عمليّة على الأرض. يتفق مع ذلك المؤرخ والأكاديمي صالح عبد الجواد، إذ يرى أنّ هذا النقاش مسألةُ حياةٍ أو موتٍ بالنسبة للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، إذ إنّ التشخيص الصحيح للواقع سيؤدي إلى علاجٍ صحيحٍ له، بينما سيؤدّي التشخيص الخاطئ إلى علاجٍ خاطئ وربما "وفاة" الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.
فلنعد خطوةً واحدةً إلى الوراء.. إلى الجوهر
يُحاجج أنصار خطاب الأبارتهايد أنَّ باستطاعته أن يشمل جميع الفلسطينيين بمن فيهم اللاجئين في الشتات، إذ إنه يُتيح المطالبة بعودة اللاجئين، أسوةً باليهود الذين يحقّ لهم الهجرة إلى فلسطين بموجب قانون العودة الصهيوني 1950. وهو ما يعني مساواة اللاجئ الفلسطيني بالمستوطن اليهودي. كما يحاججون بأن وصف "إسرائيل" بالأبارتهايد لا ينفي كونها دولةً استعمارية، من حيث أنّ الأبارتهايد ليس سوى أداة لدى المشروع الصهيوني لتحقيق أهدافه الاستعمارية. ولكن هذه الحجة تطرح تساؤلاً مهماً، وهو لماذا ننصرف لمعالجة الأداة ونترك الغاية والجوهر؟ هذا على اعتبار أنَّ كلَ سياسات المشروع الصهيوني ستُترجم فوراً إلى سياسات فصلٍ عنصريّ وليس إلى غيرها.
من المؤكد أنَّ هناك مساحة للنضال القانونيّ ضدَّ السياسات الإسرائيلية يُتيحها خطاب الأبارتهايد، في ظل قبوله لدى المستوى الشعبي والمؤسساتي العالمي، إلا أنّ هناك حدوداً أعمق مما نتصور لهذا النضال الحقوقي. الأمر المهم في مناقشتنا لهذا الموضوع ليس الظواهر العرضية للمشروع الصهيوني، وإنما الأهداف والغايات الجوهرية التي يسعى لها. فهل يسعى المشروع الصهيوني للانفصال عن الفلسطينيين والتمييز ضدّهم فحسب؟ أم أنَّ هذا المشروع يسعى إلى السيطرة على الأرض والتوسع، والتخلص من الوجود الفلسطيني؟ ومن ناحيةٍ أخرى، فما نسعى له نحن هو العامل الحاسم الآخر في تحديد طبيعة المشروع الصهيوني، فهل نستهدف المساواة ونيل الحقوق أسوةً باليهود؟ أم نسعى إلى التحرّر والتخلّص من الاستعمار؟
ليس بعيداً عن هذا الطرح، يمكن ملاحظة أنّ معظم السياسات الإسرائيليّة لا تتوقف عند مفهوم الفصل العنصريّ، فالاستيطان الزاحف في الضفّة الغربيّة ومصادرة الأراضي، ومحاولات ضمّها، والاحتلال العسكريّ الفعليّ، والقتل والاعتقال اليوميّ للفلسطينيين، وتقطيع أوصال الضفّة الغربيّة بالحواجز والجدار والمستوطنات، وترسيخ الوجود الاستعماري فيها بمشاريع البنى التحتيّة، والتهويد والتهجير في الداخل، والحصار الخانق على قطاع غزّة؛ هي أمور لا تقف عند حدود الفصل العنصري.
اقرؤوا المزيد: "غابة الصرّافين.. المال مُحركّاً للجريمة في الداخل".
ولا يمكن فصل هذه السياسات عن مجمل المشهد الفلسطيني، بما في ذلك الداخليّ الذي يبدو أنّه ليس للاستعمار الصهيوني تأثير كبير عليه للوهلة الأولى. فالعنف والجريمة المستشرية بين الفلسطينيين في الداخل، التي بدأت بالانتقال إلى الضفّة الغربيّة، والتي يروح ضحيتها العشرات من الفلسطينيين سنوياً، لا يمكن عزلها عن سياسات الاستعمار الاستيطاني، إذ تتحدث العديد من التقارير عن تواطؤ الشرطة وجهاز المخابرات الإسرائيليين في انتشار سلاح الجريمة والتغطية على جماعات الإجرام.
ولا يختلف الأمر في الضفّة الغربيّة التي ينتشر فيها استخدام السلاح في الصراعات العائلية على مرأى ومسمع من جيش الاحتلال دون أن "يتدخل" في ملاحقته، في الوقت الذي يلاحق فيه سلاح المقاومة ولا يتهاون معه أبداً. وفي هذا السياق، يرى صالح عبد الجواد أن بناء جدار "الفصل" له أهداف أخرى غير الفصل العنصري، إذ إنّ بناء الجدار جاء ليمنع إمكانية تصدير العنف والغضب الفلسطيني الناتج عن السياسات الاستعمارية نحو "إسرائيل"، وليعود هذا الغضب ويتفجر داخلياً بين الفلسطينيين أنفسهم؛ على شكل صراعات سياسية وعائلية وفردية وجرائم.
اقرؤوا المزيد: "أفكار أوليّة: لماذا يقتل بعضُنا البعض؟"
إضافةً إلى ذلك فإنّ الظروف الاقتصاديّة السيئة، سواءً في الضفّة الغربيّة أو في قطاع غزّة، وسيطرة الاستعمار على تفاصيل حياتنا، ووجود منظومة السلطة الفلسطينيّة المشاركة في قمع الفلسطينيين والغارقة في الفساد؛ هي أجزاء لا تنفصل عن المشهد الاستعماريّ الصهيونيّ، لِتُشكّل مع السياسات الاستعمارية المباشرة مُركّباً واحداً له أهداف لا تتعلق بمسألة الفصل العنصريّ، وإنّما تتعلق بطبيعة المشروع الصهيوني وسعيه للسيطرة على أكبر قدرٍ من الأرض بأقلّ عددٍ من السكان.
إذا لم يكن "أبارتهايد"، فما هو؟
تشكّل "إسرائيل" دولة استعمار استيطاني، وحسب منظري مدرسة الاستعمار الاستيطاني فإن هدف المستعمِر هو التخلص من المستعمَر، بغض النظر عن الوسيلة المستخدمة لهذا الغرض، فالمهم هو محوه أو إزالته أو استئصاله. فالصهيونية ليست إذن، حسب ما يرى وليد سالم، مشروع تفوق عرقيّ لعرق على آخر، وإنما هي مشروع استيطاني يسعى لإحلال المستوطنين محل الشعب "الأصلاني"، وعلى أرضه أيضاً.
في هذا السياق، يرى صالح عبد الجواد أنَّ السياسات الاستعماريّة التي تُمارس على الشعب الفلسطينيّ ليست سياسات فصلٍ عنصري، وإنّما هي سياسة "إبادة مجتمعية" أو ما يُطلق عليه "السسيوسايد"، الذي يُعرّفه بأنه "التدمير الاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ الشامل للمجتمع الفلسطيني من أجل دفعه للرحيل عن وطنه وتفريغ الأرض وتهويدها وطمس هويته العربيّة لمصلحة المستوطنين اليهود".
يرى عبد الجواد أن "إسرائيل" لجأت لهذه السياسة بحكم صعوبة إجراء عملية إبادة جماعيّة للفلسطينيين، أو ترحيلهم دفعةً واحدةً كما حدث خلال نكبة 1948. وفي المقابل فإنّ سياسة "السسيوسايد" تتكوّن من منظومةٍ متكاملة من الإجراءات والسياسات البطيئة والصامتة، التي تُحدث آثاراً فعّالة بعيدة المدى لإعاقة نمو المجتمع وتطوره الاقتصادي، وعزله عن محيطه وعمقه الإقليمي والعالمي، وتُعرّض المجتمع لضغوطٍ نفسيّةٍ عميقة في مجالات الحقوق المدنيّة وحقوق الإنسان. وهو ما سيُحوّل، وفق عبد الجواد، أبسط مظاهر الحياة اليومية إلى معاناة مستمرة تحت ضغوط شديدة الوطأة تؤدي إلى المس بالبناء الاجتماعي وبمعنويات السكان أفراداً وجماعات، واستبطان العنف داخلهم ليُعاد إنتاجُه نحو الجلاد والضحية، بحيث تؤدي مجمل العملية إلى تفكيك المجتمع ودفع السكان تدريجيّاً إلى ملاذ النجاة الوحيد، الذي يرى عبد الجواد أنّه سيكون عبارةً عن "ترانسفير" زاحفٍ وصامتٍ من خلال الهجرة.
ختاماً
ليس الهدف مما سبق نفي الطابع العنصري عن المشروع الصهيونيّ، ولا التقليل من النضال القانونيّ والحقوقيّ الفلسطيني، أو الدعوة إلى إهماله، إذ إنّ للنضال القانونيّ جدواه وأثره المهم. ولكنَّ الهدف هو لفت الأنظار إلى أنّ تبني خطاب الأبارتهايد هو إعلانٌ عن نهاية القضية الفلسطينية كقضيةٍ سياسيةٍ وقضية شعبٍ يسعى للتحرر وتقرير المصير، وتحوّلها لقضيةٍ إنسانيّة حقوقية. وهو خطاب لا يختلف في مغزاه عن سياسة السلام الاقتصاديّ التي تمارسها "إسرائيل" وأميركا وأوروبا عبر حصر مواقفهم من القضية الفلسطينية بتقديم بعض المساعدات المالية للفلسطينيين بهدف ضبطهم.
في الختام، إنّ توصيف حالتنا يجب أن يكون نابعاً مما نريد نحن، وأن نأخذ فيه بعين الاعتبار جوهر المشروع الصهيوني وأهدافه المعلنة والمكررة، التي كان آخر تجلياتها ما قاله نائب وزير الشؤون الدينية الصهيوني ماتان كاهانا: "لو كان هناك زرٌّ يمكن الضغط عليه، وإخفاء كل العرب من هنا، وإرسالهم في قطار سريع إلى سويسرا، ليعيشوا حياة رائعة، سأضغط على هذا الزر".