انتهت الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية (الكنيست)، وعاد بنيامين نتنياهو قائد معسكر "اليمين" إلى الحكم بواقع 64 مقعداً لمعسكره مقابل 51 مقعداً للقوائم التي تُشكّل الائتلاف الحكومي الحالي، بما يشمل "القائمة الموحدة" بقيادة منصور عباس زعيم "الحركة الإسلامية الجنوبية". حصل عبّاس على 5 مقاعد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التحالف بين "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" و"العربية للتغيير" بقيادة أيمن عودة وأحمد الطيبي، في حين لم ينجح حزب "التجمع الوطني الديمقراطي" بقيادة سامي أبو شحادة في تجاوز نسبة الحسم (3.25% من الأصوات) التي تؤهله لدخول الكنيست الإسرائيلي.
بهذا، تكون الأحزاب العربيّة في الأراضي المحتلة عام 1948 قدّمت نفسها بثلاث قوائم منفصلة لخوض انتخابات الكنيست، وهي تقوم على وجهات نظر مختلفة: الأولى؛ الحركة الإسلامية الجنوبية بقيادة عباس، وهي مندفعة للمشاركة مع أي طرف حاكم في "إسرائيل"، استناداً إلى منطق يقتضي أنّ التأثير في المشهد السياسي الإسرائيلي يحتاج إلى الانخراط في اللعبة إلى آخرها. الثانية؛ الجبهة الديمقراطية بقيادة عودة والعربية للتغيير بقيادة الطيبي، وهو تيّار يحاول بناء وجوده على التمييز بين فروقات الصهيونية؛ فهذا "متطرّف" وذاك "غير متطرّف"، في صهيونية يشكّل التطرف جزءاً أساسياً من تعريفها. الثالثة؛ التجمع الوطني بقيادة أبو شحادة، الذي يرفض عملية المشاركة في النظام، ويقيم تمايزه عن الخيارين أعلاه بهذا النوع من الرفض، الذي يراه قلعة أخيرة يدافع عنها.
يبدو أنّ هذا النوع من التمييز الذي خطّه التجمع لنفسه خطاباً سياسياً يرفض مسار الاندماج إلى آخره، ورغم انخفاض هذا الطرح ومحدوديته، جرت معاقبة التجمع وإخراجه من "القائمة المشتركة" في اللحظات الأخيرة من إغلاق تسجيل القوائم، فيما بدا محاولة لتصفيته، مما يعلن انتهاء مسار "العمل المشترك" الذي ولد مُشوّهاً، ويعني أيضاً التأسيس لحقبة جديدة من العمل السياسي في الداخل. لكن قبل ذلك، ما الذي جرى على "المشتركة"؟
فخّ التوصية
يبدو أن الأمور من بعد أيلول/ سبتمبر 2019 أخذت في التسارع نحو انفراط عقد "المشتركة"، والأسوأ من ذلك هو بدء التطبيع مع نمط من السياسة ينافس داخل التحالف مع مكونات الصهيونية؛ يميناً ويساراً، نوع من السياسة لا يُعرّف مصالحه الوطنية إلا عبر ربطها بأحد تيارات الصهيونية، وهذه هي نهايات عملية الاندماج في النظام الصهيوني.
شهد ذلك العام انطلاق النقاش بشأن التوصية برئيس الأركان الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، والذي كان يرأس حينها حزب "كحول لافن" لتشكيل حكومة إسرائيلية. كانت الفكرة من وراء التوصية "إسقاط اليمين" الذي يرأسه نتنياهو.
شكّل هذا النقاش محطةً فارقة في مسيرة "القائمة المشتركة"، إذ شكل شعار "إسقاط اليمين" فخّاً وطنيّاً نصبته الأحزاب العربية لنفسها، إنّه يعني فيما يعنيه التحالف مع خصوم اليمين، متحوّلين بذلك إلى جسرٍ تعبر من خلاله الأسرلة إلى الوجود الفلسطيني في الداخل. وغنيّ عن الذكر، أن اليمين واليسار داخل الصهيونية هما تنويعٌ داخلها وليس خارجها، تنويع في طرق تطبيق أهدافها، إذ من المعروف تماماً أنّه لا يوجد تشكيل سياسيّ إسرائيليّ خارج الصهيونية. بلغةٍ أخرى، لا يوجد طرف إلا وبرنامجه تصفيتنا حتى النهاية، لكن البديهيات تصبح عرضة للنسيان عندما يتولّى قيادة الناس من عيونه على فضلة مقاعد يتيحها المُحتلّ ليضفي زخرفاً شكلياً على ديمقراطيته المزعومة.
في انتخابات الكنيست الرابعة والعشرين عام 2021، غادرت الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة بنفسها من "القائمة المشتركة"، وخاضت الانتخابات بقائمة مستقلة باسم "القائمة الموحدة" برئاسة منصور عباس، وتوّجهت بشكل صريح وعلني نحو دعم أحد المعسكرات الإسرائيليّة على حساب الآخر، والمشاركة في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي. حينها كانت الجنوبية أول قائمة عربية تخوض الانتخابات منفردة منذ رفع نسبة الحسم، فسجلت 4 مقاعد. أما "المشتركة" فقد انخفض تمثيلها إلى 6 مقاعد فقط، بعد أن حصلت على 15 مقعداً في انتخابات الكنيست الثالثة والعشرين عام 2020.
كان منصور عباس هو عراب "الفهلوة" الذي قال: لماذا لا نأخذ لعبة المشاركة السياسية إلى آخرها، فإن كنت قد شاركت في الكنيست فما الذي يمنعني من المشاركة في تحالفات الحكومة؟ حينها دفع عبّاس باتجاه إتمام صيرورة الأسرلة، ووفقاً لذلك استحق تسمية "أبو رغال"، اللقب الذي منحه اياه يحيى السنوار.
أهمية الإحساس بالخطر وخديعة العمل المشترك
لم يعبر التجمع نسبة الحسم، لكن الخطر "الوجودي" الذي تعرّض له شكل فرصة لإعادة بعث الحياة في كوادره وفروعه. إعادة الترميم والاستنهاض هذه، تأتي بعد سنوات من ضعف التنظيم، والشعور العام بأن دفنه أصبح قريباً، إضافة إلى بهتان تمايز خطابه عن باقي مجمل الخطاب العام للأحزاب، وهي ضريبة دفعها نتيجة دخوله الخاطئ في "المشتركة".
فبدلاً من أن يصبح الطرح الأكثر ارتفاعاً قائداً للحراك الوطني، جرى إحراجه على الدوام بحجة عدم واقعيته، وانشغل هو بتبرير نفسه والتنازل عند كل مفترق طرق، بحجة الحفاظ على الإجماع الوطني، ليجد نفسه قد أصبح شيئاً آخر؛ نسخة مشوهة عن نفسه، فخسر من يريدون سقفاً مرتفعاً في النضال، وخسر الذين يخافون من وسمه بالتطرّف وارتفاع السقف، إذ لم يعد قادراً على الاستمرار في إقناع الفئات الاجتماعية التي تلتف حوله.
تخسر ما يميزك وتضحّي بما يخصّك، في المقابل يمارس الآخرون انحطاطهم بلا خجل. ألم يقل منصور عبّاس إن المكان المناسب لأبو شحادة هو جبهة مقاطعة الكنيست؟ ليس من الجيد أن يقيّمك خصومك بأفضل مما تقيّم به نفسك!
الوحدة مسألة شديدة الأهمية، ولأنها كذلك، لا بد أن تقوم على قواعد متينة من الثوابت. فهي ليست شعاراً فارغاً وليست كذلك مسار ابتزاز، بل هي مُهمة عسيرة لتجميع الناس حول خيار المقاومة بأشكالها الممكنة كافة.
ما أوسع الفكرة، ما أضيق الكنيست
إنّها المرة الأولى التي يكون فيها التجمع حزباً خارج الكنيست، وما يبدو ضربة قاسية قد يعني فرصة لإعادة البناء على روح الاستنهاض التي شهدها الحزب في فترة الانتخابات الأخيرة، ففي ظل وجوده خارج التنافس الانتخابي، وبعيداً عن الموازنة المخصصة من الكنيست لأحزابه، فإن التجمع أمام مرحلة صعبة، ولكنها مُهمة ومصيرية إذا أحسن فهمها، إذ قد تكون نقطة تحوّل في تطوير عمله السياسي خارج الخيار المعتاد الذي وصل إلى طريق مسدود. وهو ما يعني فتح السبيل للمراجعات واستنهاض الإرادات، وتجميع الجهود المبعثرة القادرة على اجتراح آفاق أوسع من العمل السياسي خارج محدودية الكنيست، خارج قواعد لعبة المحتلّ ولو بشكل جزئي وتدريجي.
التحرّر من الكنيست ذهنياً قبل أن يكون عمليّاً، كفيل بجعل الرؤية السياسية أوسع وأوضح في التقاط ممكنات الفعل. لا يمكن لسياسة التنافس على فتات المقاعد أن تفهم ما الذي حدث في اللد خلال معركة "سيف القدس" عام 2021 مثلاً؛ لا يمكن لمن يفكر بعقلية "صهيونيّ عن صهيوني بفرق" أن يستمر في رؤية شعبه بوضوح.
ما جرى من "سيف القدس" وحتى اليوم هي مناسبات متفرقة لا تنفك عن تذكيرنا بأن هذا هو الوقت المناسب لابتكار مسار جديد، مسار بطيء وطويل من تجاوز التشوّه الذي صوّر الداخل كـ"احتياجات خاصة"، فلا توجد خصوصية للداخل إلا بالقدر الذي توجد فيه خصوصية للضفة وغزة والخارج كلّ على حدة. لا توجد حالة خاصة بالمعنى الذي يجري تصويره عن الداخل، بهدف تمرير كل غرابة وتهاون وانحراف، فالعوامل الخاصة بكل بيئة تفرض التفكير في تحدياتها وكيفية تجاوزها وابتكار وسائل تخصها.
كل بيئة عمل لها مكونات تخصّها، وإدراك ذلك شرط لزيادة فاعلية العمل لا لتثبيطه، وبالمجمل فإن الهدف النهائي هو ربط الساحات بعضها ببعض. هذا الربط سبق أن حدث في وجدان الناس، لكنه يحتاج إلى تسييس دائم وعمل يومي، وهذه مهمة التنظيم. ثمة فرصة، إنها في أيدي الذين ما زالوا يؤمنون بأن العمل السياسي مسألة تتعلق بتحرير المساحات وانتزاع الصلاحيات.
لقد ذهبت الخيارات إلى آخرها، ووظيفة الذين ما زالوا يملكون بقايا من الخطاب التحرّري أن يأخذوا خيارهم إلى آخره أيضاً، وألا يلتفتوا. إنها فرصة من السهل أن تضيع وأن تُفهم على أنها جولة انتخابية جرى خسارتها، ومن الممكن البناء عليها في التحرّر من أسلوب الصهيونية في تعليمنا طريقة ومكانة وشكل العمل السياسي، وعلاوة على ذلك، سقفه!