في فجر السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، أرسلت غزة رسالة إلى العالم: الواقع الذي اعتدتم عليه انتهى.
لقد تغيّر الواقع، وتغيّر مستقبل القضية الفلسطينية، ومن ورائها سيتغيّر مستقبل المنطقة. نحن شهدنا البداية، وهذه النتائج ستكون تحصيل حاصل مع الوقت.
تأخر العالم في فهم ما حصل، وما تزال القوى المختلفة حتّى الآن تصحو من غفلتها، ويبدو كأن بين تلك القُوى والواقع، جُدُراً سميكة من القناعات والتصورات عن ماهية الواقع والسياسة في "الشرق الأوسط" وفي فلسطين.
دمّرت كتائب "القسام" هذه الجدران، وغيّرت هذا الواقع في بضع ساعات، ولكن هدم الجدران في الأذهان أبطأ، وما زال متأخراً، لا لقلّة المعلومات الاستخبارية، ولكن لأن ما حصل يناقض تصوّرات أصحاب الكراسي في الوطن العربي، وفي محيطه من طهران وأنقرة، وفي الغرب؛ في واشنطن ولندن وعواصم أخرى.
إنها إذاً جدُرٌ وحواجز ذهنية ونفسية، انهارت في لحظات على الأرض، ولكن ما زالت تتفكك في أذهان الساسة.
تخريب اللعبة الإقليمية والدولية
تهيَّأت أطراف المنطقة للتهدئة، تحاور الخصوم والتقت الأضداد وتوافق الجميع على التهدئة، بعد عشر سنين من الثورات والحروب.
ثمّ قرّر الجميع، كرهاً أو طوعاً، أن يدفنوا القضية الفلسطينية، لتأتي في مرتبةٍ متأخرةٍ على قائمة أولويات المنطقة: الازدهار والرخاء والتنمية، وتقوية الدُول ومؤسساتها، وإعادة ترميم العلاقات المُقطّعة، وبناء مصالح مترابطة ومُتواطئة بين الخصوم، هدفها منع اندلاع حروب مستقبلية، أو على الأقل، تخفيف حدّتها (الدعاية النيوليبرالية المعروفة).
لقد تصالحت تركيا - تقريباً - مع الأنظمة العربية جميعها، وإيران تتفاهم مع أميركا، منتظرةً أموالها المجمّدة وأن تُرفع العقوبات الاقتصادية عنها لتتنفس، في حين جلست مع الرياض على طاولة واحدة، من جديد.
نسمعُ عن "شرق أوسط جديد"، هادئ ومزدهر، تضطلع فيه "إسرائيل" بدور قيادي مع حلفائها من المُطبّعين: الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، ومصر والأردن.
هذه الأوهام سيطرت على ساسة المنطقة وقادتها، وعلى تصورات القوى الدولية تجاه المنطقة، وأوصلت جميع هذه الدول إلى طريق مسدود، وأعني ما أقول حرفياً: سيطرت ونخرت عقولهم، وصنعت بينهم وبين الواقع جدراناً خرسانيّة، وسأكتفي هنا بذكر مثال بسيط.
في 2 تشرين الأوّل/ أكتوبر، نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالاً طويلاً لجاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، يتحدث فيه عن تصوّر للسياسة الخارجية الأميركية في عالمٍ متغيّر، ما يهمنا من الهراء الكثير في المقال، سطرٌ واحد، يقول فيه: "ورغم أن الشرق الأوسط ما زال يعاني من مشكلات مُزمنة، فإن المنطقة الآن أهدأ مما كانت عليه لعقود".
طبعاً، يروّج هذا الكلام رجلٌ يعرف عن المنطقة وأحوالها من إحاطات تقدّمها أقوى أجهزة الاستخبارات الدولية! ولكن بعد أيام من نشر هذا المقال، أصبح حديثه عن الشرق الأوسط بلا قيمة، ما اضطرَه إلى تعديل المقال وإزالة هذا السطر الفاضح للأوهام الأميركية عن منطقتنا.
عمّ الطوفان العالم؛ وهمُ السلام والتهدئة انهار في لحظة، ودعاية القوّة الإسرائيلية القادرة على حماية العروش تبدّدت في ساعات، والنكتة، أنّ قادة المنطقة كذبوا على أنفسهم وصدّقوا الكذبة، وقرّروا ألا يسمعوا لفلسطينيّ من غزة أو الضفة أو القدس تحذيرهم: الانفجار قادم!
ولمّا جاء الطوفان، احتارَت كلّ الأطراف في أيّ سفينةٍ تركب، ومع أي موجٍ تتجه؟! المصالح الموضوعة على المحك كبيرةٌ للجميع، والتهدئة الركيكة التي وصلنا إليها جاءت نتيجة جهودٍ دبلوماسية حثيثة في السنوات الماضية، وبعد مناورات عسكرية وتهديدات سياسية طويلة.
مع انهيار المشاريع الإقليمية، ظهرت أمامنا صدماتٌ عميقة أنتجت ردود فعل مختلفة: من الهمجية والوحشية الإسرائيلية، إلى التواطؤ العربي، والصمت التركي المُطبق في البداية، والترقّب الإيراني (المُتفاجئ)، والهبّة الأميركية لتأمين مصالحها الإمبريالية في منطقتنا.
صدمة طهران
تضاربت المصادر بشأن دور إيران في طوفان الأقصى، نقلَ تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، مشكوك في صحته، أنّ إيران شاركت في التخطيط التفصيلي لهذه العملية، معتمدةً على مصادر لم تكشف عن هويتها، وأكَّد صحافيون آخرون من مصادر أُخرى سريّة، أن هذا الكلام عارٍ عن الصحة.
رسمياً وأمام المجتمع الدولي، نفت إيران تدخّلها في هذه العملية، والسبب في ذلك أنها تبحث عن التهدئة، هذا هو قرارها الاستراتيجي: إنهاء المفاوضات على النووي، ورفع العقوبات الأميركية، والتفاهم مع محيطها إما بالتخويف وإما بالدبلوماسية، لتدخل في فترة تعافٍ وتنمية اقتصادية تساعد الثورة الإسلامية على استكمال مشروعها في المنطقة.
وقد كشفت حرب غزة المنطق البسيط هنا: إيران أولاً، ومصالح طهران قبل مصالح الجميع، والقراءة الإيرانية من بداية الحرب واضحةٌ، بل معلنة: لا نريد التصعيد ونريد لهذه الجولة أن تنتهي.
ومع استمرار الحرب، وتكشّف عمق الطوفان وحجمه، بدأ الموقف الإيراني يتصاعد شيئاً فشيئاً، مع تهديداتٍ لا نهاية لها (عهدناها ونسمعها منذ سنوات)، ولكن الفعل على أرض الواقع محدود، وإن جاء فسيكون من سوريا أو لبنان، أما إيران فيبدو أنها لن تتدّخل بنفسها إلا إن بات وجود حركة "حماس" مهدداً.
اقرؤوا المزيد: حماس، إيران، والأخلاق الطائرة
أما الإبادة الجماعية في غزّة فلها حسابٌ آخر في المنظور الإيراني، والأعداد البشرية الهائلة، من أبنائها أو من الأطراف الأخرى، ليست جزءاً من معادلاتها السياسية، وهو ما رأيناه في السنوات الماضية في سوريا والعراق، ومُدلّل عليه من الحرب العراقية الإيرانية (حين زجّت قيادة الثورة الإسلامية بعشرات الآلاف من الأطفال في ميادين الحرب).
أرادت إيران التهدئة، وشيئاً من الراحة والتقدّم الاقتصادي، هذه هي الأولوية. وحليفها "حزب الله" اللبناني عمل في السنتين الماضيتين على ترسيخ قواعد اشتباك جديدة، وعلى وضع تفاهمات في ملفات كبرى مثل ترسيم الحدود بين الاحتلال ولبنان.
إيران، المشروع الثوري الذي يتحكّم باليمن والعراق ولبنان، ويؤثّر على قرار سوريا الاستراتيجي، والذي شارك في قتل آلاف السوريين لتأمين احتياجات وخطوط "محور المقاومة"، البلد الوحيد في المنطقة الذي ناكف النظام الدولي وأميركا واستخدم المقاومة المسلحة لتأمين مصالحه، وهو البلد الوحيد القادر على قلب جميع المعادلات، قرّر أن لا يفعل، وأن يقف ويترقّب مثل غيره.
إنّ الحرب كاشفة، وهذه هي المعادلة الإيرانية الحقيقية، مصالح إيران قبل مصالح "المحور"، ومصالح المحور تدعمها طهران إذا كانت تصبُّ في صالحها حصراً.
اقرؤوا المزيد: معركة عضّ الأصابع: إيران في مذكرات بومبيو
وحتى الآن، مع ما رأيناه من تصعيد في جبهة لبنان، وضدّ القواعد الأميركية، ما زال التحرك تدريجياً ومحدوداً، لا يرقى لمستوى لحظة 7 أكتوبر وتكسيرها كل المعادلات، ولا يوازي حجم الأذى الهائل الذي أوقعته إيران في سوريا والعراق واليمن، بحجّة تأمين مصالح المحور، هذه الكلف العالية، رفعت معها توقعات الجميع من إيران.
كل هذا ليس جديداً، ولكن فجاجة الوضع الحالي تكشف أكثر حقيقة سياسات إيران في السنوات الماضية، إذا استمرّت وتيرة الإبادة الجماعية دون تدخل من إيران وحلفائها، فخسارتها في غزة وأمام أنصارها من العرب ستكون بالغة، لسبب واحد: أنها قادرةٌ على التدخل.
ولكننا أمام حرب مفتوحة، والخيارات لا حصر لها، ولا أقول هذا تبرأةً لتحليلي ولنفسي، فأنا آمل أن أكون مخطئًا، وربما تبدّل الظروف الميدانية في غزة يدفع حزب الله لدخول المعركة بشكل أكبر، حتى لا يأتي عليه يوم تتفرغ له فيه آلة الإرهاب الإسرائيلية.
أوهام أنقرة
صدم المشهد التركي كثيرين، وأعترف أنّني منهم، توقّعت أن تتحرك تركيا بشكل مختلف، من منطلق براغماتي بحت، لا لأسباب أخلاقية، فتركيا يمرُّ بها دورياً صالح العاروري، وإسماعيل هنية، وخالد مشعل، وآخرون من قادة المكتب السياسي لحركة حماس، براغماتياً، وجودهم مكسبٌ لتركيا، ونعرفُ الآن أن تركيا طلبت منهم مغادرة أراضيها فوراً.
لكن هذا ملمحٌ واحد من ملامح الضعف في الموقف والفهم التركي للملف الفلسطيني، نحنُ أمامَ خلل أكبر في تصوّر تركيا للواقع ولتبعات الطوفان، إذ يبدو أن تركيا تبحث عن صفقة، وعن دورٍ قيادي في المنطقة، تتولّى فيه إدارة ملفاتٍ عديدة وتدبيرها، من ضمنها أعقد ملف: القضية الفلسطينية.
ولكن فلسطين ليست سهلةً مثل صفقة حبوب أوكرانيا وروسيا، ولن تحلها الدبلوماسية التركية بعد أن عجزَت عنها ثعالب الدبلوماسية الأميركية، و"الشرق الأوسط" صعب الحكم، ولم تقدر عليه القوة العسكرية الغاشمة ولا السياسة الناعمة، وأوراق تركيا فيه محدودة، وتحالفاتها مع أطرافه قليلة وضعيفة حتى اللحظة.
والأهم: أن قيادة المنطقة لن تتأتّى مع أيّ طرفٍ دون أن يقف مع فلسطين، هذه الحقيقة فاتت أنقرة.
ويظهر من الخطابات الأولى للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنَّه مصدومٌ مما فعلته حكومة نتنياهو في غزة الأيام الماضية، يقول إنّ نتنياهو "استغلّ نوايا تركيا" الطيبة والحسنة ولم يفهم ما وراء المصافحة بينهما أخيراً في نيويورك.
اقرؤوا المزيد: تركيا وفلسطين.. هل تصلح الشعارات ما أفسده التطبيع؟
قبلَ هذا الخطاب، والذي لم يصدر بعده فعلٌ حقيقي حتى الآن سوى تصعيد في الكلام (السفير الإسرائيلي في تركيا لم يُطرد ولكن خرج بكامل طاقمه بطلبٍ من تل أبيب، قبل خطابات أردوغان)، ركّزت تركيا على كذبة إحلال السلام باعتبارها حلّا للقضية الفلسطينية، ودعت لإقامة نظام ضمانة تشرف عليه (من جديد، تشرف على الأطراف وتقودها، وتلعب دور الوساطة والضامن، باعتبارها شرطي المنطقة مثلاً؟ والضامن البديل للولايات المتحدة؟ هنا أمامنا: توهم فهم المنطقة وقيادتها، وخرافة أن أميركا انسحبت منها).
رغمَ حجم الطوفان والهزّة التي أحدثها عالمياً، احتاجت تركيا إلى ثلاثة أسابيع تقريباً لتفهم أنّ غزة تجاوزت الواقع الذي تحلم به أنقرة، فبدأت تُصعّد في خطابها.
جاء قادة الإمبراطورية الأميركية لزيارة منطقتنا، بلينكن أولاً، ثم لحقه الرئيس جو بايدن شخصياً، جولاتٌ مكوكية بين الاحتلال، والخليج والأردن ومصر، وتواصل مستمر مع إيران، ولم يفكّر أيُّ مسؤول أميركي أن يهبط بطائرته في أنقرة أو يرفع السماعة عليها.
باغتت أميركا العالم بإرسال حاملات طائراتها إلى شرق المتوسط؛ منطقةٌ تخطط أنقرة ليكون لها نفوذٌ حاسمٌ فيها، ومن يدري؟ مع تطور الحرب ربما تستدعي أميركا لاحقاً قوة أوروبية للمشاركة في عملياتها، وهذا كابوسٌ تركي.
الخلل في فهم واقع منطقتنا عند أنقرة عميق، ويبدو أن الطوفان وصلها متأخراً، لم تستيقظ تركيا إلا بعد أن أدركت أنّ مصالحها مهددة، وأن الأطراف الكبرى، في الحقيقة وفي وقتِ الاختبار، لا ترى أنّ تركيا لاعبٌ وازن في أهمّ قضية بالمنطقة.
التواطؤ العربي
تخلّفت الأنظمة العربية عن الحدث وحجمه، حتى الآن تتصرّف وكأننا في جولةٍ عادية من جولات الحرب، ستنتهي وتعود غزة إلى حصارها وجراحها، وتعود "إسرائيل" إلى استقرارها.
لا أقول إن أنظمتنا لم تدرك حجم الحدث، بل فعلت، ولكنها، عدا عن عجزها، تعيش حالة إنكار مثل غيرها من القوى الإقليمية والدولية، ولا تريد الاعتراف بأنّ غزة كسرت المعادلة القديمة.
تُنكر الأنظمة العربية أهمية ما حصل لأن القادم كبيرٌ جداً، ومجهولٌ لا يعرفه أحد، ولا يملك طرفٌ القرار فيه، ويمكن أن يبتلع الأنظمة معه، فلنتذكر ما حصل بعد حدثٍ ضخم مثل نكبة عام 1948؛ قُتل زعماء وأُسقطت أنظمة وظهرت حركاتٌ سياسية راديكالية جديدة على المشهد.
نعم، الوطن العربي اليوم مختلف عنه عام 48، ولكن التاريخ يعلّمنا أن زلزال الطوفان وتبعاته لن تُحصر في نطاق غزة و"غلافها"، وستمسُّ الجميع: المتفاعل والمتواطئ.
ومن المثير للاهتمام كيف يؤثر هذا العامل النفسي على المشهد اليوم: تفاجؤٌ ثم استياءٌ مما حصل، وإنكارٌ لحجمه وأثره، أدّى إلى تخلّف الأنظمة العربية وتباطؤها حتى عن تأمين مصالحها التي تديم وجودها.
اقرؤوا المزيد: لقاءات بالسرّ.. الزعماء العرب في مذكرات نتنياهو
إذاً، تفككت آمال الدول العربية صباح يوم السبت (أوّل يوم للمعركة)، ولكن خطر الطوفان عليها أكبر من التطورات العسكرية التي رأيناها.
إنّ الخطر الحقيقي القادم من غزة، هو في أنّ أغلب النماذج السياسية القائمة انهارت في أذهان الناس وانتقضت شرعيتها إلى درجة غير مسبوقة، ربما لم نصل إليها إلا في جيلي جدّي ووالده، في النكبة وفي هزيمة عام 1967.
لم تنهر التصورات والنماذج السياسية التي تتبناها الأنظمة الحاكمة فحسب (وهنا مفتاحٌ لفهم مستقبل المنطقة)، بل انكشفت أيضاً النماذج التي تبنتها عموم النخب العربية ومثقفيها، من نماذج غربية وليبرالية وحداثية، وفي القلب منها تراجعت صورة الديمقراطية الغربية بسبب نفاقها الفظ، ونموذج الدولة الحديثة الفاشلة في تأمين مصالحها، ودعوات الهويات البعيدة عن الدين. من السهل أن تلمس هذا الألم الخفي عند النخب العربية المعارضة والحاكمة.
هل نحن أمام إعلان موت النماذج القديمة؟ وهل تدفن المعركة الحالية تلك النماذج في التاريخ؟ ربّما ستدخل المنطقة وشعوبها حقول تجارب سياسية وأيديولوجية جديدة، غالباً لم يرها العالم من قبل.
اللعبة القديمة خَرِبَت، ولكن القوى تتواطأ لإصلاحها والعودة إليها، وقد تضطرها الفترة القادمة إلى الاعتراف بما حصل، والبحث عن أطر وتصورات جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية والمنطقة.