23 ديسمبر 2019

المقبرة

المقبرة

يحتشد المشيّعون في انتظار أن يُلقي أهلُ الفقيد نظرةَ الوداع على فقيدهم عبد الوهاب. وفيما عويل النساء ينبعث من فوق النعش، يجلس الرجال مصفوفين على كراسيهم، إلا كرّسياً واحداً فارغاً في صدر المجلس، وكأن المشيّعين الوافدين يتفادون الجلوس عليه، لأن إلى جانبه يساراً يجلسُ باجس، ومن يجرؤ على الجلوس على يمين غسّال الموتى وحاووط1حاووط: كلمة عاميّة تُستخدم للإشارة إلى الحارس أو الناطور، مشتقة من "أحاط الشيء واعتنى به" أو الذي يحتاط الناس به لحماية ممتلكاتهم وأرزاقهم، ويُطلق هذا التعبير أحياناً على حارس المقبرة. المقبرة؟!. لدى أهل البلد اعتقادٌ أنّ من يجلس في بيت العزاء إلى جانب باجس، فسيكون المرشح القادم على لوح غسيله، وهذا فألٌ يهابه الناس ويمقتونه.

في قرية العين الجليلية داخل الأراضي المحتلة عام 48، مقبرةٌ عايشها باجس وعاش معها كما لو أنها مُلكه، فهو أكثر من مجرد حاووط يحرسها. بدأ شبابه حفّاراً لقبورها، ثمّ مشرفاً على بنائها، ومقلّما لما تيسر فيها من نبات، إلى أن فرض نفسَه على المجلس البلديّ موظفاً فيها. أما غسل الأموات فهي مهنة أبيه التي ورثها عنه مؤخراً. باجس من عائلة عُرف عنها امتهان حِرف المقابر والموت، فخاله خير الدين الذي كان يعملُ حانوتياً لمقبرةٍ يهوديّةٍ في "بلدة العفولة". وما زالت قصته محل تندرٍ إلى يومنا، إذ أوقفته الشّرطة مرةً وسألتْهُ عن هويته وعمله، فأجابَـهم خير الدين بعبريّـته الركيكة "كوفر يهوديم" أي "بقبر يهود"، صفعه الشّرطي يومها وقاده إلى مركز الشّرطة كما يُروى. "آه خالي خير كان شغلتو يقبر يهود، وإن شالله منقبرهم كلهم"، يقول باجس.

يضحك باجس الحاووط ولا يبتسم، فالمقبرة أخذتْ منه مثلما أَخَذَ منها، وأسنانه المتبقية في فمه تبدو مثل شواهد القبور حين يضحك. حتى لغته وتعابيره عندما يُبدي رأيه في أمور الدنيا قادمةٌ من عالم القبر والموت، "أنا ببكيش غير على راس الميت" يقول باجس، ويقصد بأنه لا يأخذ الأشياء إلا من مصادرها. وحين تسأله عن توقعه في أي مسألة يردّ: "إحنا غسلّناه وكفّناه بروح عالجنة ولا على جهنم الله أعلم عاد". حتى مداعبته لحفيدته هي مداعبة قبورية: "تقبريني وتبحشي قبري بالإبري"، وهكذا. طبعاً، هذا لا يقول عن باجس، بقدر ما يقول إن للمقبرة قاموسها ومعجمها مثل أي كار أو حقل عمل في الحياة.

اسمها "المَجنّة"، وليست المقبرة، هكذا يراها باجس الحاووط مثل سائر أبناء جيله من أهل البلد، لأنهّا موطن الجنّ وملاذ المجانين في مخيال الفلاحين الذي يضج بالحكايا الشعبيّة والقصص الخرافيّة المتصلة بالجنّ والجنون اللذيّن يستوطنان المجنّة، ومن هنا كان اسمها. بينما يدعوها المشايخ وأهل العمائم واللحى بالـ"تربة"، وهي المدفن أو المدفنة بلغة لصوص المقابر الذين ينظرون إليها نظرةً ماديّةً، في محاولة لإسقاط حرمة الموت عن جثامينها، وبالتالي تبرير نبشها.

أما بنظر "الدولة" فهي "المقبرة"، وتلاشي تسمية "المجنّة" عن ألسنة النّاس لصالح "المقبرة" هو تعبيرٌ عن شكل تدخل الدولة في تنظيم الموت. من ينظر إلى المقابر اليهودية مقارنةً بمقابر العرب، يمكنه فهم ما معنى تدخل الدولة في موت الناس، فالدولة تُكسِب المقبرة اليهوديّة ملامحَ الحديقة العامة، وهذا يُخفّف من سطوة الموت على الناس إلى حدّ تمنيهم الموت فيها، لكنّه يُفقدُ المقبرةَ هيبتَها كما يقول باجس، فالمقابر وطقوسها الجنائزيّة هي من يمنح الموتَ سطوتَه وليس العكس.

المقبرة تستقبل الجثامين وليس الجثث، يؤكد الحاووط ملوّحاً بسبابته، والخلط بين الجثة والجثمان خطٌّ أحمر بالنسبة إليه. فعلاً، الجثة جسدٌ بلا هويّة أحياناً، ويصعب على المقبرة ابتلاعها. بينما الجثمان هو أكثر من جثة، والطقوس الجنائزيّة مثل: البكاء والغسل والنعش ومراسم الدفن هي التي تجعل الجثة جثماناً كي تحتضنه المقبرة. عن ذلك يقول باجس: تخيّل مثلاً أنَّ مجرماً يقتل أحدهم، فقد يخطر بباله دفنُ الجثة في أي مكان إلا المقبرة. في المقابل، فإنّ الأمن الجنائيّ عند بحثه عن جثةِ مفقودٍ، فإنّه يبحث عنها في كل مكانٍ دون أن ينتبه إلى المقبرة كموقعٍ محتملٍ لإخفاء جثةِ أحدهم فيه. يتذكر باجس يوم أن فُـقِـد غالب الأخرس واختفت جثته، فقد نكثت الشرطة القرية وكلّ الحقول المحيطة فيها إلا المقبرة. فالأمر يبدو كما لو أنّه توافقٌ ضمنيٌّ بين أيّ مجرمٍ والأمن على أن المقبرة ليست موطناً للجثث، إنّما للجثامين فقط، والتي يشترط العبور إليها صك الطقوس الجنائزيّة.

تعمّر المقابر عادةً أكثر مما تعمّر المدن والقرى نفسها، فكثير ما اندثرت مدن ودَرَستْ قرى ولم يبقَ منها غير مقابرها، فهي أبقى من بقاء البلاد المُقامة فيها. في المقابل، فإنّ أجيالاً قد تولد وتموت في أيّ بلد دون أن تشهد نشأة مقبرة جديدة، فإنشاء مقبرة أمر يحدث كلّ مائة عام مرةً وربما أكثر.

لا أحد من أهل العين يمكنه التأصيل لنشأة المقبرة فيها، ولا حتى باجس، فعمر المقبرة من عمر القرية. لم يعرف الناس غيرها لدفن موتاهم، بلا شك أنّها توّسعت غير مرة، وآخرها كما يذكر باجس كان في السبعينيات، بعد أن تبرع المرحوم الحاج كامل بنصف كرم لوزه المجاور لها. كانت المقبرة حتى ذلك الحين واقعة على أطراف القرية، بينما يحيطها اليوم أسمنت العمران من كلّ جانب.

في أواخر التسعينيات بدأت المقبرة تضيق، فقد غدت متخمةً بالأضرحة والقبور إلى أن صار الشّاهدُ على الشّاهد في بعض مواضعها، "فش محل تحط رجلك"، على حد تعبير حاووطها. يعني ذلك أن البلدة باتت تحتاج إلى مقبرة أخرى. باشر المجلس البلديّ إلى إنشاء مقبرةٍ جديدةٍ، غير أن قصة موت عبد الوهاب -الذي بدأنا عنه حديثنا- مع مشروع المقبرة الجديدة، قصة استوقفت باجس الحاووط والناس معه، وبدت مثار اهتمامهم حول المقبرة وعلاقة وجودهم بها.

تقدّم المجلس البلديّ عام 2000 بطلبٍ إلى وزارة الداخليّة الإسرائيليّة من أجل منحه رخصةً لإقامة مقبرةٍ جديدةٍ في البلدة. مضت سنوات بعد ذلك وأمرُ منح الترخيص قيد البحث، غير أن مقبرة العين أصبحت أكثر ضيقاً مما كانت عليه، وبدأ لغط الناس يزداد بعد كلّ جنازة وتشييع في البلدة، "يلعن أبوكو وين بدنا ندفن أمواتنا؟"، كان باجس يسبُّ الدولة متأففاً.

رئيس المجلس البلديّ لم يعد يجرؤ حتى على حضور مراسيم الدفن لأيّ جنازة، فألّسنة الناس لم تكن لترحمه، وعلى مسمعه، مُحمِّلةً إياه مسؤوليةَ التأخير في إنشاء مقبرةٍ جديدةٍ. أكثر ما كان يزعج أهلَ البلدة هو اضطرارهم لحفر قبورٍ قديمةٍ، مع العلم أنّ الشرع يُجيز ذلك، إلا أنّ مشهد العظام والجماجم المستخرجة من بطن الأرض بدا مستهجناً بالنسبة إليهم، حتى باجس يمقت فكرةَ أن يُسجى جثمان على رفات آخر.

لم يكن موظفو قسم التخطيط في المجلس البلديّ يعرفون حجم التعقيد المترتب على منحهم الترخيص، فالأمر ليس كما هو الحال مع منح ترخيص لإقامة مدرسة أو حديقة عامّة. الذي زاد من الأمر تعقيداً هو دخول جهاز "دائرة أراضي إسرائيل" على الموضوع من أجل مصادقتها على منح قطعة أرض تُقام عليها المقبرة.

تعتبرُ "دائرة أراضي إسرائيل" المقبرةَ من أكثر المنشآت حساسيةً، ووزارة الداخليّة تسمّيها في العبريّة "متكان رجيش" – أي منشأة حساسة – لأن منح قطعة أرض لإقامة مقبرة عليها يعني تأبيداً للأرض وإخراجاً لها عن سلطة الدّولة، وهذا ما يستوجب التريّث قبل المصادقة عليها. فالدولة يمكنها منح قطعة أرض لإقامة أي مشروع عليها، ومن ثمّ استعادتها بعد خمسين عاماً أو  مئة عام، وبالتالي إعادة منحها لمشروع آخر، إلا في حالة المقبرة، فالأرض تؤبدُ موطناً لجثامين الموتى وبلا رجعة. ينطبق هذا على عموم الدول الحديثة، فما بالك في دولة مثل "إسرائيل" التي جشعها لابتلاع الأرض لا يقلُّ عن جشع المقابر لالتهام الجثامين والجثث.

عبد الوهاب الأحمد طبّاخ مطعم "الحج كحيل" في يافا العربية، هو ابن العين ، كانت صحته مثل الحصان، وعافيته تجعله قادراً على اقتحام حائط والنفاذ منه، غير أن ألماً ألمّ به ولازمه في الرأس فجأة. وفيما كان يخضع لفحص طبيّ، انتشر خبر موافقة وزارة الداخليّة على منح مقبرةٍ جديدةٍ لأهل العين بين عشية وضحاها. كان ذلك عام 2015، وبعد انتظار دام خمسة عشر سنةً.

رئيس المجلس البلديّ أصدر منشوراً زفّ فيه الخبرَ لأهل البلدة، كانت فرحة الناس وقتها لا توصف إلى حدِّ تبادلهم التهاني والحلوى. تخيّل أنْ يفرحَ الناس لأنهم أمّنوا موضع موتهم!! لم يكن ينقص سوى إقامة عرس، يقول باجس مستغرباً. أما عن عبد الوهاب فنتيجة فحصه كانت "من هداك المرض الله يكفينا شره"، توّرم سرطانيّ في الرأس!

لم يمهل المرض عبد الوهاب كثيراً، فقد تأزّم الرجلُ نفسيّاً وانهار جسديّاً، خصوصاً وأنّ أزمة ذلك المرض تكمن في العلاج أكثر مما في الداء نفسه. وفيما إعداد المقبرة الجديدة شرقي القرية يجري على قدم وساق، كان عبد الوهاب يتلاشى شيئاً فشيئاً، بدأ "يسخن ماؤه"، على حدّ تعبير باجس، إلى أن أذاع خطيبُ الجامع نبأ موته. كان ذلك في أيلول سنة 2015 .

على الرغم من أنّ المقبرة الجديدة لم تجهز من حيث البناء والبُنية التحتيّة، غير أنّ قبر عبد الوهاب قد حُفِرَ كأول قبرٍ فيها، فجثمانه من سيفتتح المقبرة الجديدة، ورئيس المجلس البلديّ يستعد بفارغ الغبطة والسّرور لذلك.

حين أُدخِلَ جثمان عبد الوهاب الجامعَ، وبعد الصّلاة عليه، وقف إمامُ الجامع ونادى بالمصلين المشيّعين قائلاً: "يا إخوان صلّوا على الحبيب، أخوكم عبد الوهاب رحمة الله عليه ترك وصية كتب فيها: إدفنوني في المقبرة القديمة"، صَمَت الشيخ، وخيّم الصمت على عموم المشيّعين.

ليس من عادة أهل العين ردّ طلبٍ جاء في وصية راحل. دُفِنَ عبد الوهاب حيث أوصى في قبرٍ انتزعَـتْهُ معاولُ أقاربه من جسد المقبرة المكتظة انتزاعاً، إذ امتدّ نصفُ قبره تحت سورها. بعد دفنهِ بدتْ ملامحُ الاستفزاز والحيرة على وجه رئيس المجلس البلديّ الذي دار كما يُقال "بالسراج والفتيل" من أجل انتزاع رخصةٍ لمقبرةٍ جديدةٍ، غير أنّ باجس اقترب منه قائلاً: "نحن الأحياء من يحتاج إلى مقبرة جديدة وليس الأموات". حتى في الموت يبحث المرء منّا عن أنسة تؤنس وحشة وحدته فيه. بقي لعبد الوهاب قبران، واحدٌ لجثمانه وآخر ظلّ محفوراً على اسمه في المقبرة الجديدة، فارغاً إلى يومنا.



25 مايو 2019
أعمى علما
حكاية مسحّر

من على هضبةٍ ما بين حِشمة شراكسة قرية الريحانية (قضاء صفد) غرباً، ومجون مغاربة قرية ماروس شرقاً، كانت قريةُ علما…