4 ديسمبر 2022

المونديال في بيت عتابا

المونديال في بيت عتابا

 ربما تكون فيديوهات الشاعر اللبناني للزجل والتراث الشعبي سهيل صقر هي الأكثر تداولاً وتفاعلاً على شبكات التواصل الاجتماعي في أيام المونديال المُقام حالياً في قطر، فصقر من أكثر شعراء الزجل قدرةً على تقريب جيل الشباب العربيّ من الزجل الشعبي والغناء العامي المَحكي.

 وعن شعرهِ الزجل خلال أيام المونديال، يُطل صقر كل يوم تقريباَ من بيته أو من أحد المطاعم أو المقاهي اللبنانية، مُعلّقاً على نتائج المباريات، إما بقصيدة أو موشح زجل أو ردة قرّادي. كان أجملها تلك التي ردّدها من داخل أحد متاجر بيع ملابس فرق كرة قدم المونديال لصاحبه من عائلة الحشيّمي في بر الياس، حيث ردد الشاعر صقر، وهو يرتدي "تيشرت" منتخب البرازيل قبيل مباراته الأولى ضدّ منتخب صربيا، ردة قرّادي مطلعها:

 واصل هالصقر التيّمي
ع محلك يا ابن حشيّمي
يلبس بدلة لبرازيل
ويحلّق فوق الغيّمة....

 الليلة رح بنوحوا الصِرب
ع أهدافك يا برازيل
ومعهن رح منكفي الدرب
وسويسرا من الدوحة نشيل

الكاميرون بدو يوكل ضرب
يبكّي لأسودي والفيل
وع الألماني نشن الحرب
ونحبسهم جوا الخيّمة...

لبطولة كأس العالم "المونديال" هالةٌ اجتماعيّة وثقافيّة لا رياضيّة فقط، كما يُعتبر المونديال موسماً له وقع في كسر اليومي وإيقاعه من حياة المجتمعات والشعوب في كل المعمورة. كما أن هذه البطولة بالذات تحوّلت إلى مناسبة تيّقظ فيها الوجدان السياسيّ الجمعيّ لدى الشعوب العربيّة من المحيط إلى الخليج، خاصّةً أن المونديال يجري لأول مرّةٍ على أرضٍ عربيّة، وبمشاركة أربع منتخبات عربيّة، نجح بعضها في تقديم أداءٍ كرويّ مميّز.

 أما عن مشاركة المنتخبات العربية تاريخيّاً في المونديال، فقد كانت مصر أول دولة عربيّة يشارك منتخبها فيه، وذلك سنة 1934، وقد أُقيمت البطولة وقتها في إيطاليا. إلا أنّ ذاكرة الشعوب العربيّة مع المونديال تعود إلى سنوات السبعينيات من القرن الماضي، وذلك بالتزامن مع دخول جهاز التلفزيون إلى البيت العربيّ، وتحديداً في فلسطين.

  التلفاز وذاكرة التباري

 الذي يجدر ذكره في هذا السياق، أن المثابرة على اقتناء جهاز التلفزيون في فلسطين، وخصوصاً في الجليل، كان متصلاً إلى حدّ كبير برغبة الناس في مشاهدة مباريات كرة القدم ومباريات الزجل اللبناني معاً. كانت أشهر مباراة زجل لبناني عرفها لبنان ومعه أهالي الجليل في فلسطين، تلك التي تنافست فيها جوقة زغلول الدامور بقيادة الشاعر الراحل زغلول الدامور، ضدّ جوقة خليل روكز بقيادة الشاعر موسى زغيب، في قلعة بيت مِري. والذي أعطى شهرةً واسعةً لتلك المباراة هو مشاركة زغلول الدامور فيها بعد موت أخيه ودفنه بساعاتٍ قبل المباراة.

 واللافت في تاريخ زجل لبنان الشعبي، أنَّ أكبر المباريات الزجلية وأشهرها كانت تُقام في ملاعب كرة القدم، إذ حشد شُعار (شعراء) الزجل اللبناني في ملاعب الكرة أكثر مما حشدت فرق كرة القدم اللبنانية ذاتها، ومن أشهرها مباراة أو حفلة المدينة الرياضية سنة 1972.

تعود ذاكرة الزجل والشعر الشعبيّ الفلسطينيّ المرتبط ببطولة كأس العالم إلى سنة 1982، حين أُقيمت البطولة في إسبانيا، والتي تشكّل فيها حبُّ الناس إلى القميص الأصفر -  البرازيل التي كانت وصيفة المونديال. والأهم من البرازيل هي الجزائر، المنتخب العربي وحكايته، بل حكاية الوجع العربي كله مع المونديال، والتي ظلت مسترخيةً عبر بيت من شعر العتابا، ما يزال عالقاً في ذهن معظم أهالي الجليل في فلسطين.

 عُرس وفوز ومؤامرة

كان الشاعر الحادي قاسم الأسدي المُكنّى بـ"أبو غازي" وأخوه محمد الأسدي "أبو سعود" بجوبان قرى الجليل والمثلث في الداخل الفلسطيني طوال كل صيف لإحياء الأعراس وزف العُرسان. وكُنّيا بـ"الديراوية" نسبةً لقرية دير الأسد الواقعة في شاغور الجليل، وأطلق عليهما أيضاً اسم "ولاد حميّد" وحميّد هو جدهما، واشتهر الديراوية بردتهم الشعرية المُغنّاة "آه يا أم حمادة".

في أواسط شهر حزيران/يونيو من صيف عام 1982، وصل الحاديان "الديراوية" لإحياء سهرة عُرس في إحدى قرى الجليل، ويقال إنها كانت في كفركنا "قانا الجليل". انتبه الحاديان إلى قِلّة حضور الضيوف في العرس، واستياء والد العريس وحزنه لذلك. تبيّن أنّ تأخر المدعوين عن العُرس سببه مباريات بطولة كأس العالم، وفي ذلك المساء تحديداً كانت الجزائر على موعدٍ مع التاريخ، إذ لاقى منتخبها الوطني منتخبَ ألمانيا الغربية، على ملعب مدينة خيخون الإسبانية. 

وفيما سهرة العُرس ظلّ حضورها متواضعاً، كانت الصيحات تنبعث من نوافذ البيوت المُحيطة بالعرس، صيحة أولى، وصيحة ثانية كانت هستيرية، ثم بدأت الوفود، المدعو وغير المدعو، تفد إلى العرس بالرودحة والتراويد، فقد فازت الجزائر العربيّة على ألمانيا الغربية بهدفين لهدفٍ واحد.

عندها أوقف الحاديان "الديراوية" صفَّ السحجة المتحلق استقبالاً للوافدين إلى العرس، وصاح أبو غازي بيت شعر عَتابهِ المشهور بعد جرة أوووووف مدوّية وقال:

 الديراوي ع ديرتكم  جا زائر..  (جاء زائراً)
مثل زئرة الأسد صوتو جا زائر (جاء يزأر)
فريق عربي من أرض الجزائر
لألمانيا الغربية قام وغلااااب...

 كانت الجزائر بلداً مُلهماً للعرب والفلسطينيين خصوصاً، على إثر ثورة التحرير فيها، فدماء شهدائها كانت ما تزال حارة وحُرة في الوجدان العربي. كما صادف ذلك العام اجتياح "إسرائيل" مدينة بيروت وملحمة دفاع الفلسطينيين عنها. فازت الجزائر في حينه، وكان فوزها عروبيّاً ووجدانيّاً بالنسبة للعرب، وما زال ذلك الفوز مقروناً ببيت شعر عتابا أبو غازي.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

كانت تلك المباراة هي الأولى في المجموعة التي ضمّت كلّ من الجزائر وألمانيا والنمسا وتشيلي. في المباراة التالية خسرت الجزائر أمام النمسا بهدفين نظيفين، بينما في المباراة الثالثة والأخيرة للمجموعة استطاعت الجزائر اكتساح التشيلي وهزيمتها بثلاثة أهداف مقابل هدفين، مما يعني تأهل الجزائر إلى المرحلة التالية.

غير أن الجزائر لم تتأهل في حينه، فقد كانت تعرف النمسا التي لعبت مع ألمانيا بعد مباراة الجزائر والتشيلي بيومٍ واحد، أنّ فوز ألمانيا عليها بفارق هدفٍ وحيد سيؤهل ألمانيا والنمسا معاً، ويُخرج الجزائر من البطولة وهذا ما حدث فعلاً، فكانت المؤامرة. أكبر مؤامرة كروية في تاريخ البطولة، والتي ما زالت تستحضر ألمنا لتستنفرَ أملنا بفوز كلِّ فريقٍ عربيّ إذا ما لعب ونافس في البطولة إلى يومنا هذا. ويبقى بيت شعر أبو غازي ذاكرة حيّة لحكاية الفوز والمغازي..