6 نوفمبر 2019

الـ"ميمز".. تحدّي الكآبة وتسخيف السلطة

الـ"ميمز".. تحدّي الكآبة وتسخيف السلطة

من محاسنِ الإنترنت أنَّ فيه مساحة خضراء سعيدة، يمكنك أن تسرحَ فيها لساعات؛ تتقافز وتضحك ثم تقهقه أحياناً، وكأنّ أغنية "بيت صغير بكندا" موسيقى خلفيّة لحياتك. ثم تكتشف أنّ "وحده صوتي والصدى"، وأنَّك قضيتَ أكثر من ساعةٍ في الحمَّام تطالع الـ"ميمز" على مواقع التواصل الاجتماعيّ.

لم يكن العالم الإنجليزيّ ريتشارد داوكينز Richard Dawkins يفكّر بصورٍ مضحكةٍ لقططٍ ولاعبي كرة قدم والفنانة عبلة كامل حين صاغ مصطلح "ميم" للمرَّة الأولى. لكنَّه كان يفكّر بشيءٍ مشابه. في كتابه الجين الأناني The Selfish Gene المنشور عام 1976، يوظّف داوكينز كلمة Meme لوصف السّلوك الذي ينتقل من شخصٍ إلى آخر ضمن ثقافةٍ ما، أيْ أنَّ الميم هي وعاء لنقل مفاهيم ثقافيَّة قادرة على التناسخ والانتشار في المجتمع كما ينتقل الفايروس. حتّى أن وصف انتشار الـ"ميمز" يتمُّ باستخدام كلمة "Viral" بمعنى "فايروسيّ". حقّقت الـ"ميمز" كما نعرفها اليوم هذا الدورَ الاجتماعيّ، وحظيت بالاسم بعد عقودٍ من نشر كتاب داوكينز.  

كي نفهمَ ما يجعل تلك الصور السّاخرة قابلةً للاشتعال، يجبُ أنْ نسأل عن الأفكار التي تحتويها، وعن التمثيلات البصريَّة فيها، وحدودها، وأنْ نحاول تتبَّع رحلتها كأداةٍ للتعبير السياسيِّ والاجتماعيِّ. يرصد هذا المقال صفحةً واحدةً كنموذجٍ أساسيّ، وهي صفحة "Palestinian Memes" المختصّة بنشر الـ"ميمز"، والتي يتابعها حوالي 850 ألفاً على موقع "فيسبوك". أسّس هذه الصّفحة الشّابان الفلسطينيَّان محمد ماهر والقسام بدير عام 2012، اللذان اعتادا نشرَ صورٍ منقولةٍ عن مواقع أميركيَّة معروفة مثل ريديت Reddit، إلى أنْ اتسعت شعبيَّة الصفحة، وشرعا بصنعِ محتوىً خاصّ بهم، باللّغتيْن العربيَّة والإنجليزيَّة.

اكتئاب غارق بالضحك

الضّحكُ على الاكتئاب هو ثيمةٌ متكرِّرةٌ في منشورات الصّفحاتِ السّاخرة. تجدُه مطبوعاً على جبهةِ الفنان حكيم، حين يطلُّ فجأةً من تحتِ سيارة، وهو يغني: "السلامُ عليكو"، أو على هيئة "كنبة حياتي" التي يحرقها الاكتئاب ببطء. كما تسخر العديد من المنشورات من تعامل المجتمع مع الاضطراباتِ النفسيَّة، مثل فهم العائلة المحدود لطبيعةِ الاكتئاب، أو عدم أخذه بجديَّة، خاصَّةً حين يشتكي منه الرِّجال، فتكتفي العائلة بالقول: "خليك زلمة".

حسبَ استطلاع قامت به هيئة الإذاعة البريطانيَّة خلال العام الماضي، فإنَّ 37% من الفلسطينيّين قد عانوا من الاكتئاب، أو من أعراضه، وهو ما يتسق مع الإحصاءات العالميَّة المرعبة التي تفيدُ بأنَّ الاكتئاب يؤثّر على أكثر من 300 مليون شخص حول العالم، لا يتسنى لنصفهم حتى أنْ يحصلوا على علاج. ماذا يعني إذاً أنْ نضحكَ على مسألةٍ بهذه الخطورة؟

بإمكان الفكاهة أنْ تُحرِّر الناس من الحالةِ الذهنيَّة التي يحاصرُهم داخلها الاكتئاب، فيكونُ المزاحُ آليةً فعّالةً للتعامل والتكيّف مع الاضطرابات النفسيَّة، كما يشيرُ بحثٌ نُشِر مطلع العام الجاري. أجرى الباحثُون تجربةً مع 54 شخصاً سبق وتم تشخيصهم بالاكتئاب، وعَرَضوا عليهم سلسلةً من الصورِ ذات المضامين السّلبيَّة، كمشاهد من الحرب مثلاً، طالبين من عيِّنة المبحوثين أنْ يصفوا ردود أفعالهم على تلك الصور. في المرحلةِ الثانية من البحث، عُرضت على المشاركين صورٌ مشابهة، ولكن طُلب منهم هذه المرَّة إطلاق نكاتٍ حولها، وإيجاد ما هو إيجابيٌّ حيال الصور. لاحظَ الباحثون أنَّ الفكاهة تساعد المصابين بالاكتئاب بأنْ يخلقوا نوعاً من المسافة العاطفيَّة بينهم وبينَ الأحداثِ السلبيَّة، وأنْ يتدرَّبوا على خلقِ معانٍ إيجابيَّة، الأمر الذي يجده مريضُ الاكتئابِ صعباً عادةً، لأنَّه يميل إلى التأثّر بالمواقف بشدَّة، مهما بدَت عاديَّة وغير مؤذيةٍ للآخرين.

رغم كلِّ ذلك، من المخيفِ التفكيرُ بأنْ يصبحَ الاكتئابُ نكتة، ولا يؤخَذ على محملِ الجدّ، بمعنى ألَّا نشعر بضرورة حصول المعرَّضين له على دعمٍ نفسيٍّ وطبِّيّ، لأنَّنا ضحكنا عليه معاً، واختلطَ معناه -على وجهٍ غير دقيقٍ- بالشعور بالضيّق، وانتهى. وما يُضاعف حساسيَّة هذا الموضوع هو أنّنا نفتقدُ للتوعية الحقيقيَّة حول الاضطرابات النفسيَّة في المجتمع الفلسطينيّ.

تسخيف السّلطة

يختارُ القائمان على صفحةِ Palestinian Memes مواضيع منشوارتهما بناءً على الأحداثِ السياسيَّةِ الرَّاهنة، ويهدفان بذلك إلى رفعِ مستوى الوعي لدى الجمهور العربيِّ والغربيّ، عن طريق توظيف الفكاهة، وهي أفضل طريقةٍ بنظرهما لصنعِ محتوى يتقبَّله الجمهور، ويشعر بالفضول اتجاهه.

تسخرُ الصّفحةُ من شخصيَّاتٍ سياسيَّةٍ مثل عبد الفتَّاح السيسي، ومحمود عبَّاس، دونَ مواربة، فنجدُ ميم عن السيسي، بلحة، مثلاً وهو يزرعُ شجرة نخيل، بعنوان "وبالوالديْن إحساناً"، ويلعبُ السيسي أدواراً أخرى أحياناً، كدور ملعقةٍ بلاستيكيَّة في الشّاي السّاخن. بينما أصبحَ أبو مازن شخصيَّةً تعبّر عن الشّاب المجروح الحزين.

لا يقتصرُ الأمرُ على السّخرية من الحكومات العربيَّة، فمن الرّموز التي خلقتها الميمز أنَّ "إسرائيل=لا شيء"، غير موجودة، ولا أيّ شيء متعلّق بها مرئيّ، فصُمِّمت العديدُ من الصورِ لأطباقٍ فارغة تماماً فيها وجبات "إسرائيليَّة" تقليديَّة مثلاً. ما يُعدُّ ثوريّاً في الميمز هو أنَّها تصاميم ذكيَّة تعتمدُ على الذاكرةِ الجمعيَّة، أيْ قصَّة يعرفها الجميع -الشعب- كحقيقة أنَّ السيسي هو بلحة مثلاً، ثم تنتشرُ بينَ الناس، لأنَّهم هم تفاعلوا معها، فأصبحوا مساهمين في صنع المعنى، ويشاركونها دون إشارةٍ لِمن صمّمها، فهي ملكٌ لكلِّ من فهمها.

رغمَ تفاعلِ الجمهورِ الكبير مع تلك المنشورات، لم تجرِ الأمور بسلاسةٍ دوماً. يقول أحدُ مؤسّسيْ الصّفحة: "أحياناً، كنا ندفع ضريبة خوضنا في "المحظور" على الصعيد السياسيّ، فتعرَّضتُ للاعتقال بأكثر من مناسبة"… "بيفتح حسابك وجوالك عندهم، وبمسكوك متلبّس مع فولدر الميمز"، عندهم، أي لدى جهازٍ أمنيٍّ تابعٍ للسّلطة الفلسطينيَّة، حيثُ اعتُقل "الآدمن" بدير لمدَّة 35 يوماً.

"الضحكُ الجماعيُّ هو احتجاجٌ بحدِّ ذاته"، هي إحدى المقولاتِ في بحثٍ حول السخريةِ السياسيَّة بصفتها مقاومة، لأنَّ من يضحكون معاً يتشاركون مجموعة من القيم، ويقفون في وجهِ العابسين ممن يحملُون أفكاراً معارضةً لهم، في هذه الحالة، العابسون هم السُّلطة.

فكاهة مصدرها الألم، وألم مصدره الفكاهة

يُقال ألا ضحكَ في الجنَّة، لأنَّ الفكاهة مصدرها الألم. نعيشُ في عالمٍ ثقيل، تُخفف من وطأته السخرية، فرغمَ كلِّ السُّلطةِ السياسيَّة التي وضعتْ بيدي السيسي وعبَّاس، وتقييد الحريَّاتِ الذي يمارسانه على شعبيْهما، فإنَّ الضحك عليهما وعلى ممارساتهما هو مقاومة ثقافيَّة، تتضمَّن تحديّاً مستمرّاً للأفكارِ المسبقةِ والنمطيَّة عن "الشعب"، وقوالب الاضطهاد والخضوع التي يُحصَرُ فيها. وهو ما يقلبُ الصورةَ الذهنيَّةَ لثنائية "الرئيس والشعب" رأساً على عقب، ويزعزع قوّة ذلك الاضطهاد. فمن يضحك الآن يا أفاضل؟

في المحصّلة، الميمز، مثلها مثل أيّ شكلٍ تعبيريٍّ آخر، تستطيعُ أنْ تلعبَ أيَّ دورٍ يختاره صانعو محتواها. في الوقتِ الذي تستطيعُ فيه لفتَ النظرِ لانتشار الاكتئاب، وتحوِّل جبروت ديكتاتور إلى "مسخرة"، بإمكانها أيضاً تمرير محتوياتٍ سلبيَّة أو صور نمطيَّة مجتزأة، كصفحاتِ الميمز العديدة التي تعتمدُ اعتماداً أساسيّاً على المحتويات الذكوريَّة السخيفة، أو النكات العنصريَّة المسيئة، التي جعلت التقليلَ من شأنِ الآخرين أمراً طبيعيّاً، ومغفوراً له في كثيرٍ من الأحيان، لأنَّه ببساطة مجرّد نكتة.