9 يناير 2023

التنمية الممنوعة على العرب: كيف فكّر القادري؟

التنمية الممنوعة على العرب: كيف فكّر القادري؟

منذ وقعت نكسة عام 1967، أصبح جلد الذات بنهجٍ أقرب للمازوخية صناعتَنا القومية الأولى، وربما كذلك صنعة مثقفينا الأساسية وحقل بحثهم المركزي. وهذا هو أبرز ما ينتقده علي القادري ضمنياً، في كتابه: "التنمية العربية الممنوعة: ديناميات التراكم بحروب الهيمنة" (2020)، إذ يُعيد موضعة العامل الخارجي ويجعل له الدور الحقيقي في إدامة واستمرار التخلف العربي1صدر الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية، بترجمة: مجدي عبد الهادي، ويقع الكتاب في تسعة فصول ومقدمة طويلة نسبياً..

بهذا، نحن لسنا متخلّفين لأسبابٍ جينيةٍ أو ثقافيّةٍ ما، ممّا سكبت فيه جحافلُ المثقفين العرب أطناناً من الحبر، وكما حاولت البروباغندا الغربية المتوشّحة أحياناً بالعلمية، عبر قرنين، أن تصوّر الأمر. بل نحن متخلِفون أساساً كنتاجٍ (لا كضحايا) لبُنيةٍ نظاميّةٍ بديناميات قوّة واستلاب تاريخية، يمكن تحديدها بُبنى وقنوات ماديّة أبعد ما تكون عن التهاويم الثقافيّة التي يمارسها متنوّرو الطابور الخامس، سواءً كان ذلك عن عمدٍ منهم أو عن انهزاميةٍ وجهل لديهم. 

اختفاء العامل الخارجي: مدخل للفهم

يُعيدنا القادري في كتابه إلى جدلٍ قديم، أهالت عليه البروباغندا المهيمنةُ الترابَ؛ جدل العامل الداخليّ والعامل الخارجيّ في إدامة التخلف، ليس بتغليبٍ قطعيٍ لأحدهما على الآخر، بل باستكشاف التداخل بينهما كعاملين متكاملين، مع التأكيد على الأولوية الحركيّة للعامل الخارجيّ كفاعليةٍ منطقيّةٍ لمنظومةٍ عالميّة الطابع بالأساس. 

يرى القادري أنَّ السمات المهيمنة على نمط التراكم العربيّ الراهن، هي التفكّك الاجتماعي العنيف مع القبضة الإمبريالية المُحكَمة على قيمة النفط والموارد وسيطرة النشاط التجاري على حساب النشاط الصناعي. ويرجع ذلك جميعه إلى ثنائية العدوان والنيوليبرالية المُتجسّدة في كل من: انتهاك الأمن والسيادة القومية المرتبطين بأمن الطبقة العاملة، والسيطرة الخارجية على الموارد الوطنية بامتلاك الدولة وسياساتها العامة، والارتباط ما بين رأس المال التجاري ورأس المال المالي العالمي بقيادة أميركا.

إنها ثلاثية "الإمبريالية - النيوليبرالية - رأس المال التجاري"، التي يقوم كل شطر فيها بدورٍ أساسي في دينامية الهيمنة والنهب الكُليّة. فالإمبريالية، عبر الحروب والتهديد بها، تُعيد هيكلةَ القيم وتضبط أنساقَ التراكم بما يُخفّض تكاليف الإنتاج ويعظّم فوائض القيمة، وتحافظ على كل ذلك بإدامة بُنى الهيمنة الكلية على المستويات الاجتماعية الأعمق والجيوسياسية الأشمل. تلحق بها النيوليبرالية كحزمةِ سياساتٍ التزمتها الدولةُ العربية التابعة المتحلّلة، وأبرز مكوّناتها هو فتح حسابات رأس المال، بما ينتزع الاستقلالَ الوطني للسياسات النقدية وما سواها من سياساتٍ اقتصاديّةٍ ضرورية لضمان السيطرة على شروط التجدّد الذاتي للاقتصاد بإعادة تدوير فوائضه محليّاً. ويلحق بهما رأس المال التجاري ليُغلِق دائرةَ النهب، بهيمنته على الموارد الوطنية وإبقائها خاملةً بعيداً عن الاستثمار الإنتاجي، من خلال دورة تراكمه البدائية، التي يتحوّل ضمنها النقدُ إلى نقدٍ أكبر مباشرةً، دونما حاجة للانخراط مباشرةً في عمليات الإنتاج.

 النمو كمظهر والتنمية كجوهر

يقدّم القادري نقداً للتيار الليبرالي السائد ونظريته في النمو، وكيف أنّ الثورات العربية افتقدت لأي خطابٍ نقديّ تجاه إفرازات هذا التيار، بل وأي تصوّرٍ لاقتصادٍ بديل وتنمية حقيقية. كما يشير إلى أنَّ نظرية هذا التيار ليست معنيةً بأن تكون خطاباً للنمو أصلاً، مُتسقة بذلك مع الطابع الليبرالي الذي يتجاهل في دراساته للمنطقة التاريخَ بمجمله، فضلاً عن تجاهله لخصوصية عملية التراكم في ظل ظروف اللايقين في بلادنا.

 ينتج عن ذلك، أولاً؛ الاختزال النظري لإشكالية التنمية في "فجوة الموارد" الشهيرة، المردود عليها عملياً بواقع دول الخليج المُتخمة فعلياً بفوائض رأس المال النقدي دونما تنمية نوعيّة. وثانياً؛ وهو الأهم على الصعيد العملي، ما تؤدي إليه اللبرلة في سياق سيطرة رأس المال التجاري على الدولة، من أسبقية الخاصّ على العام وخنق الموارد الوطنية.

عمال بناء باكستانيون يلعبون لعبة "الكريكت" خلال استراحتهم من أعمال البناء في إحدى مشاريع دبي، الإمارات، 2007. (Getty Images).
عمال بناء باكستانيون يلعبون لعبة "الكريكت" خلال استراحتهم من أعمال البناء في إحدى مشاريع دبي، الإمارات، 2007. (Getty Images).

وعلى صعيدٍ أشمل، لم يُقدّم الانفتاح التجاري أي مُدخلاتٍ إضافيّة للنمو طويل الأجل، بالرغم ممّا يبدو ظاهرياً في بعض الفترات من معدلات النمو. ارتبط أغلب ذلك بارتفاع أسعار وعائدات الصادرات النفطيّة في طفرتيها في السبعينيات وأوائل الألفية، ما يؤكد جذرَ الفجوة بين النمو كمظهرٍ والتنمية كجوهر، متمثلاً أساساً في ضعف التوسّط ما بين رأس المال المالي والموارد الحقيقية. وللمفارقة، يُشير القادري إلى أنَّ المنطقة العربية كانت تُحقق نفس معدلات نمو الدخل الحقيقي للفرد التي تحققها منطقة شرق آسيا حتى عام 1977، لتتفارق المنطقتان منذ الطفرة النفطية، بتضاعف ذلك المتوسط ثلاث مرات في شرق آسيا بحلول عام 1996، مقابل ركوده في المنطقة العربية منذ أوائل الثمانينيات وحتى اليوم.

اقرؤوا المزيد: أسعارٌ ترتفع في سوق هشّ: حوار مع عبد الله حرب

ومع ذلك، يرفض القادري اختزال هذا التراجع التنموي في التفسيرات المرتكزة حصراً على النفط، كالمرض الهولندي ولعنة الموارد وما شابه. بل يرى ضرورة توسيع النظرة لتشمل الإطار الاجتماعي الأوسع، فتخرج من إسار السياسات إلى تغييب الفاعل التاريخي الكامن خلفها، المتمثل أساساً بتكامل السعي الإمبريالي للسيطرة على المنتجات الأولية والمنافذ الإستراتيجية بالعدوانية العسكرية، مع تخلّي الأغنياء العرب عن إعادة تدوير الثروات العربية داخل الحدود الوطنية؛ واصفاً - أي القادري - مطالب البنك الدولي وصندوق النقد بتشجيع الاستثمار الخاص - حصراً - دون تكامل مع الاستثمار العام الإنتاجي، وذلك في سياق الدول المتخلفة التي تعمل بأقل من إمكاناتها بكثير، وفي سياق اللايقين العربي المدفوع بالحروب، بأنه كان أقرب لخطة "مورغنتاو" التي عُرضت - في البداية - على ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية للحدّ من التصنيع الألماني، بدلاً من خطة "مارشال" - التي نُفّذت لاحقاً - على أساس التوازن بين نوعيّ الاستثمار العام والخاص.

تنمية عكسية = تفكّك التشكيلات الاجتماعيّة

يُحّلل القادري في كتابه السياساتِ والطبقةَ والدولة بمزيدٍ من التفصيل، بدءاً من نقد التحليلات التقليديّة المُنطلقة مما يُمكن وصفه بـ "أنطولوجيا الأسعار"، مُشدّداً على أنها ليست ظواهر طبيعية، بل نتاجات لعمليات اجتماعية يُستهلك فيها العمل والطبيعة ضمن شَرَه الإنتاج لأجل الربح. وهو ما جعل من الطبيعي، في سياق الهيمنة الكاملة لرأس المال على المجالين الاقتصادي والسياسي في المنطقة العربية، أن تراجعت حصة العمل من الدخل القومي خلال ثلاثة عقود من إصلاحات السوق؛ فانخفضت من ثلث الدخل الكلّي للمنطقة العربيّة إلى ما يقارب الربع وحتى العُشر أحياناً، فانخفض في كلّ من مصر وقطر (29%)، وليبيا (28%)، واليمن (27%)، والعراق (11%).

وكأنماط استثمار حفّزتها هذه السياسات، ذهب معظم الاستثمار الخاص إلى ما يُعرف بـ "الاستثمار الناري"، من تمويل وتأمين وعقارات ومجالات الربح السريع والمضاربة بشكل عام. الأمر الذي يأتي ضمن وضعية من تراجع الاستثمار الكلي إلى أدنى المستويات عالمياً، بما بلغ حوالي 16% من الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة عام 2002، وانخفاض التجارة البينية - أي بين الدول العربية - إلى 10%، وسلبية النمو في متوسط إنتاجية العمل، وهروب رأس المال من المنطقة - أي انتقاله إلى المراكز الرأسمالية غالباً، بما بلغ في حالة السعودية (أكبر اقتصاد عربي) حوالي ربع الناتج المحلي الإجمالي. 

هذه هي النتيجة الطبيعية، فتزاوج سياسات السوق المُوأمولة (من أمّوَلَة Financialization، أي المُتسمة بسيطرة الطابع المالي) مع ميول الطبقة التجارية المهيمنة والحائزة على معظم الثروة لاستثمار فوائضها في الخارج حيث العوائد أكثر أمناً خارج المنطقة العربية غير المستقرة؛ أدى بمجموعه إلى تفكك التشكيلات الاجتماعية العربية تحت ضغط الركود التاريخي الناتج عن التراجع التنموي والانكماش الاستثماري. 

عامل مصري في أحد مسابك الحديد والألمنيوم في الإسكندرية، 2022. (Getty Images).


وإذا ما أردنا إيجاز السياسات النيوليبرالية العامة، التي قادت إلى هذه النتيجة، فمن الممكن إيرادها في سلسلة متتابعة من ستة أبعاد ونتائج مترابطة.
أولاً: فتح حسابات رأس المال وتقليص معدلات الفائدة وأسعار الصرف المتعدّدة إلى معدل وسعر واحد؛ ما أدّى إلى ضعف فاعلية السياسات النقدية كأداة تنموية وفقدان السيادة الوطنية عليها. ثانياً: تعاظم اللجوء للاقتراض الخارجي، كنتيجةٍ للآثار السلبية لهذه السياسات على موازين مدفوعات الدول العربية الفقيرة نفطياً. ثالثاً: ارتفعت علاوة المخاطر ضمن معدلات الفائدة، بسبب مخاطر سعر الصرف ممزوجاً بحالة اللايقين بالمنطقة الناجمة عن الحروب، فامتنعت نتاجاً لكل ذلك تدفقات رأس المال وزادت صعوبة تمويل المشروعات الوطنية. رابعاً: انخفض الاستثمار العام نتيجةً للسياسات النيوليبرالية ومتطلبات سياسات الاستقرار قصيرة الأجل في الموازنة العامة وميزان المدفوعات. خامساً: ضربت الدولرة (أي تفضيل المواطنين حيازة الدولار بدلاً من العملة الوطنية) الصريحة أو الضمنية سوق النقد تدريجياً، مُنتزعةً معها قضمةً ضخمة من السيادة النقدية كنتيجةٍ عامة لتدهور وعدم استقرار العملة الوطنية وإحلال الدولار محلّها كمخزن للقيمة. سادساً: تراكمت الآثار الاجتماعية السلبية للتقشّف في الأجل القصير، لتُدفع لتدهور قوّة العمل ورأس المال الاجتماعي في الأجلين القصير والطويل معاً.

ويؤكد القادري أنّ الهدف النهائي لحزمة السياسات المذكورة ليس مجرّد تقليص الإنفاق الحكومي أو المعروض النقدي، فهي كلّها وسائل لعملية التحويل الهيكلي لملكية السياسات بعيداً عن القبضة الوطنية، لتنتقل إلى رأس المال العالمي بوساطة تابعه المحلي من أجل كبح آفاق النمو طويل الأجل؛ أي انتزاع السيادة على السياسة الوطنية في التحليل الأخير. وهو الأمر الذي يتحقّق أساساً بجوهره الإنكماشي، من خلال الصياغة النيوليبرالية لإطار الاستثمار، كيفياً قبل كمياً، كجوهر مُحرّك لمُجمل النمو. وذلك بتقليل الإنفاق الحكومي، ومعه الاستثمار الإنتاجي والاجتماعي ونصيب الطبقة العاملة في القيمة، وفتح حسابات رأس المال بما يستجلب تمويل العجز بالاقتراض، ومعه مشكلات تدهور العملة والميزان التجاري والتضخّم، ومعها ولمقاومتها ارتفاع سعر الفائدة الذي يعيق بدوره الاستثمار الخاص.

الإخفاق الداخلي: أين اختفى الإنفاق الحكومي؟

يدفعنا ما سبق للتساؤل التالي: أين ذهب الإنفاق الحكومي العربي؟ حسناً، ذهب في معظمه إلى الإنفاق الاستهلاكي جوهرياً وعملياً، دون روابط معنوية بالإنتاج، ويشمل ذلك حتى قدراً معتبراً من الإنفاق على البنية التحتية. وهو ما أثبتت الدراسات الإمبريقية سلبية عوائده، بسبب محدودية الاستثمار الإنتاجي الذي نتج عنه واستفاد منه. كذلك لم يُترجم الإنفاق على التعليم والصحة إلى تغيراتٍ نوعية في بنية إنتاج الطبقة العاملة وتحسّن إنتاجيتها، بل اكتفى بتحسين المؤشرات الظاهرية ارتباطاً بتطوّر الإنتاج المُستورد أو بالتأهيل في المجالات البعيدة عن الصناعة.

تكامل كلّ ذلك في إطار بنية مبدئية من صِغر الأسواق العربية العاجزة أساساً عن تحفيز الإنتاج الصناعي الكبير. ومع تحوّل الطبقات الحاكمة من الاستقلالية الصناعية إلى نمط التاجر، انتظمت الحياة الاجتماعية حول الاستيراد للبيع في الداخل وتصدير العوائد بالدولار إلى الخارج، فانتُهكت الصناعة واستُلبت الإمكانات الوطنية، وأصبح نظام الأسعار والتبادل مُحدداً بشروط التجارة الدولية.

لقد صنع الاستعمار هذه البنية السياسية المتخلفة، من خلال حفاظه على تدابير الهيمنة الاجتماعية الاستبدادية ما قبل الرأسمالية. ثم جاء بعدها ففرض النيوليبرالية في سياق الهزيمة بواسطة الحرب، فصارت قناة لتحويل الجِزية إلى الإمبراطورية. ومع انحسار فاعليتها التنموية، كان النفط وإخوانه مرجعها الباقي للاستمرار، عبر ترسيخ الانقسامات الهوياتية في صفوف الطبقة العاملة، فضمنت الاستمرار من خلال اللاستقرار، وأبقت على المنطقة ومواردها المُنتهبة كمركز للهيمنة الاستراتيجية لرأس المال، ولاستنزاف القيمة المباشرة من المنطقة، وغير المباشرة كذلك عبر تأثيرها على القيم في المناطق الأخرى.

هكذا، فإذا كانت الدولة هي المسؤول الأساسي عن التنمية بقدر تعبيرها عن الطبقات العاملة، فإنها كانت وسيط الإدماج التابع القائم على النفط والحرب في الحالة العربية.

 طفلان مصريان في إحدى مكبات النفايات في مصر، وعادة ما يُبعث الأطفال هناك للبحث بين أكوام القمامة عمّا يمكن إعادة تدويره. (Getty Images).

 الحرب: الاستمرار في صناعة اللاستقرار 

لا يرى القادري الحرب كمجرد وسيلة هيمنة بسيطة كما التصوّر السياسي السائد، بل هي عملية اجتماعية ضمن منظومة التراكم الرأسمالي نفسها. إذ تعيد هيكلة علاقات القوة والمؤسسات الاجتماعية وصياغة شروط وظروف إنتاج وإعادة إنتاج القيمة، عبر عمليات سلخ الناتج من المنتج بالعنف، والحفاظ على أسعار المدخلات عند أدنى مستوى ممكن.

ترافق هذا مع كبح تطور الصناعة وتغليب أشكال التراكم البدائي في الدول الطرفية المتخلفة، وذلك بواسطة كلّ من النيوليبرالية بأبعادها المؤسسية والتجارية والمالية على ما سبق ذكره، وبالحرب والطائفية بما تبثّانه من حالة من اللاستقرار واللايقين، تمنع أي استثمار طويل الأجل. يترتّب على ذلك ضعف اقتصادي وسياسي للطبقة العاملة، وانخفاض في قيم الموارد، يسهّل انتزاعها بواسطة رأس المال التجاري، تحت غطاء صنمية الأسعار المخادعة بحرية السوق.

اقرؤوا المزيد: علي قادري.. التنمية تحت تهديد الحرب في العالم العربي

تحظى الهيمنة الأميركية على قنوات تدفق النفط العالمية، وعلى رأسها المضائق والممرات البحرية العربية، بأهمية خاصة في هذا السياق. فهي جزء من بنية كاملة للهيمنة المباشرة على تدفقات المورد نفسه وأسعاره، ومن تعزيز الموقف الأميركي في مواجهة منافسيه من القوى الصاعدة وعلى رأسها الصين، وأخيراً وليس آخراً، استمرار الوضع المهيمن للدولار في البنية المالية العالمية وما يضمنه ذلك لأميركا من ريع إمبريالي وهيمنة مؤسسية.

يزيد كل ما سبق من أهمية استمرار التفكّك العربي كضرورة لاستمرار الهيمنة الإمبريالية عالمياً، ما يجعل من كبح التنمية وتفكيك السيادة الوطنية ومنع تكامل الدولة القومية بالمنطقة أهدافاً أساسية لتلك الهيمنة. الأمر الذي تتشاركه معها الطبقات التجارية وسيطة نقل القيم والثروات من المنطقة إلى الخارج، كونها تخسر بالتكامل فيما بينها كطبقات تجار متطفلين على الموارد الطبيعية والريوع الجيوسياسية، وبالتكامل مع الطبقات العاملة بالاستثمار الإنتاجي فيها، بل وبخروج المنطقة عموماً من تخلفها بتجاوز المراحل الأولى من التصنيع التي تديم استفحال تلك الطبقات ابتداءً، بينما في المقابل، تتعاظم قوتها وسطوتها ضمن دورها في إدامة تقسيم الوظائف الدولية لرأس المال المُوأمول، بقدر ما تكيّف المنطقة لحاجات تراكم رأس المال وأزمات فائض الإنتاج. وهكذا، فإنّ الهيمنة الإمبريالية والنمط التجاري متكاملان، ومتحدان على تصفية سيادة وأمن المنطقة سياسياً، ومنع تنميتها وتكاملها اقتصادياً.

قاعدة الأمل ومنطلق التقدّم

يختتم القادري كتابه بالحديث عن تسليع العمل وتراجع الاشتراكية كقضيتين مترابطتين، وسياقين اجتماعيين شاملين، كما أنهما مظهران لعملية تصفية التنمية العربية إمبريالياً، مُستهلاً كلامه بنقد الزعم النيوليبرالي للمنظمات الدولية، بأن سبب استمرار البطالة يتصل بالأساسيات الكلية كما تعرّفها تلك المنظمات. فقد كانت تلك الأساسيات جيدة نسبياً، سواء كحسابات مالية أو معدلات تضخّم أو احتياطيات أجنبية… إلخ، لكونها فعلياً لا تمت للأساسيات بصلة، سوى بكونها تخدم تحريك المفاصل الرئيسية لاستلاب القيمة من المنطقة.

بل إن عدم استجابة البطالة بالانخفاض لتحسّن تلك "الأساسيات" المزعومة، إنما يعتبر تحدياً لذلك المذهب الاقتصادي. فارتفاع البطالة واتساع الفجوة في مستويات الدخل، إنما يعكسان تضاؤل الاقتصاد المنتج للوظائف الجيدة، ضمن إجمالي الاقتصاد، وفي مواجهة الحجم الهائل لقوة العمل، ما يدفع بمعظم العمّال إلى التشغيل الهامشي بأجور الفقر.

والواقع أن هذا التدهور ليس عَرَضياً ولا غريباً على ذلك المذهب الاقتصادي. فالتراكم على أساس النشاط التجاري والعوائد القائمة على النفط والموارد، يستدعي بالضرورة عدم استثمار الدولة في قوة العمل. وما يثبته المسار التاريخي، هو تفارق التوازنات الاقتصادية الكلية والديموغرافية بين مرحلتيّ الاشتراكية العربية والنيوليبرالية التجارية، إذ توافق معدل نمو السكان مع معدل التوسّع في التشغيل في المرحلة الأولى خلال الفترة 1960-1980، فيما اتسع الفرق بينهما بتراجع معدّل التوسّع في التشغيل خلال المرحلة الثانية خلال الفترة 1980-2010. 

ما حدث كان ضمن سياق أوسع من عمليات الاستغناء عن قوة العمل، بما شملته من حروب إقليمية وأهلية، وما أظهرته من تدهور لمستويات المعيشة وسوء تغذية الأطفال، لفرض المزيد من تراجع الإيديولوجية الاشتراكية وضغط الأجور لأسفل، كعملية تعزيز لإمكانات التراكم عبر ضغط التكاليف الأجرية واستنزاف فائض القيمة. فالقيمة تتحقق أساساً إما بزيادة متوسط الإنتاجية الاجتماعية للعامل، أو بخفض حصة العمل في الناتج الاجتماعي بالإفقار أو التقشّف. 

بهذه العملية في الدول الطرفية، يستمر فائض القيمة التاريخي المُستنزف من الأطراف في دعم أجور الطبقات العاملة في المراكز، حتى مع انخفاض الحصة الإجمالية للعمل عالمياً تحت ضغط التصاعد في مكانة وقوة رأس المال المالي ونمط تراكمه النقدي اللا-إنتاجي وسياساته التقشّفية الضرورية، ومن ثم ضعف حاجته لإدماج العمل الاجتماعي الفائض في عمليات الإنتاج منخفضة العائد، مع تراجع التصنيع في ظل وفرة الإنتاج الكاشفة للتناقض الماركسي الكلاسيكي ما بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج.

عامل مصري يحمل وعاءً بلاستيكياً بينما تظهر في الخلفية أعمل البناء في "المسجد المصري الكبير"،2021. (Getty Images).

تنضوي هذه العمليات لتصّفية طاقات العرب الإنتاجية تحت لواء عملية أشمل لضبط عمليات الإنتاج عالمياً وفقاً لمتطلبات الإمبريالية الحديثة، وضمن محاولات علاج الأزمات في المراكز من خلال سياسات الطلب الكينزية، التي تستلزم إفقار المناطق المكشوفة أمنياً. بتعبير آخر، تقييم هذه المناطق (تحديداً الأطراف) بأقل من قيمتها، ضمن شروط الكفاف المُحددة تاريخياً، للحفاظ على تدفّق الثروة الحقيقية وتسهيل إدارة رأس المال لعملية التراكم الكلية. ولا تنجو من هذه العملية، جزئياً، سوى البلدان الصناعية متوسطة الدخل، التي تتمفّصل ضمن حلقات أكثر تقدماً من تقسيم العمل الدولي، وتحتل الطبقة الوسيطة في تراتبية النظام العالمي.

أما تلك الأطراف، فتحسين موقفها مرهون ابتداءً بالخروج على النسق العولمي النيوليبرالي، وتأمين السيادة الوطنية، وإغلاق حسابات رأس المال. ذلك من أجل ضمان الاستقلال في مجالات السياسة المحلية والإدارة الاقتصادية، وسدّ شرايين تسرّب القيمة ونهب الموارد، وإعادة تدوير الفوائض داخل الاقتصاد الوطني، ممّا يعيد فتح آفاق الاستثمار الإنتاجي طويل الأجل، ومن ثم التصنيع المستقل والتشغيل اللائق؛ أي المهمة المزدوجة للسيطرة على التجديد الاجتماعي الذاتي والعدالة الاجتماعية معاً كوحدة واحدة.

اقرؤوا المزيد: ماذا نفعل في موسم الصعود على الجثث؟

يعني هذا حتمية تغيير الدينامية الإقليمية للتنمية في المنطقة، المُتمثّلة في النفط والحرب، ضمن الحتمية الأكثر شمولاً، وهي استعادة الدولة العربية المُستلبة بأيدي رأس المال التجاري المتحالف مع المراكز الإمبريالية، إلى قبضة الطبقة العاملة العربية، لاستكمال نضالات التحرّر الوطني السابقة. هذه النضالات، تتسم بثلاث سمات أساسية: أولها؛ التشريك العاجل لوسائل الحياة بدءً من قطاعات المال والتوزيع والنقل والاتصالات، كأساس لنهج لا-رأسمالي مخالف للنهج النيوليبرالي التابع، وثانيها؛ شموله الحتمي للحرب الشعبية ضد المقاومة المُتوقعة من الإمبريالية وذيولها، فيما ثالثها؛ هو الأممية الضرورية باعتبارها معركة الطبقة العاملة العالمية نفسها.

بالطبع، لا تبدو هذه الحلول بهذه البساطة، فهي تستلزم سياقاً كاملاً مختلفاً على المستوى العالمي ذاته، ما يتطلب نقاشاً كاملاً خارج نطاقنا هنا. لكن ما لا يمكن الاختلاف عليه، هو حتمية استعادة التصنيع المستقل كقاعدة لأي أمل، وكمنطلق لأي تقدم، في المنطقة العربية. هذا هو أهم ما يعيد القادري التأكيد عليه، ويعيد مركزته في النقاش الإقتصادي والتنموي العربي؛ الاستقلال والسيادة كإطار للتجديد الإنتاجي للمجتمع في مواجهة التزييف النيوليبرالي، الذي يُشيّء عمليات الاستتباع النهبية بأيدي قوى الاستغلال الرأسمالية، محلياً وعالمياً، في أغلفة تقنية من دعاوى الكفاءة السابحة كذباً في سماوات المجرّد، وشعارات إيديولوجية زائفة عن التكامل العولمي الجامع.