في قطاع غزة لا شيء ينجو من نيران الحرب الإسرائيليّة المستعرة. تحوّلت الجامعات إلى ركام، والطلاب إلى نازحين، والأساتذة إلى شهداء. لم يقتصر الدمار على الحجر، بل امتد إلى محاولة محو العقول وشلّ المنظومة التعليمية.
على وقع الغارات والانفجارات في جباليا شماليّ القطاع، يستعيد صبحي أبو وردة، طالب هندسة الميكاترونيكس في جامعة الأزهر، تفاصيل فقدانه لجامعته التي دمّرها الاحتلال.
كان صبحي قد أتمّ عامه الثالث في الجامعة قبل أن تندلع الحرب، واستكمل عامه الرابع بصعوبة بالغة عبر التعليم الإلكتروني. يستذكر بحسرة مختبرات جامعته التي تحوّلت الآن إلى رُكام، بعد أن كان يُجرّب فيها ابتكاراته ومشاريعه.
اقرؤوا المزيد: "خسرت المنحة".. لماذا تنهي الجامعة حلماً أجلته الحرب؟
لجأ صبحي مع عائلته إلى حرم جامعته في كانون الأول/ ديسمبر 2023، ليجد ساحتها مكتظة بالخيام، ومعدّاتها تحوّلت إلى مواقد للطهو. يصف المشهد بأنه مزيج من الحسرة والامتنان؛ حزنٌ على ضياع صرح علميّ، وامتنان لأنّ هذا الصرح آوى من ظل حيّاً.

أنهى صبحي عامه الأخير عبر التعليم الإلكتروني، لكن في ظلِّ انقطاع الكهرباء والإنترنت، وبينما تقترب دبابات الاحتلال من منزله، يقول إنّ استفادته لم تتجاوز نصف ما كان مأمولا.
قصة صبحي تتكرّر مع أكثر من 87 ألف طالب جامعي في غزة، كانوا موزّعين على 18 مؤسسة أكاديمية. وفق أحدث معطيات نشرها مكتب الإعلام الحكومي، فإنّ الاحتلال دمّر خلال الحرب 142 جامعة ومدرسة ومؤسسة تعليميّة كليّا، في حين طال الدمار الجزئيّ 364.
ثأر إسرائيلي طويل مع التعليم
استهدف جيش الاحتلال الإسرائيليّ في الأيّام الأولى للحرب، ستّ جامعات، وهي: "الإسلامية" و"الإسراء" و"الرباط" و"الأزهر" و"الأقصى" و"القدس المفتوحة" بمختلف فروعها.
في اليوم الخامس من الحرب، بدأت الغارات على الجامعة الإسلامية، مدمّرةً معظم مبانيها. ولم يكن ذلك الاستهداف الأول، فقد سبق أن قُصفت في حروب 2008 و2014، وأُغلقت لسنوات خلال الانتفاضة الأولى بسبب مشاركة طلابها وأساتذتها في الفعاليّات. رغم ذلك، حصلت على جوائز دولية، منها "النجمة الدولية للريادة في الجودة" في باريس عام 2013.

كذلك، جامعة الأزهر التي تأسست عام 1991، لم تكن استثناءً، فقد تعرّضت مع بدايات الحرب لقصف متكرر. وسبق أن تعرضت لغارات مُدمّرة صيف 2018، ما ألحق بها أضراراً كبيرة، ورغم ذلك حققت إنجازات، أبرزها فوز البروفيسور محمود سرداح، أستاذ أمراض الدم والوراثة الجزيئية بكلية العلوم وعميد البحث العلمي سابقاً، بجائزة أعضاء هيئة التدريس العالمية "Global Faculty Award" عام 2021.
وفي الشهر الثالث من حرب الإبادة، نسف الجيش الإسرائيليّ مباني جامعة الإسراء بما فيها "المتحف الوطني"، وفي شباط/ فبراير 2024، طال القصف مباني جامعة الأقصى في غزة وخانيونس، وأطلق الجيش النّار على النازحين الذين لجؤوا إليها، فاستشهد العشرات منهم، وفي آب/ أغسطس 2024، كان الجنود يتلذذون بنسف مباني الكلية الجامعية التطبيقية السبعة، الواقعة في حي تل الهوى جنوب غرب مدينة غزة.
اغتيال النخب.. تصفية ممنهجة للنخبة الأكاديمية
لم تقتصر منهجيّة الاحتلال على تدمير البنية التعليمية في قطاع غزة، بل امتدّت لتطال العقول التي تقود العمليّة التعليمية.
اغتال الاحتلال الدكتور سفيان تايه، عالم الفيزياء ورئيس الجامعة الإسلامية، الذي استشهد مع عائلته في مجزرة يوم الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، التي راح ضحيتها نحو 50 شهيداً.
تولى الدكتور سفيان تايه رئاسة الجامعة الإسلاميّة قبل الحرب بشهرين، كان عالمًا مرموقًا وقدّم أبحاثاً في الفيزياء وعلوم الفضاء لجامعات دولية، منها مشروع في أجهزة الاستشعار البصرية لجامعة مونتريال الكندية.
اقرؤوا المزيد: حراك الخيام المنصوبة في أمريكا
كما استُشهد الدكتور سعيد الزبدة، رئيس الكلية الجامعية التطبيقية، والدكتور أحمد الدلو، عميد كلية الطب في جامعة الأقصى، المتخصص في علم الأدوية الإكلينيكي.

أمّا الدكتور عدنان البرش، اختصاصي جراحة العظام والأستاذ بكلية الطب في الجامعة الإسلامية، فقد اعتُقل في أثناء علاجه للجرحى، وتعرّض لتعذيب أدّى إلى استشهاده داخل سجن "عوفر" يوم 19 نيسان/ أبريل 2024.
وتضم قائمة الشهداء الأكاديميين أكثر من 150 أستاذاً جامعياً وباحثاً، استشهدوا في حرب بدا أنّ أحد أهدافها تصفية النخبة العلميّة في غزة.
محاضرات بين الدبابات
رغم كلّ ذلك، لم تتوقف المحاولات لإنقاذ التعليم، فقد برزت مبادرات متعددة لاستدراك العملية التعليمية لطلبة الجامعات. يقول الأكاديميّ في "الكلية التطبيقية"، محمد مشتهى، إن الجامعات اعتمدت على البنية الرقمية التي أُنشئت خلال جائحة كورونا، وأطلقت التعليم الإلكتروني بشكل عاجل، رغم استحالة تنفيذ المساقات العملية.

ويشير مشتهى إلى أن الضرر الجسيم الذي ألحقته الحرب بالبنية التحتيّة للمؤسسات التعليمية، وكذلك فقدان عدد كبير من الكوادر الأكاديمية والعاملين، يتطلّبان تحرّكاً حقيقياً من الأطراف كافة، وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم العالي، لإعادة إعمار الجامعات، وإطلاق مبادرات توأمة مع جامعات محليّة وعربية.
وتطوّع أكاديميون من جامعة بيرزيت لتدريس مساقات لطلبة غزة. وعن ذلك يقول أستاذ الإعلام صالح مشارقة، إن العملية التعليميّة خلال الحرب واجهت ظروفاً كارثية، إذ إن آلاف الطلبة التحقوا بالمساقات، إلا أن العقبات كانت هائلة، وعلى رأسها قطع الاحتلال للاتصالات والإنترنت عن أحياء كاملة، ما حال دون مشاركة الطلبة في المحاضرات المباشرة.
اقرؤوا المزيد: أين اختفى طلبة جامعات الضفّة؟
ولتجاوز هذه العقبات، لجؤوا إلى تسجيل المحاضرات صوتيًا وإرسالها إلى الطلبة عند توفّر الاتصال لتقليل الفاقد التعليمي، إلا أن ذلك لم يوفِّر تجربة تعليمية تفاعلية كاملة وفقًا لمشارقة الذي أشرف على تدريس مساق تحرير الأخبار لـ26 طالباً وطالبة من قطاع غزة، وقال إنّهم عانوا من صعوبات شديدة، منها اجتياح دبابات الاحتلال لأحيائهم خلال العملية التعليمية.
التعليم مستمر
طالبة الإرشاد النفسي نيفين حمودة كانت واحدة من آلاف الطلبة الذين أصرّوا على إتمام تعليمهم رغم كل شيء. قطعت مسافات طويلة بحثاً عن إشارة إنترنت، وتحدّت انقطاع الكهرباء، وعاشت شهوراً في خيام النزوح، لكنها تمسّكت بحقها في التعلم، وأعلنت عزمها الإسهام في إعادة إعمار جامعتها بعد الحرب.
ورغم أن القصف دمّر الجامعات، واغتال الأساتذة، وشرّد الطلاب، فإن روح التعليم لم تُهزم. طلبة غزة يدرسون وسط الركام، والمعلمون يُدرّسون عبر الحدود، والعالم يشهد على حرب تُرتكب أيضًا بحق العقل الفلسطيني الذي يرفض محو معرفته وهويته ومستقبله، وينتظر لحظة توقّف الحرب، ليبدأ من جديد.