25 أبريل 2022

أسعارٌ ترتفع في سوق هشّ: حوار مع عبد الله حرب

أسعارٌ ترتفع في سوق هشّ: حوار مع عبد الله حرب

مقدمة

يكاد يكون موضوع غلاء الأسعار الذي أصاب الكثير من السلع والمواد الأساسيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، من أكثر المواضيع التي يُعنى بها الناس في الوقت الحالي، لأنّها تمسّ رزقهم ومعيشتهم ويوميّاتهم. الجميع يوجّه أصابعه إلى الحرب الروسيّة الأوكرانيّة عند تفسير الارتفاعات في الأسعار، إذ تعتمد على صادرات هاتين الدولتين كثيرٌ من دول العالم. من جهةٍ، تُعدُّ روسيا ثاني أكبر دولةٍ مُصدّرةٍ للغاز في العالم، وثالث أكبر دولةٍ مُصدّرة للنفط، عدا عن تقدّمها في تصدير المعادن والأخشاب وغيرها من المواد الأساسيّة. من جهةٍ أخرى، فإنّ أوكرانيا تُعدُّ من أكبر مُصدّري الحبوب والقمح في العالم. 

في هذه الظروف التي يبدو فيها سبب الغلاء قابعاً بعيداً عنّا؛ هناك في الجزء الشماليّ من العالم، تنتشر الكثير من التفسيرات والتحليلات حول المسألة، فتزيدها غموضاً فوق غموضها. قد تكون الحرب ومُلحقاتها مناسبةً لهذه الموجة من ارتفاع الأسعار، ولكنّها ليست وحدها ما يُفسّر هذا الغلاء الفاحش الذي أصاب بلادنا، إذ أُلقيت أزمات العالم فوق أزمات محليّة عندنا كشّفت عن هشاشة السوق الفلسطينيّ. 

إن كانت السلطة الفلسطينيّة أشبه ببلديّةٍ كبيرة، فإنّ سوقها أقرب ما يكون إلى "حسبة خضار" كبيرة، فهو سوقٌ يغيب عنه التنظيم، ويفرضُ فيه القويّ سعرَه على الضعيف، ويُحصرُ في منطقةٍ مُحدّدة لا يُسمحُ له التحرّك خارجها، ولا يوجد نظامٌ اقتصاديّ يحكمه بقدر ما هي سياسات واتفاقات رُتّبت بين السلطة و"إسرائيل". 

ونحن هنا نحاور الباحث الفلسطينيّ الاقتصادي عبد الله حرب، وهو طالب دكتوراة في تخصص التمويل والبنوك في جامعة Kadir Has في اسطنبول، لنضع ملامحَ لهذا السوق تُمكّنا من فهم ارتفاع الأسعار المتصاعد شهراً بعد شهر.

منذ أن اندلعت الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والجميع في بلادنا مشغولٌ بالحديث عن ارتفاع الأسعار، حتّى قبل أن ترتفع فعلاً. لا تكاد توجد سلعة أساسيّة يستهلكها الناس إلا وارتفعت، ومنها ما كان ارتفاعه كبيراً؛ ارتفاعات طالت قطاع الإنشاءات والمحروقات والمخابز والخضروات والدجاج اللاحم وغيرها الكثير من المواد الأساسيّة. كيف يُمكن أن نفهم هذا الارتفاع في الأسعار الذي اشتمل على طيفٍ واسعٍ من الأصناف؟

حرب: في البداية، لا بد من توطئة. الأسعار في النهاية مُحصّلة لمُعادلة تحكمها مجموعةٌ من المُركّبات والأسباب، تحديداً إذا ما كانت هنالك تقلّبات عليها كما الآن. بهذا، لا يُفسّر التغيّرَ الكبيرَ في الأسعار عاملٌ واحد، حتّى لو ارتبط بحدثٍ كبير كالحرب الواقعة بين روسيا وأوكرانيا، وإلا لماذا يكون أثر العامل العالميّ أقلّ على مناطق أخرى في العالم ممّا هو حاصل في بلادنا، ليس فقط من ناحية حجم ارتفاع الأسعار، وإنّما أيضاً من ناحية أثر هذا الارتفاع على الناس، فاستجابة المُجتمعات للارتفاع ليست متساوية، وأثره عليهم مرتبط بالظروف والقدرة والأدوات التي تمتلكها الدولة أو المُجتمع لمُجابهة مثلَ هذه الأزمات الاقتصاديّة. إذاً، نحن نتحدّث عن مجموعة من العوامل تضافرت لتُنتج المُعادلة التي أمامنا. 

هناك أولاً عوامل أو أسباب تتعلّق بالظرف العالميّ العام، وفي هذا الجانب هناك نقطتان: تداعيات أزمة "كورونا" والنقل وسلاسل التوريد،1سلاسل التوريد أو سلاسل الإمداد: مصطلح يطلق على النظام أو العملية التي تشمل إنتاج وتسليم منتج معين أو خدمة معينة للمستهلك النهائيّ، ابتداءً من توفير وتسليم المواد الخام لجهة الإنتاج مروراً بمرحلة الإنتاج وصولاً للمرحلة النهائية بتسليم المنتِج أو الخدمة للمستخدم النهائي. ونشأت الأزمة الأخيرة بسبب الإغلاقات الناتجة عن الجائحة، مما تسبب بتعطيل عدة أجزاء من هذه العملية خصوصاً مراحل الشحن والتسليم على اختلاف أنواعها البريّة والبحريّة والجويّة، وذلك بسبب إغلاقات الحدود وحظر السفر. التي لا تزال تُلقي بظلالها على اقتصاد العالم، خصوصاً أنها تزامنت مع الحرب التجاريّة بين الصين وأميركا. ثمّ ما إن وصلنا إلى الحرب الروسيّة الأوكرانيّة حتى كانت الأرضيّة مُهيّأةً بالفعل لارتفاعاتٍ في الأسعار، فكانت الحرب هي السبب المُباشر.

"الحرب هي السبب المُباشر"؛ الجميع يقول ذلك. ولكن قد ينتاب أحدهم شكّ حول مدى تأثير حرب "لا ناقة لنا فيها ولا جمل" علينا، فإلى أيّ مدى يكون ارتفاع الأسعار في بلادنا نتيجةً لما يحدثُ في بلادهم؟ 

حرب: تهمّنا الحرب في جانبين: الحبوب والقمح، فروسيا وأوكرانيا تُعتبران من أهم الدول المُصدّرة لهما. والنفط، وما تعرّض له من قفزةٍ مهولةٍ في الأسعار، فنحن نتكلّم عن روسيا؛ من أهم البلدان التي تُصَدِّر النفط والغاز للعالم، تتعرّض لحصارٍ وخوفٍ وأزمة. وفي الوقت نفسه، لم تزد الدول الأخرى المُنتجة للنفط من الضخّ في السوق لتُخفّف من الضغط الذي تتعرّض له الأسعار، وهو ما أدّى إلى ارتفاعها أكثر وأكثر، فوصلت إلى مستوياتٍ لم تَصِلها منذ 10 سنوات. ونحن حين نقول ارتفع الوقود، فإنّ هذا يعني ارتفاعَ كلّ شيء تقريباً، فلا يكاد توجد سلعة أو مُنتج إلا وترتبط بشكلٍ أو بآخر بالوقود والنفط. 

يؤثّر ذلك علينا، فعالم اليوم مُتشابكٌ جداً، وتعتمد الدول على بعضها البعض. فكرة التجارة الدوليّة الحرّة، قائمة على مبدأ بسيط: تعالوا نفتح الحدود فيما بيننا ونسبح بلا حدود في تدفّق البضائع والتجارة؛ هذا هوى التبشير الرأسمالي والتجارة الدوليّة الحرّة، حيث الجميع يستفيد من هذا الانفتاح التجاريّ، وطبعاً نحن نعرف أنّ هذه "الاستفادة للجميع" غير دقيقة. العالم مترابط مع بعضه البعض ويعتمد على فكرة سلاسل التوريد ونقل البضائع بين مُختلف القارات والدول. مع كورونا، تأثّرت هذه الماكينة كثيراً فأغلقت مصانع وأعلنت حالات إفلاس وتراكمت الديون، وارتفعت الأسعار. أيضاً، الحرب الصينيّة الأميركيّة التجاريّة ومُبالغة الأميركان في فرض العقوبات الاقتصاديّة في آخر عقدين.2يمكن التأريخ للحرب التجاريّة بين الصين وأميركا من إعلان الرئيس الأميركيّ السابق ترمب في عام 2018  فرض تعرفة جمركية بقيمة 50 مليار دولار على الواردات الصينيّة للولايات المتحدة، وردّت الصين على ذلك بإجراء مماثل. لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى عقوبات استهدفت شركاتٍ صينيّة في مجالات التكنولوجيا على وجه الخصوص، ومن أبرزها؛ هاواوي التي حُرِمت من خدمات جوجل بأمر من الحكومة الأميركية وفرضت عليها عقوبات متعدّدة تحت ذرائع التجسس وسرقات الملكيّة الفكريّة. هزّت فكرة التجارة الدوليّة وتدفّق البضائع وتبادلها، لماذا؟ لأنّه اتضح بأنّ فكرة التجارة الحرّة والمُنافسة الشريفة كذبة، إنّما هناك من يستخدم القوّة المُجرّدة لمنع منافسيه من التقدّم. 

أنتَ قلتَ شيئاً مهماً؛ قلت إنّ الأسعار ارتفعت قبل أن ترتفع، وإنّ الناس تتحدّث عن الارتفاع قبل أن يحدث. يحصل ذلك بسبب تشابك العالم وتداول الأخبار وانتشارها، حتّى أنّ "رجل الشارع" -إذا جاز التعبير- تُصبح لديه القدرة على الاستنتاج والتوقّع: "بما إنه صارت الحرب الدنيا رح تخرب". وأنت تعرف النبوءات ذاتية التحقّق كيف تعمل، فأحياناً تحدث توقّعات ليس لأنّها كانت ستحدث وإنّما لأنّ الناس تُصبح تتصرّف وفقاً لها. في تُركيّا مثلاً؛ انتشرت شائعات تقول بأنّ كميّة الزيوت النباتيّة، التي تُعد تُركيا من أكثر البلدان استهلاكاً لها، ستنفذ بسبب اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا وهما مُصدِّران أساسيّان لها، وبأنّه لا يوجد عند الدولة التركيّة مخزونٌ احتياطيّ من الزيوت النباتيّة. 

تراكض الناس على المحال لشراء الزيوت بكميّات، ووقعت مشاهد تُشبه تلك التي وقعت مع ورق التواليت بدايات كورونا، وهذا أدّى إلى ارتفاعِ أسعار الزيوت بشكلٍ كبير. وبالرغم من أنّ التصدير من روسيا لم يتوقّف، ومن أنّ الدولة تمتلك مخزوناتٍ عاليّة جداً من الزيوت، إلا أنّ ما حصل هو أنّ الناس توقّعت شيئاً، وبنت على أساسه افتراضها بأنّ هناك أزمة ستحصل، وأدّى خوفها إلى الإقبال الكبير على شراء الزيوت بطريقةٍ غير طبيعيّة وبطريقة لم يكن السوق جاهزاً لها، فأصبح الطلب أكبر من حجم المعروض غير المُخزّن.

تهيئة الناس بأنّ الأسعار سترتفع يعمل على تعطيل استغرابهم من ارتفاعها لاحقاً. كما أنّ الناس باتت معتادة على فكرة أنّ الأسعار ترتفع مع الوقت. وهذا الأمر يفهمه التجّار جيّداً، فجزءٌ من السوق قائم على المعلومات، فمن تُتاح له المعلومات وقراءتها أكثر من غيره، تكون لديه قدرةٌ أكبر على التحرّك بسرعة واتخاذ القرارات. 

ربّما من البديهيّات الاقتصاديّة أنّ ارتفاع الطلب وانخفاض العرض يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار، ولكن كيف يحدث الارتفاع فعلاً؟ ما الذي يجعل انخفاض المعروض من سلعةٍ ما سبباً في زيادة سعرها بشكل مُفاجئ؟ وفي مثال تركيّا، هناك مخزون احتياطي أصلاً من السلعة. 

حرب: المسألة ليست ميكانيكيّة بين زيادة الطلب وتعبئة الاحتياطي للنقص في العرض، فالدول لديها خُطط لكيفيّة إدارة المخزون وتوزيعه، ومع ذلك فهي لا تستطيع أن تستجيب لهذا النقص بنفس اللحظة وتزيد من المعروض في نقاط البيع، فالبضاعة المُخزّنة تحتاج إلى تعبئة وتوزيع على نقاط البيع، وهذه مهمّة تحتاج إلى بعض الوقت، وخلال هذا الوقت ترتفع الأسعار. في حالة تركيا، كانت لدى الدولة أدواتٌ للتدخّل واستدراك الأمر وضبط السوق، فأحد الإجراءات التي اتخذوها، أن قامت أماكن البيع الحكوميّة وشبه الحكوميّة بتقنين الشراء على الزيت النباتيّ، فمنعت المُستهلك من شراء أكثر من عبوة مثلاً. 

هناك ما يُشبه "اليد الخفيّة" في السوق، بتعبير آدم سميث. الاقتصاد يقول بأنّ من الطبيعي أن ترتفع الأسعار حين يزيد الطلب ويبقى المعروض ثابتاً أو ينخفض، لأنّه يقع بين الناس تنافس حول شراء السلعة، وعليك حتّى تحصل عليها أن تدفع أكثر من غيرك. ومنطق السوق هذا، يُشكّل نافذةً لاستغلال التجّار في مثل هذه الظروف، إذ يرفع الأسعار بشكلٍ تلقائيّ. ليس ثمّة خطّة شريرة بقدر ما هناك ماكينة للسوق تعمل بهذه الطريقة. 

 

تحدّثنا عن الأسباب العالميّة لارتفاع الأسعار، وقلت بأنّها لا تكفي لتفسير الارتفاع الضخم الذي أصاب بلادنا، وقلت بأنّ هناك معادلة تتكوّن من مجموعة عوامل، تؤثّر مُجتمعةً على الأسعار. لقد شرّحنا جزءاً من العوامل العالميّة، فماذا عن العوامل المحليّة التي تخصّ سياقنا الفلسطينيّ؟ 

حرب: هناك مجموعة من العوامل المحليّة التي تضافرت وأدّت إلى هذا الارتفاع الكبير في الأسعار والواسع في الأصناف، منها ما هو متعلّقٌ بحوادث عينيّةٍ ومنتجاتٍ مُحدَّدة، مثلَ تلف وتضرّر العديد من المحاصيل الزراعيّة خلال موسم الشتاء، وتغيّر سلوك الناس الشرائيّ في بداية رمضان وازدياده بما لا يتناسب وحجم المعروض في السوق، والاحتكار والتلاعب في الأسعار. ومنها ما هو مُتعلّقٌ بطبيعة السوق الفلسطينيّ والعلاقة مع الاحتلال ودور السّلطة الفلسطينيّة في ذلك. 

في حالتنا الفلسطينيّة، هناك أمور أخرى تخصّنا تُضاف للتحليل، تجعل أثرَ مثل هذه الهزّات الاقتصاديّة العالميّة علينا أقسى. خلال أزمة كورونا مثلاً، كانت الآثار قاسية على الفلسطينيّين، من عُمّال وأصحاب مشاريع صغيرة وغير ذلك، لأنّه لا توجد لدينا بُنية باستطاعتها التعامل مع هذه الظروف. نحن بلد تحت احتلال، و"اقتصادنا" مرتبطٌ بالاحتلال. وأضع كلمة "اقتصادنا" بين علامتي تنصيص، لأنّ ما عندنا ليس اقتصاداً، إنّما هو أقرب ما يكون إلى ممارسة اقتصاديّة، فليست لدينا مقوّمات اقتصادٍ حقيقيّ؛ ليست عندنا سيطرةٌ على حدودنا ولا على ثرواتنا ولا على أدوات إنتاجنا، ولا نملك عملةً خاصّةً بنا، وليست لدينا مؤسسة ماليّة ذات سيادة، ولا نتحكّم بالضرائب والجمارك. 

إذاً، لدينا ظروف خاصّة تجعل من الأزمات التي تقع علينا شديدة. على سبيل المثال، تُشير الإحصائيات الأخيرة إلى أنّ 80% تقريباً من السلع الأساسيّة "مستوردة"، إذ بلغ حجمُ واردات السّلطة عام 2020 حوالي 6 مليارات دولار. ومعنى "مستوردة" أنّ الجزء الأكبر منها يأتينا من الاحتلال، والجزء الآخر يأتي عن طريقه؛ الأردن وتركيا والصين. كما أنّنا ملزمون وفق بروتوكول باريس الاقتصاديّ باللحاق بالتغيّرات التي تحصل في الاقتصاد الإسرائيلي، فأسعارُ الوقود عندنا تتقارب مع تلك التي في "إسرائيل"، وأهم ضريبةٍ لدى السلطة، وهي ضريبة القيمة المضافة التي تجبيها "إسرائيل"، ممنوعٌ أن تنقص عن 2% عن السعر الذي تحدّده "إسرائيل". 

مع هذا الربط، أصبحت مستويات الأسعار بين الضفّة و"إسرائيل" متقاربة جداً، في حين أنّ ثمّة فرقٌ شاسع بين مستويات الدخل. يبلغ الحدّ الأدنى للأجور في مناطق السّلطة 1880 شيكلاً، طبعاً هذا كلام نظريّ فهو غير مُطبّق بشكلٍ كبير. فيما يبلغ الحدّ الأدنى للأجور في "إسرائيل" 5300 شيكلاً. ويبلغ متوسط الدخل في مناطق السلطة 700 دولار تقريباً (2300 شيكل)، وفي "إسرائيل" 3260 دولاراً (10,713 شيكلاً). هذا ناهيك عن حجم الفروقات البنيويّة بين الاقتصاد الإسرائيليّ والسوق الفلسطينيّ، نتحدث هنا عن فروقاتٍ شاسعةٍ في حجم الاقتصاد وطبيعته وتركيبته، وتنوّع مصادره، وحجم الفرص المتاحة للإسرائيليّ في الاستثمار والوصول لمصادر التمويل، وكذلك السيطرة على أدوات الإنتاج والثروات، إذ أنّ الاقتصاد الإسرائيلي قائمٌ بشكلٍ أساسيّ على نهب مواردنا وخيراتنا من أراضٍ ومياهٍ وقوّةِ عملٍ وغير ذلك. بالتالي، لا نمتلك كفلسطينيين مناعةً تجاه أي هزّةٍ اقتصاديّة تحلّ بنا. أضف إلى ذلك، أنّ السلطة في الضفّة، لا أقول بأنّها لا تمتلك إرادة، بل ولا تمتلك أدواتٍ وقدرةً تُمكّنها من عمل شيء. حتّى الشيء الذي تبرعُ السّلطةُ فيه، وهو "الحل الأمنيّ" المتمثّل في الرقابة والتفتيش والردع والعقوبات لضبط السوق والأسعار، غائبٌ تماماً. 

كلام جميل. لنحاول أن نُطَبّقه على الأرض ونأخذ مثالاً عينيّاً على ارتفاع أسعار الدجاج التي وصلت إلى 23 شيكلاً للكيلو وربّما تجاوزت ذلك. ونحن نتحدّث عن صنفٍ أساسيٍّ على المائدة يتجاوز معدّل استهلاكه في الضفّة خلال رمضان عن الـ 5 مليون دجاجة، تحديداً لمحدودي الدخل كتعويض عن غياب اللحوم الحمراء. لنُجرّب أن نُسقط على هذا المثال العواملَ المُجتمِعة التي ذكرتَ، حتّى نفهمَ كيف ارتفعت أسعاره. 

حرب: لنُجرّب، ولنأخذ عاملين أساسيّين في تربية الدجاج اللاحم. العامل الأوّل، أنّ الدجاج بحاجة إلى تدفئة، خصوصاً وقد مرّت موجةُ بردٍ شديدةٍ في الفترة السابقة، والتدفئة تعني الكهرباء، والكهرباء تعني الوقود، وهذا مُرتبط بأسعار النفط. العامل الثاني، أنّ الدجاج بحاجة إلى علف، وأسعار الأعلاف عالميّاً ارتفعت. ستقول لي بأنّ الارتفاع الكبير على أسعار الدجاج لا يعكس هذه المُدخلات، هذا صحيح. 

تعرّض سوق الدجاج في الضفّة إلى تغيّرات منذ 25 سنة تقريباً، حينما تأسست شركة دواجن فلسطين "عزيزا". احتكرت هذه الشركة تقريباً تربية الدجاج اللاحم وإنتاج وبيع بيض التفريخ وتصنيع الأعلاف وإدارة المسالخ، وتقوم ببيع ذلك لنقاط بيع المفرّق ومزارع الجملة. كانت المزارع تشتري الصوص اللاحم من "إسرائيل" مُباشرة، أمّا اليوم فـ "عزيزا" تقوم بذلك وقد أصبحت المورّد الأساسي. 

هذا الوضع الاحتكاري، يجعل لدى المُحتكر قدرةً على التحكّم في السعر ورفعه. يحصل ذلك إمّا باتفاق بين اللاعبين الأساسيين، أو يحصل ضمنياً بمنطق السوق. وهنا يحدث استغلال للعوامل التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكلٍ طبيعيّ، فيتم التلاعب بالأسعار؛ الأمر الذي يؤدي إلى تضخّم هامش الربح أكثر ممّا يُفترض، فهذه لحظة مواتية بالنسبة لهؤلاء لتحقيق أرباحٍ مهولة، حين تكون الناس مُتفّهمةً لارتفاع الأسعار بسبب الظروف العالميّة. 

يبدو من السلوك الاحتجاجي لبعض التُجّار، مثل شركة الإسلاميّة التي تُنتج اللحوم المُغلّفة (المرتديلا وغيرها)، أنّ هناك في الخلفيّة تحميلٌ لهامش الربح الكبير من قبل المورّدين الكبار على المُستهلك النهائي. وطالما لا وجود لهيئات رقابة وسلطة تزوّد بأرقام ومعلومات حول هذه الوقائع، يبقى الكلام الذي نقوله "نميمة شارع"، التي أصدّقها شخصيّاً، فالناس تعرف وترى وتراقب، ولكنّه ليس دليلاً علميّاً. 

حسناً. طبيعة السوق الفلسطيني هشّة، وتحكم هذه الهشاشة سياساتٌ تبنّتها السُّلطة تركت المجالَ أمام رأس المال أن "يسرح ويمرح" دون رقيبٍ أو حسيبٍ كما في حالتي الشركات الاحتكاريّة والبنوك، واتفاقيّات وقّعت عليها مع "إسرائيل" جعلت سوقنا تابعاً. ما هي تمظهرات هذه التبعيّة التي نتكلّم عنها؟ 

حرب: نلمس التبعيّةَ في كلِّ شيء. خذْ على سبيل المثال العمّال، فمن اللحظة التي ترفع فيها "إسرائيل" من عدد المسموح لهم العمل عندها، حتّى نشعر بنقصٍ في الأيدي العاملة في الضفّة. كذلك، تسيطر "إسرائيل" على المعابر والحدود وحركة الاستيراد وجباية الضرائب، وبالتالي تربطك بشكلٍ مباشرٍ معها. تتحكّم أيضاً بالجغرافيا، فتسمح للمستوطنين مثلاً بإدخال بضائعهم إلى السوق الفلسطيني فتُغرِقَه بها، ويتم ذلك بتنسيقٍ مع السّلطة. والمُنتج الزراعيّ الإسرائيليّ متفوّقٌ على مُنتجنا تقنيّاً ومدعومٌ حكوميّاً بتعويضاتٍ في حالات الخسائر ودعمٍ في الأسعار وغيرها، على خلاف الفلسطينيّ، لذا يُسبّب وجوده في سوقنا كساداً للمنتج الفلسطينيّ إذ يضعُف الإقبالُ عليه. وغير ذلك الكثير من الشواهد والمظاهر التي لا تنتهي للتبعيّة مع "إسرائيل"، والتي تُلقي بظلالها على السوق الفلسطينيّ.

على صعيدٍ آخر، موارد السلطة مُحدَّدة بالورقة والقلم. موازنتها قائمة بشكلٍ أساسي حاليّاً على الضرائب والجمارك، التي تجبيها وتُديرها "إسرائيل"، فتُشكّل قرابة الـ 70% من موازنة السلطة حاليّاً، ذلك بعد أن كانت حصّة الأسد للمنح الخارجيّة. أما المورد الثاني، فهو العمالة في "إسرائيل"؛ إذ تعتبر واحدة من أكبر مصادر التشغيل في السوق الفلسطينيّ، وبحسب بعض الأرقام والإحصائيات فإنّها أكبر من السلطة ذاتها، وهذا تمظهرٌ عجيبٌ من تمظهرات التبعيّة، أن يكون أكبر مشغّل لديك هو طرفٌ خارجيّ، ناهيك عن كونه احتلالاً.3تختلف الأرقام حول أعداد موظفي الوظيفة العموميّة في السّلطة الفلسطينيّة وأعداد العمّال في "إسرائيل"، إلى أن بعضها يُشير إلى تقاربٍ شديد بين القطاعين. إضافة إلى أنّ السلطةَ ليس بيدها شيء، ليس فقط الأدوات والقنوات الماليّة، وإنّما أيضاً الأدوات التقنيّة؛ المؤسسات والقوانين والقدرة على التدخل في السوق وضبطه معدومة. ليس لدينا بنكٌ مركزيّ ولا عملة ولا قدرة حقيقيّة على التحكم بأسعار الفائدة، ونحن ملزمون أن نوائم أنفسنا مع "إسرائيل" بكل شيءٍ تَفرِضُه اقتصاديّاً. بعد كلّ ذلك، عملت السّلطة خلال السنوات السابقة على إعدام قدرة المجتمع للتعامل مع مثل هذه الأزمات، عبر محاصرة العمل الخيريّ والمؤسسات الأهليّة وقتلها. 

اقرؤوا المزيد: "لجانُ الزكاة.. فصلٌ من تدمير العمل المجتمعيّ".

حين استلم محمد اشتيّة رئاسة الوزراء كان دائم التكرار لفكرة الانفكاك عن التبعيّة للاقتصاد الإسرائيلي، وعن وجود تصوّرات اقتصاديّة وخطّة عُنقوديّة من شأنها أن تُخفّف تدريجيّاً من سيطرة الاستعمار على اقتصادنا، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث. ماذا يكون دور السلطة إذاً في التعامل مع هكذا أزمة تواجه الناس؟

حرب: في البداية، السلطة ليست معنيّة بارتفاع الأسعار لأن ذلك يعني أنّ الناس قد تنفجر، والسلطة طبعاً معنيةٌ باستقرار وضع الضفّة. ولكن في الوقت نفسه، السلطة غير قادرة على مواجهة الأزمة، وفشلها مردّه إلى سببين في تقديري: عدم رغبتها في التصادم مع رأس المال المسيطر على البلد، وضعف جهازها الإداريّ ومؤسساتها. وحتّى "الحل الأمني" والسلوك السلطويّ المباشر الذي تَبْرَعُ فيه السلطة بالتعامل مع الأمور عبر الرقابة وفرض العقوبات، لا تقوم بتنفيذه، وهذا يعني أنّ السلطة تمرّ بمراحل ضعف غير مسبوقة. 

شكّلت السلطة "خليّة أزمة" للتعامل مع ارتفاع الأسعار، وهي مكوّنة من وزارتي الماليّة والاقتصاد وممثلين عن القطاع الخاصّ والغرف التجاريّة واتحاد الصناعات، وكان إحدى قراراتها إعفاء الطحين والمخابز من ضريبة القيمة المضافة البالغة 16% لمدّة ثلاثة أشهر عن مارس وأبريل ومايو 2022. برأيك، هل من المُمكن أن تُساعد هذه الخطوة في التخفيف عن الناس وتخفيض الأسعار أم هي مجرّد تأجيل للأزمة وإعادة تدوير لأزمات السلطة التي تصرّف رواتب الموظفين منقوصة منذ نوفمبر الماضي؟

حرب: هذا نوع من حلول "أوقات اليأس"، عندما لا يكون بيدك شيء آخر، فليس عندنا مثلاً صندوق للكوارث؛ المال عندنا محسوب بالورقة والقلم. طيّب، ماذا بعد الأشهر الثلاثة؟ نحن نتحدّث عن أزمة، تحديداً في الطحين والقمح، مُتصاعدة. لا يكون حلّ المسألة بإعفاء من ضريبة القيمة المضافة لثلاثة أشهر وإنّما عبر خطط جادّة. المسألة وما فيها هو تأجيل للأزمة لما بعد رمضان. وأصلاً، هذه الضريبة جزءٌ أساسيٌّ من ميزانيّة السلطة حتّى تتمكن من دفع رواتب الموظفين. 

قد لا يكون هناك اقتصادٌ فلسطينيّ، ولكن هناك سوقٌ ماليّ فلسطينيّ تُديرُه السُّلطة الفلسطينيّة، وهذا السوق ينتظم وفق سياساتٍ اقتصاديّة؛ من اتفاقيّة باريس وحتّى سياسات "الإصلاح الاقتصادي" التي شرعت السلطة بتنفيذها بعد الانتفاضة الثانية فعطّلت الكثير من الجمعيّات الفاعلة مُجتمعيّاً. برأيك، هل كان بالإمكان تجاوز هذه الأزمة لو اتُخِذَت سياساتٌ مختلفة؟ 

حرب: طبعاً، في النهاية جزءٌ من واقعك اليوم هو نتاج سياسات اتخذتَها وصنعتَها قبل سنوات. كلّ النمط الاقتصاديّ الذي روّجت له السُّلطة حين قدومها، ولاحقاً النسخة المحدّثة منه في عهد سلام فياض، كلّه فيه إشكالات. ما فعله هو إغراق الناس بالكماليات وخلق أنماط من الاستهلاك غير صحيّة وتخلق فقاعات؛ بمعنى ليست قائمة على شيءٍ حقيقيّ. أدّى ذلك إلى ضمورٍ في قطاعات الإنتاج والاقتصاد الحقيقيّ، وتراجعت حصتها بشكلٍ كبيرٍ من الناتج الإجمالي المحلي. 

فيما يخصّ الجمعيّات، فقد لُوحِقَت وأُغلِقت وتمت السيطرة عليها. لا أتحدّث عن العمل الخيريّ بمفهومه التقليديّ فحسب، من رعاية أيتام وتوزيع قسائم شرائيّة على الناس، على أهميّته، إنّما عن مؤسسات ومشاريع أهليّة وخيريّة إنتاجيّة، من مصانع وورشات ومشاغل ومستشفيات ومستوصفات، ضُربت وحُدَّ من فاعليّتها ونشاطها. كانت هذه المؤسسات تمارس دوراً اجتماعيّاً واقتصاديّاً يُغيث الناس ويُساهم في تخفيف آثار الصعوبات التي كانت تواجههم، ولو أنّ هذا القطاع كان ما يزال موجوداً وفاعلاً في ظلّ غلاء المعيشة وتردي وضع الناس، لكان وضعها أفضل. ولا أقول إنّ هذه المشاريع ستحلّ من الأزمة، ولكنّها تساهم في تخفيف أثرها وتعزيز صمود الناس. 

لنأخذ مثالاً على مشروعٍ مُهمّ وانتهى بسبب استهداف لجان الزكاة نهاية الانتفاضة الثانية، وهو مشروع "الصفا" للألبان الذي كان تابعاً للجنة زكاة نابلس. عدا عن أنّ المشروع يُوفّر فرص عمل، فقد كان قائماً على الإنتاج الزراعيّ المحلّي، فلديه مزارعه ويأخذ من مزارع محليّة، ويعيد إنتاجها ثمّ يضخّها في السوق. وهو في النهاية مشروعٌ أهليّ وليس رأسماليّ، بمعنى غير تابع لرجال يريدون أن يراكموا أرباحاً، بل كانت أرباحه تذهب للعمل الخيريّ، ومن ثم إعادة ضخّها في مشاريع إنتاجيّة للمجتمع. 

كذلك، فإنّ السلطة حين أغلقت هذه المؤسسات والجمعيّات، فإنّها أغلقت معها قنواتاً ماليّةً كانت قائمةً على الجمع الخيريّ من متبرعين ومؤسسات في العالم العربيّ والإسلاميّ، وهي خارج القنوات الماليّة الإسرائيليّة والأوروبيّة التي تزيد من تبعيتنا. وإن كان ليس لها أثر مباشر في مسألة الغلاء، غير أنّها جزء من مقوّمات الصمود. إنّ النمط الاقتصاديّ الذي تبنّته السلطة وتحالفَها مع رأس المال، أدّى إلى تغوّل النمط الاستهلاكيّ على حساب نوع من التجارب التي كانت موجودة من قبل، مثل التعاونيّات والتكافل الشعبيّ والعمل الخيريّ الإنتاجيّ.

لنذهب إلى قطاع غزّة. اتصلت بصديقنا الباحث خالد أبو عامر من خانيونس، وتحدّثنا قليلاً عن الوضع الخاص للقطاع في أزمة غلاء الأسعار. يبدو أنّ هناك قدراً ما من التشابه مع الضفّة في العوامل المحليّة المؤثّرة على السوق وارتفاع الأسعار؛ هناك استغلال من قبل التجّار، وهناك اعتماديّة عالية على الاستيراد من "إسرائيل" وتركيا والصين، واعتماديّة أكبر على مصر (التي حظرت تصدير 8 مواد استراتيجيّة لمدّة ثلاثة أشهر منذ مارس) في توفير الاحتياجات الأساسيّة للقطاع، وثمّة تقصير وعجز حكومي في تقليل الاعتماديّة وخلق اقتصاد مقاوم. مع ذلك، فإنّ للقطاع ظروفاً خاصّة مُتعلّقة بالحصار المفروض عليه منذ 15 سنة تجعل سوقه مختلفاً عن سوق الضفّة؛ بتركيبته وارتباطاته وممارسات الناس فيه. كيف يُمكننا قراءة ارتفاع الأسعار في القطاع بناءً على مشهد السوق هناك؟

حرب: تتشابك في القطاع ثلاث مجموعات من العوامل تُساهم في ارتفاع الأسعار هناك، وتساهم كذلك في الحدّ من قدرة المُجتمع الغزّي على التخفيف من آثار هذه الارتفاعات. المجموعة الأولى، وهي الأسباب الخارجيّة التي تطرّقنا لها فيما سبق، إضافةً إلى محدودية مصادر الواردات لغزّة ("إسرائيل" ومصر بالدرجة الأولى). 

والمجموعة الثانية تتعلق بالحصار، وما أفرزه من آثار حدّدت شكل وحجم وواقع السوق الغزيّ. إذ يتجاوز الحصار مسألة إغلاق المنافذ والحدود للتحكم بالوارد إلى القطاع والخارج منه، إلى كونه يتحكم حتّى بكمية المال والنقد الممكن توافرها. فالموارد الماليّة في القطاع معروفةٌ ومحددة، وتتمثل بشكلٍ أساسي في: رواتب السلطة ومساهمتها في موازنة القطاع، والمنحة القطريّة وموارد الجمعيات الخيريّة، والعمالة في "إسرائيل" مؤخراً، وبالتالي يمكن لأي تحسنٍ أو تراجعٍ في أي من هذه الموارد أن يُترجم لآثارٍ فوريّة على الوضع الاقتصاديّ والنشاط التجاريّ، وبالتالي الأسعار.

أمّا المجموعة الثالثة من العوامل، فتتعلق بإدارة القطاع، وعدم تمكّن "حماس" خلال سنوات الحصار من تخفيف الاعتماد على الخارج، وعدم تمكنها من خلق حالة من الاكتفاء في بعض المجالات، خصوصاً الغذائيّة منها، أو خلق ما يمكن تسميته بـ"الاقتصاد المقاوم" أو اقتصاد الحصار. إضافةً إلى أنَّ الممارسات الاحتكاريّة والتلاعب بالأسعار، تكون مؤثرةً أكثر في حالة القطاع بسبب أنَّ اللاعبين الرئيسيين في السوق عددهم أقل، ومع ذلك كان للحكومة في القطاع قدرة أكبر وتحرّك أسرع في التدخل الرقابيّ والقانونيّ لملاحقة مثلَ هذه الظواهر.

هل وصلنا إلى الحدّ النهائي من ارتفاع الأسعار؟ هل من المُمكن أن تتفاقم الأوضاع أكثر من ذلك؟ 

حرب: من الصعب التوصّل لاستنتاج بهذا الخصوص. أولاً، هناك شيء مخيف بتخيّل أنّه من الممكن أن تتفاقم الأوضاع أكثر من ذلك، فالناس أُرهِقت جداً. ثانياً، من الواضح أنّ العالم ذاهبٌ إلى درجات تصعيدٍ أكبر ممّا هي عليه الآن، وبالتالي أزمات أكثر. هذا في الوقت الذي فيه نسب البطالة عالية في مُجتمعنا، والأجور مُنخفضة، ولا توجد مقوّمات تُشير إلى وجود قدرة حقيقيّة على التحمّل والصمود.4بلغت نسبة البطالة في الربع الرابع من عام 2021 حوالي 24%، في قطاع غزّة 45%، وفي الضفّة الغربيّة 13%. من المهم معرفة أنّ هذه الإحصاءات تعتمد على تعريف منظمة العمل الدولية للبطالة، والذي يستثني "المُحبطين من البحث عن وظيفة" و"الذين يعملون ساعات قليلة في الأسبوع" و"الراغبين في العمل ولكنهم لا يبحثون عنه". 
مع الهزّات المُتتالية في العالم، عادت بعض الدول اليوم للتفكير بالاقتصاديّات القوميّة؛ أي التفكير من منطلقات بلادهم لا من منطلقات رأسماليّة مُعولمة، ومعاودة النظر في فكرة التجارة الحرّة والدوليّة. يتموضعون قوميّاً، لا من ناحية سياسيّة وثقافيّة فحسب، بل أيضاً من ناحية اقتصاديّة وأمنٍ غذائيّ.

ولكنّنا لسنا في دولة، ولا أحد يعوّل على السلطة، فهل هناك ما يُمكن فعله مُجتمعيّاً؟

حرب: إنّ أكثر شيء أحاول ألا أفعله هو التنظير على الناس. لقد تمّ تجريفنا كمجتمعٍ، بُنانا الاجتماعيّة والفصائل والمؤسسات والجمعيّات والنقابات، جميعها جُرّفت. مُعظم البنى التي كان من المُمكن أن نتكئ عليها في تحصين المجتمع وحمايته وإعادة إنتاج نوعٍ من الاقتصاد الاجتماعيّ والتكافليّ، ضُرِبت. فمنذ تأسيس السلطة وحتّى عام 2015، ووفقاً لمعطيات البنك الدولي، تراجعت حصّة الصناعات التحويليّة من الناتج المحلّي الإجماليّ5هو القيمة الإجمالية لجميع السلع والخدمات النهائية التي تقوم بإنتاجها أي دولة باعتباره أداة شاملة لقياس إنتاج هذه الدولة، ويمكن احتسابه بمنهجيات مختلفة. الفلسطيني من 19% إلى 11%. الزراعة أيضاً، ضُربت كقطاعٍ إنتاجيّ هامٍ، وتراجعت حصّتها من الناتج المحلّي من 12% إلى 4%، وذلك لأنّها باتت تُحسب بحسابات الجدوى الاقتصاديّة، فيما يجب أن ننظر إليها من زاوية الأمن الغذائيّ، فأهمّيتها تكمن في كونها تقوّي المُجتمع وتساعده على الصمود والثبات في مواجهة الاحتلال، أن تكون قادراً على توفير غذاءك بأوقات المواجهة، لا أن تجوع وتُجوّع. 

شخصيّاً أرى البداية من هنا، أن نعود ونعمل من هذه البُنى. لا أتكلّم عن البنى السياسيّة وإن كانت مُهمّة، وإنّما أتكلّم عن البُنى الاجتماعيّة؛ الجمعيّات والنقابات والتعاونيّات والاتحادات، من الضروري العودة إليها والعمل من خلالها، بحيث تُعزّز من صمود المُجتمع وتماسكه. لأنّه، في النهاية، إذا تفكّكت السلطة أو ازداد ضعفها، سيتعرّى المُجتمع من أي طبقة حماية بشكل أكبر ممّا هو عليه الآن، لذا يجب أن تكون لدينا حلولنا. المسألة بكيف تُنظّم الناس نفسها، ليس لأغراض سياسيّةٍ ونضاليّةٍ في مواجهة الاحتلال فحسب، وإنّما أيضاً لأغراضٍ اجتماعيّةٍ وتكافليّة.