بعد مسارٍ طويلٍ ومُعَقَّد من المفاوضات بين أطرافٍ إقليميّة وأمميّة، أعلنَ يوم الأربعاء الماضي (19 أغسطس/آب 2021) السفير محمد العمادي، رئيس "اللجنة القطريّة لإعادة إعمار غزّة"، عن توقيع مذكّرة تفاهمٍ مع الأمم المتحدة تقضي بإعادة صرف المنحة القطريّة للأسر الفقيرة في قطاع غزّة، وهي المنحةُ التي جمّدت "إسرائيل" موافقتها على إدخالها للقطاع منذ العدوان الأخير في مايو/ أيار الماضي.
اكتفى بيان مكتب العمادي المُقتضب بالإشارة إلى أنَّ عملية صرف المنحة ستتمُّ عبر "برنامج الغذاء العالميّ" التابع للأمم المتحدة، وبواقع 100 دولارٍ تُصرف شهريّاً لـ100 ألف أسرة عبر إحدى البنوك العاملة في القطاع. أما بقية المعلومات والتفاصيل فلم ترد إلا في الصحافة الإسرائيلية، أو على شكل تقديراتٍ لدى بعض المُحلّلين.
بحسب ما نشرته هيئة البث الإسرائيلية "كان"، فإنّه ووفقاً لمذكرة التفاهم الأخيرة ستُقلَّص المنحة من 30 مليون دولار شهريّاً لتصبح 20 مليون دولار، إذ استُثنيت منها المخصّصات التي كانت تُدفَع كرواتب للموظفين في حكومة غزّة. أما الـ20 مليون دولار، فسيتمُّ تخصيص 10 ملايين دولار منها لتمويل الوقود اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزّة، والـ10 المتبقية ستُخَصّص للصرف على الأُسَر الفقيرة، بواقع 100 دولار على كلِّ أُسرة.
بحسب المصدر ذاته، سيتمُّ إصدار بطاقاتِ صراف آليّ عليها شعار "اللجنة القطريّة"، وشعار الأمم المتحدة، وتكون شخصيّةً لكل ربّ أسرة، ومن خلالها يمكنهُ الحصول على المخصّص الشهريّ. وفيما قال بيان العمادي إنّ الصرف سيبدأ في سبتمبر/ أيلول المقبل، تقول الصحافة الإسرائيلية إنَّ ذلك لن يحصل قبل الـ25 من أكتوبر/ تشرين الأول القادم. أما بخصوص قائمة المستفيدين، فبحسب مراسل "كان" فإنّ القائمة تضم 160 ألف أسرة، وزعم أنّ جهاز المخابرات الإسرائيلي (شاباك) اعترض على عددٍ من الأسماء وأزالها من القائمة لارتباطها بحركة "حماس"، وفق ادعاءاته.
وتقول مصادر اقتصاديّة في قطاع غزّة، إنّ الصرف سيتمُّ من خلال بنك الإسكان، وهو بنكٌ أردنيّ المنشأ، تمتلك قطر حصةً كبيرة فيه (38% من رأس ماله)، ومن خلاله تدير عملياتها المالية الخاصّة بلجنة إعادة الإعمار. ووفقاً لمصدرٍ في اللجنة القطرية فلا تزال هنالك إشكاليةٌ فنيّة يجري العملُ على حلّها متعلقة بوجود فرعين فقط للبنك يعملان في غزّة، أي أن إمكانياته لا تسمح بعملياتِ صرفٍ لأكثرَ من 20 ألف مستفيد وفقاً للجدول الزمنيّ المُحدّد له.
السّلطة و"حماس".. OUT؟
عدا عن الإجراءات "التقنيّة"، واجهَ ملفُ المنحة القطريّة تعقيداتٍ أخرى أخرّت الوصول إلى تفاهمٍ بشأنه، من تلك التعقيدات رغبةُ السّلطة الفلسطينيّة بأن تكون أحد الأطراف الفاعلة في الإشراف على هذا الملف حرصاً منها على استعادة حضورها في مشهد قطاع غزّة، ومستغلةً التوجه الأميركي الإسرائيلي الساعي لتحييد "حماس" عن أي دورٍ اقتصاديّ هناك، وهو ما ينطبق كذلك على ملف "إعادة الإعمار". وفقاً لذلك، طالبت السُّلطة أن يتمَّ صرفُ المنحة من خلال البنوك التابعة لسلطة النقد الفلسطينيّة، وكان رئيس وزرائها محمد اشتية قد صرّح مطلع الشهر الجاري بالقول إن السّلطة "مستعدة لتوزيع المنحة القطريّة من خلال وزارة التنمية الاجتماعيّة"، أي تلك التابعة لحكومة رام الله.
ما حصلَ في النهاية أنّ السّلطة استثنيت من هذا الاتفاق، وفق ما هو منشور حتى الآن، ودخلت الأمم المتحدة في المقابل على الخطّ، وتولّت هي الإشرافَ المباشر على عملية الصرف، مقابل عمولةٍ تصل إلى 3.5% تقريباً. بالنسبة لـ"إسرائيل" يُعد ذلك تطوراً لصالحها، إذ كانت تسعى دوماً لتحييد "حماس" عن تولي إدارة الملف، ولطالما كتبتْ صحافتها بغضبٍ عن مشهد "الحقائب المُحمّلة بالأموال" والتي كانت تدخل عبر حاجز "إيرز" وتُسلم لحكومة غزّة.
اقرؤوا المزيد: "المحررات.. حين صارت الأرض راتباً لموظفي غزّة".
أما "حماس"، فلم تُصدر بياناً رسميّاً حول الاتفاق وموقفها منه سوى تصريحات لموسى أبو مرزوق، نائب رئيس الحركة في الخارج، قدّم فيها بعض المعلومات عن فحوى الاتفاق. فيما قالت مصادر مقرّبة من الحركة (في حديثٍ مع معدّ التقرير) إنّ الحركة حالياً في "حالة تقييمٍ للمواقف"، وإنّها "ما زالت تنتظر تطبيقاً عملياً لما جرى التوافق عليه". وبحسب المصدر ذاته، فإنّه يُقدّر أنّ "حماس" تنازلت عن شرط تسييرها لملف المنحة داخل غزّة، ولكنّها في المقابل شدّدت في رسالتها للوسطاء القطريين على ضرورة أن لا تكون هنالك أيّ تقليصات إسرائيليّة تشمل قائمة المستفيدين من المنحة، وأنها جاهزة لتفعيل أدوات الضغط الميدانيّ والعسكريّ للضغط على "إسرائيل" في هذا الجانب. يُذكر أن الاتفاقية استثنت موظفي حكومة غزّة من المنحة، والذين كان الجزء الأكبر من رواتبهم يُدفع من خلال أموال القطريين.
"عبء" المنحة القطريّة..
تعود قصةُ المنحة القطريّة إلى تفاهمات أكتوبر/تشرين الأول 2018، والتي نتجت عن جهود الوساطة التي قادتها مصر بين حركة "حماس" ودولة الاحتلال. جاءت هذه التفاهمات في محاولةٍ إسرائيلية لوقف فعاليات مسيرات العودة التي كانت قد بدأت في مارس/آذار من العام ذاته، وتركت خسائر اقتصاديّة إسرائيلية كبيرة وشكّلت تهديداً أمنيّاً مستمراً لمستوطنات الغلاف. جاء هذا الاتفاقُ في عهد حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو، وكان يهدفُ إلى قطع الطريق أمام "حماس" لتصعيد الأوضاع الميدانيّة في غزّة، وهو يُطلق عليه أحياناً "شراء "إسرائيل" للهدوء" في غزّة من حقائب الأموال القطرية.
بحسب تلك التفاهمات، تتوقف الفعاليات التصعيدية والبالونات الحارقة من قطاع غزّة مقابل عدّة "تسهيلات"، منها سماح "إسرائيل" بتنفيذ مشاريع إغاثية تموّلها قطر عبر "اللجنة القطرية لإعادة الإعمار"، وكذلك السماح بدخول أموالٍ قطريّة تغطي رواتب موظفي حكومة غزّة، وتموّل الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء فيها. هذا إضافةً إلى مشاريع أخرى تصرف عليها قطر مثل قروض الزواج، ودعم الأندية الرياضيّة، وسدّ ديون الطلاب الجامعيين للجامعات.
اقرؤوا المزيد: "مسيرات العودة.. بين الميدان والسياسة"
خلال عامين تقريباً من صرفها، صارت المنحة تشكّل رافداً مهماً من روافد العجلة التجاريّة في القطاع، إذ يستفيد منها حوالي 37% من أسر قطاع غزّة، وتُقدّر مساهمتها بحوالي 20% من الاستهلاك السلعيّ في غزّة الذي يبلغ مجموعه تقريباً 50 مليون دولار شهريّاً. وبالنظر لمستوى الأجور الشهريّ في غزّة والذي يقترب من 200 دولار، فإنّ المنحة توفر 50% منه، ولذلك بقيت ضمن دائرة اهتمام الناس طوال الفترة الماضية. يُذكر أنّ 65% من سكان القطاع يعانون الفقر، ويعتمد 80% منهم على المساعدات الدوليّة.
لكنّ تلك المساهمة بقيت تدورُ في إطار الصرف الاستهلاكي والتشغيل المؤقت، أي أنّ الأموال تُوضع في مصارف الاستهلاك وشراء السلع الأساسية، وأحياناً في توفير فرص تشغيلٍ مؤقتة، ولم يتم تحويلها أو تخصيصها لصالح مشاريع تنمويّة طويلة الأمد يمكن أن تساهم ولو قليلاً في الافتكاك من حالة الارتهان للمساعدات الخارجيّة، ولضغوطات الإسرائيليين ووسطائهم. على مدار الـ30 شهراً الأخيرة، بلغت قيمة الأموال القطريّة التي ضخت في غزّة حوالي 700 مليون دولار، ومنها 300 مليون دولار ذهبت لشركات الوقود الإسرائيلية، كان يمكن أن يتم تحديد وجهاتها لتُصرف على مشاريع تنمويّة تُقدّم قيمة مضافة لحل أزمات القطاع وأبرزها الكهرباء، وتساهم في تحريك عجلة الإنتاج، وتحسين البنى التحتيّة للقطاعات الصناعيّة المتضررة، وبالتالي توفير فرص عمل مستدامة أكثر، وعدم الاكتفاء بتأطيرها "كمساعداتٍ إنسانية".
يبدو هذا النقد اقتصادياً في طابعه، لكنّه أيضاً غير منفصلٍ عن التعامل السياسيّ مع ملف حصار غزّة، وبما يشمل المنحة القطريّة والتعامل معها. أرادت "إسرائيل" طرفاً عربيّاً يكون على خط التواصل والتفاهم مع "حماس" ويساهمُ في تقديم تنفيسات معيشية للقطاع -جاءت على شكل أموال- حتى لا ينفجر في وجهها، فكانت قطر. وقطر بدورها، أرادت أن تُعزّز دورها في المنطقة وتزيد من رصيد قوتها الناعمة فيها، وهو ما يجدر - بالمناسبة - الانتباه إليه خاصة لمن يبالغون بالاحتفاء بالدور القطريّ دون الالتفات إلى سقفه وإلى تفاعله مع الشروط والإملاءات الإسرائيلية.
اقرؤوا المزيد: "غزّة.. هل كسر الحصار ممكن؟"
في المقابل، ربما أرادت "حماس" أن تكون المنحة القطريّة باباً للتنفيس عن الناس وتخفيف آثار الحصار عليهم، خاصة مع شبه انعدام لمصادر التمويل الأخرى، لكنها مع الوقت، ومع جولات التصعيد المتفرقة، صارت بنداً إضافيّاً في بنود التفاهمات والتفاوض الخاضعة -بطبيعة الحال - للضغوطات الإسرائيلية. وهذا ما ظهرَ مؤخراً في تجميدها ومنعِ صرفها بعد العدوان الأخير، وبمحاولة "إسرائيل" الاستفادة من المنحة لانتزاع مواقف من "حماس" فيما يخص التصعيد أو جنودها المحتجزين.
ورغم أنّ "حماس" ترفض حتى اللحظة، وبشكل كليّ، الربط بين ملف الإعمار أو المنحة وبين ملف الجنود الإسرائيليين، إلا أنّنا نشهد بعد كلّ عدوان تقريباً بنوداً جديدة تُضاف إلى قائمة ما يتعلق بالمعابر وحدود مساحة الصيد وغيرها من بنود "التفاوض" أو "التفاهم" عليها، أو بالمعنى الأدق؛ تعمل "إسرائيل" على ابتزاز المقاومة فيها وحصر دورها ودور سلاحها في القضايا المعيشية. هذا عدا عن تشكيل المنحة القطرية مادة دسمة للتجاذبات الإسرائيلية الداخليّة بين الكتل السياسية بين قادة المعارضة الحاليين والائتلاف الحالي، وهو ما يضع أوضاع كثيرين في غزة رهن تلك التجاذبات.
في النهاية، وفي ظلّ ظروف الحصار الصعبة، يبقى السؤال عن جدوى استمرار التعامل مع الحصار وما يتعلق به من قضايا بنفس هذه الاستراتيجية، التي من الممكن أن تُساهم في إبقاء غزّة غارقةً في مستنقعٍ من المُسكّنات تُحدّد سقفها "إسرائيل"، مع إبقاء الحصار قائماً دون كسره تماماً.