في 12 يناير/ كانون الثاني الجاري، أعلنت وزارةُ الصحّة في غزّة عن وفاة الطبيب وليد عفانة متأثراً بإصابته بفيروس كورونا. في ديسمبر ونوفمبر الماضيين، توفي ثلاثة آخرون من الطواقم الطبيّة نتيجة إصابتهم بالفيروس؛ هم الطبيب مجدي عياد، أخصائي أمراض القلب في مجمع الشفاء الطبيّ، والممرض عادل السيد، أحد ممرضي مستشفى أبو يوسف النجار برفح، والممرض الحكيم أحمد نوفل، الذي عَمِل في مركز شهداء تل السُّلطان الصحّي برفح.
وفق إحصائيةٍ داخليّةٍ لوزارة الصحّة، بلغ إجمالي إصابات كوادرها منذ انتشار الوباء في أواخر أغسطس/ آب 2020 وحتى آخر أيام ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حوالي 1465 إصابة. نال الممرضون النصيب الأكبر منها كونهم الأكثر احتكاكاً بالمرضى.
إلى جانب الطبيبين والممرضيْن، أعلنت كلية الطبّ في جامعة الأزهر، في 9 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن وفاة الطالب محمد نبهان إثر إصابته بالفيروس، وهو أحد طلاب البرنامج التدريبيّ في مجمع الشفاء. أَثَار الأمر غضبَ الطلاب، وقررت الكلية حينها إيقافَ برامجهم التدريبيّة في المستشفيات.
أحد طلاب الكلية الذين أمضوا فترة تدريبهم في قسم الباطني التابع للمستشفى الأندونيسي، وأصيب بالفيروس هناك، وصف دوامهم بالحِمْل على المستشفى: "ما عنا معلومات إكلينيكية كافية لنتعامل مع مرضى أو لنعطي دواء، والوضع بالمستشفى مكركب، وبسبب انشغال الأطباء، بنستفيد بس نص ساعة من 8 ساعات دوام". في السياق ذاته، نبّهت إحدى طالبات الكلية إلى أن تعليمات الكلية لهم لم تكن تتناسب مع الإجراءات داخل المستشفى: "عدد الطلاب في المجموعة ظل زي ما هو، ما حاولوا يقسموه ويخلوه ع فترتين، هل في تغطية لكمامات؟ قفازات طبية؟ واقيات أوجه؟ ألبسة وقائية؟ أي معدات طبية للحماية؟".
نقص في المعدات.. ومتابعة غير ثابتة
بحسب شهادات أفراد الطواقم الصحيّة الذين تحدّثنا معهم فقد شَهِدَت الفترةُ الأولى من انتشار الوباء (أغسطس-سبتمبر 2020) شحّاً ملحوظاً في احتياجاتهم من ألبسةٍ وقائيّةٍ ومواد تطهيرٍ وتعقيم. أكدّ ذلك مجدي ظهير، مدير دائرة الطب الوقائيّ في وزارة الصحّة، والذي قال إنّ الصحّة، ولتجاوز النقص خلال تلك الفترة، ذهبت لتصنيع الكمامات الجراحيّة والطبيّة والألبسة الوقائية عدا عن إعادة استخدام كثير من الوسائل بعد إخضاعها لتجهيزات إعادة الاستخدام. وتختلف وسائل الوقاية المستخدمة تبعاً لآلية عمل الطواقم الصحيّة، سواء في مستشفيات الوباء، الأوروبيّ والصداقة التركيّ، أو حتى أقسام العزل الموجودة في المستشفيات الأخرى، عدا عن الأقسام العادية.
وفي محاولة لتوفير الحماية للأطباء، أشار ظهير إلى أن الوزارة تُجري فحصاً دوريّاً لهم، كلّ أسبوعين أو شهر، أو في حالة ظهور أعراض، أو مُخالطة مُصاب. لكن عدداً من أطباء وممرضي الصحّة أكدّوا توقف انتظام الفحوصات الدوريّة. فيما قال الطبيب عزّ الدين شاهين، أحد طواقم مجمع الشّفاء، إنّ بعض الأطباء عَـزَفوا مؤخراً عن إجراء الفحوصات بعد أن تُرِكَ أمرُ إجرائها للأطباء أنفسهم حتى لو كانوا مخالطين لحالاتٍ مُصابة.
مرد ذلك العزوف، بحسب الطبيب شاهين، إلى سوء ظروف الحجر في مستشفى الصّداقة التركيّ المُخصّص لعزل الطواقم الصحيّة المُصابة، عدا عن "الزفّة والفضيحة" التي يؤخذ بها الأطباءُ من بيوتهم إلى أماكن العزل والحجر. خلال الأسابيع الأخيرة، اتجّهت الوزارة في الغالب إلى حجر المُصابين في بيوتهم، إلا إذا كانوا بحاجة لعنايةٍ طبيّةٍ، أو يعيشون في بيتٍ ضيّق. فيما بدأ مُستشفى الصّداقة باستقبال حالاتٍ مُصابة من خارج صفوف الطواقم الصحيّة.
اقرؤوا المزيد: "حجر منزليّ في المخيّم؟".
إضافةً إلى ضعف المتابعة، عبّر عددٌ من الأطباء والممرضين عن استيائهم من قلّة توجيهات الوزارة وعدم متابعتها لإجراءات الحماية بين صفوف الطواقم. "بصير اختلاط كبير بين الكوادر، في غرف تبديل الملابس، في أماكن النوم للمناوبين. أغلب إصابات الكوادر من بعض"، يقول أحد المُمرضين العاملين في مستشفى أبو يوسف النجار، ثم يستدرك بالإشارة إلى استحالة تنفيذ إجراءات حماية وعزل وتباعد مناسبة بشكل تام في ظلّ ضيق مساحات العمل. فوق ذلك، يقول الأطباء والممرضون إنّهم يتعرضون لإهاناتٍ لفظيّةٍ مُتكررة بسبب طلبهم من مُعيدي المستشفى أو مرافقيهم ارتداء الكمامة.
يتراكم فوق هذه الضغوطاتِ وحالةِ التوتر الدائمة اضطرارُ الطواقم الطبيّة للعمل لساعات طويلة ومرهقة. يتجلّى ذلك في قسمٍ حساسٍ في ظروف الوباء؛ قسم العناية المكثّفة. في أغلب المستشفيات، يُغطي قسمَ العناية المكثّفة خلال المناوبة الواحدة مُختصٌ واحدٌ فقط، وذلك بغض النظر عن عدد الأسِرّة ومشغولاتها، التي قد تصل إلى 10 مرضى في القسم الواحد، وهو أمرٌ شديد الاستنزاف بحسب شهادات الأطباء. هذا إلى جانب، زيادة عدد ساعات العمل لطواقم الصحّة المختلفة، والتي تراوحت لأطباء برامج التخصص ما بين 60-80 ساعة، امتدّت أحياناً إلى 100 ساعة دوام أسبوعيّة.
ماذا يعني نقص الكوادر في حضرة الوباء؟
دخلت غزّة مرحلة مواجهة وباء كورونا مثقلةً بعجز سنوات الحصار الإسرائيلي الطويلة، وحالة طوارئ رافقت مسيرات العودة وفك الحصار لعامين متواصلين، أُوقفت خلالها العملياتُ المُجدولة، وقُلّصت خدمات المرافق الصحيّة، كما استُنزفت الأدوية والمستلزمات الطبيّة، وأُرهقت الكوادر الصحيّة التي تُعاني من أزمة نقصٍ حادّ في صفوفها. ازدادت هذه الحالة سوءاً وتكشّفت أكثر مع دخول الوباء إلى غزّة وما حمله من ضغطٍ في العمل وإصابات في صفوف الطواقم الطبيّة. وتجلّى ذلك بوضوح في النقص في الأطباء المُتخصصين في تقديم وإدارة خدمات العناية المكثفة، التخصص اللازم لمتابعة الحالات الصعبة من مرضى كورونا.
اقرؤوا المزيد: "سيرة استنزاف الصحّة في غزّة".
بحسب محمود حماد، مدير عام الشؤون الإداريّة في وزارة الصحّة، يُداوم في مستشفيات الوزارة في القطاع اليوم ما يقارب 3 آلاف مُمرض، و1700 طبيب. يبلغ عددُ من يعمل منهم في أقسامِ العنايةِ المُُكثّفة والباطني والطوارئ (وهي الأقسام التي يُفترض أن تخدمَ مرضى كورونا)، 200 طبيب، و900 ممرض. جلّ هؤلاء من الخريجين الجُدد الذين وُظِّفوا خلال العام الماضي، وليسوا من الأخصائيين، الذين يشكِّلون بدورهم نسبةً قليلةً من تلك الأعداد، وذلك بواقع طبيبٍ أخصائيٍّ واحد في كلّ فريق مناوبة، وفق ما قاله لنا أحدُ الأطباء العاملين في مستشفى غزّة- الأوروبيّ.
في محاولة لتعويض النقص في أخصائيي العناية المكثّفة والتخدير، قسّمتهم الوزارةُ بدايةً لفرق. يعمل كلُّ فريقٍ لثلاثة أسابيع متواصلة في العناية المكثّفة في مستشفى غزة- الأوروبي، ثم يأخذون بعدها إجازةً لثلاثة أسابيع أخرى. خلال أسابيع الإجازة، كان يجري عزل هؤلاء في مدارس وفنادق بالغة السوء في ظروفها وخدماتها، إلى أن نُقلوا لاحقاً منها بعد ضغطٍ مارسوه على الوزارة.
إلى جانب المتخصصين في العناية المكثفة، كان هناك نقص صارخ في الكوادر المؤهلة لإجراء فحوصات المختبر المركزي. خلال الفترة الأولى لانتشار الوباء، عمل ثلاثة متخصصين فقط في المختبر. يسمح هذا العدد بإجراء 100 فحص يوميّاً. بحسب مجدي ظهير، لم تتمكن الصحّة من رفع عدد الفحوصات اليومية إلا بعد تلقي 11 موظفاً لتدريب مُكثف وانضمامهم إلى طاقم المختبر. وثمة حاجة أيضًا لتأهيل كوادر أخرى وتدريبها. وهذه مسألة صعبة، لأن "تدريب الكوادر على أجهزة الفحص والعمل المخبري يحتاج إلى أشهر. عدا عن اجتياز تخصص لمدة سنتين تقريباً لإتقان العمل". فيما قال، محمود حماد إنّ الميزانية هي العائق الأول أمام حاجة تدعيم كوادر الصحة، بحوالي 300 ممرض و150 طبيباً على الأقل.
اقرؤوا المزيد: "ماذا ينتظر مرضى القلب والسّرطان في غزّة؟".
في الوقت ذاته، فَتَحَت الوزارةُ بابَ التوظيف للأطباء الجُدد. جرى ذلك أربع مرّاتٍ خلال العام الماضي، بينما يُفتح باب التوظيف في العادة مرةً كلّ عامين. يُفَسّر ذلك الطبيب عزّ الدين شاهين بالحاجة الماسة من جهة، وبسوء شروط الوزارة للقبول في الوظيفة من جهةٍ أخرى، وخصوصاً، الشرط الذي يمنع الجمع بين بند التخصص وبند الوظيفة (أي لا يمكن أن يكون الطبيب موظفاً ويعمل على التخصص في حقل من حقول الطب في الوقت نفسه). وبالتالي يُفضّل أغلبُ الأطباء البقاء في برامج التخصص على اختيار الوظيفة. وقد ظلّت مشكلةُ تأهيل الكوادر الجديدة حاضرة. في إحدى المحاولات، أشرف مُختصو العناية المُكثفة في غزة على تدريب الأطباء الجدد على دوراتٍ في العناية المكثفة، تراوحت مدتها من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع فقط.
هل سيفقد القطاع أطباءه؟
شهدت بداية العام الماضي موجة هجرةٍ لأطباء غزة. عاد بعضهم إلى البلدان التي تخصصوا ودرسوا فيها. فيما توجه جُلّ الأطباء الخريجين حديثاً إلى ألمانيا، نظراً لسهولة الطريق وتوفر الفرص والرواتب الجيّدة. ليست هذه موجة هجرة الأطباء الأولى. توالت الموجات مع الإجراءات العقابيّة لسلطة رام الله ضدّ غزة قبل ثلاثة أعوام. فعدا عن تمييز السّلطة في قيمة رواتب موظفيها بين الضفّة وغزّة، فإنّها قطعت رواتب عددٍ من أطباء غزّة، وأجبرت آخرين على التقاعد المالي، فيما تستقطع من رواتب الباقيين حتى الآن.
حسب مصادر طبيّة في غزّة، تبلغ نسبة من تدفع سلطة رام الله رواتبهم من الأطباء العاملين في مستشفيات وعيادات الوزارة في غزّة حوالي 60% من مجمل العاملين فيها. يتقاضى هؤلاء اليوم ما نسبته 40% من رواتبهم، أي بحدود 1800-2200 شيكل فقط شهرياً. أما الأطباء الذين وظّفتهم حكومة غزّة بعد 2007، فتصل رواتبهم الأساسية إلى 3500 شيكل شهرياً. لكنهم من حوالي ثلاث سنوات وأكثر لا يتقاضون إلا 40% منها فقط، أي ما يتراوح بين 1200-1800 شيكل، على اختلاف الدرجات الوظيفيّة.
ينطبق الأمر ذاته على المُمرضين والصيادلة وأخصائيي الأشعة وغيرهم من الطواقم الطبيّة، إذ يتقاضون من نسبته 40% تقريباً من رواتبهم، والتي تتراوح بين 2500-3000 شيكل فقط. ومجمل هذه الكوادر تتقاضى رواتبها من سلطة رام الله، فلم تُستحدث توظيفات في هذه المواقع بعد 2007، بالقدر الذي كان للأطباء على سبيل المثال.
كما تُمثّل برامج بطالة وكالة الغوث لخريجي كليات الطبّ الجُدد، وجهاً آخر لأزمة الأطباء. تدفع وكالة الغوث لأطباء هذه البرامج رواتب شهريّة تتراوح بين 1000-1200 شيكل فقط، رغم قيامهم تقريباً بذات مهمات عمل الأطباء الأساسيين العاملين في الوكالة، والذين تصل رواتبهم إلى 1900 دولار.
فوق هذا التفاوت والانخفاض في أجور الكوادر الصحيّة والاستقطاعات التي تطالها، فإنّ الدراسة في كليات الطبّ في غزة تتطلب أقساطاً مرتفعة. يبلغ سعرُ السّاعة الدراسيّة في الجامعة الإسلاميّة 120 ديناراً، مقابل 70 ديناراً في جامعة الأزهر، أي حوالي 2000 دينار للفصل الدراسي الواحد.
لذلك لن يكون مستغرباً أن ترجح كفة الهجرة لدى كثيرٍ من الأطباء الجدد. أحد طلاب الدفعة الأخيرة من كلية الطب في جامعة الأزهر، وهم 80 طالباً، أخبرنا أنّ حوالي 50 طالباً من الدفعة درسوا خلال عامهم الأخير اللغة الألمانيّة، استعداداً لإتمام إجراءات السفر. لا يعني ذلك إلا أمراً واحداً، أن أزمة نقص الكوادر الطبيّة في القطاع في طريقها الحتمي للتفاقم.
لا يقف الأمر عند ذلك الحدّ، فقد نبّه الطبيب عز الدين شاهين إلى أمرٍ آخر سيُعقِّد من أزمة عجز الكوادر خلال الفترة القادمة، ألا وهو استمرار توقف البرامج التدريبيّة والتخصصيّة للأطباء نظراً لقرار وقف العمليات المجدولة، والتي يتدرّب ويتخصص الأطباء من خلالها. وقف العمليات تبع حالة الطوارئ التي أعلنتها وزارة الصحة منذ بدء مسيرات العودة، واستمر مع دخول فترة الوباء، الذي لم يأتِ إلا ليزيد بلةً على طينة الحصار والعقوبات وتخبط الإدارة الصحيّة.