16 يوليو 2023

هل نعرف حقّاً ما هو المسجد الأقصى؟

<strong>هل نعرف حقّاً ما هو المسجد الأقصى؟</strong>

في مطلع حزيران/ يونيو 2023، طرح عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود، عميت هليفي، خطّةً لتقسيم المسجد الأقصى المبارك بين المسلمين واليهود، على أمل أن يحشدَ لها التأييدَ ويطرحها كمقترح قانونٍ في الكنيست. تنصّ الخطّة على أن يُصلي المُسلمون في الجهة الجنوبيّة من المسجد، وتحديداً في المصلى القِبلي وما حوله، على أن تُسخّر بقية المساحة في المسجد (بما يشمل قبّة الصخرة والساحات وغيرها) لصالح اليهود. 

إنّ أحد أهم نقاط الارتكاز التي قامت عليها تلك الخطّة هي إعادة تعريف مفهوم المسجد الأقصى، ليصبح المسجد الأقصى حسب هذا التعريف الصهيوني هو الجامع القِبلي فقط، المبنى الصغير ذو القبّة الرصاصيّة.

لا يُعدّ الأمر جديداً، فقد سبقته محاولاتٌ عدة من جهاتٍ إسرائيليّة مختلفة لإعادة تعريف المسجد الأقصى بما يخالف تعريفه ومفهومه الإسلاميّ الحقيقي. مثلاً، دأبت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة على تعريف الأقصى بهذا الشكل منذ سنوات طويلة. وكان أبرز تلك المحاولات إقدام البعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة على توزيع بيانٍ رسميّ عام 2010 على بعثات الدول المختلفة يوضح رؤيتها للمسجد الأقصى ويقصره على الجامع القِبلي الذي لا تتجاوز مساحته 4 دونمات من أصل 144 دونماً هي المساحة الحقيقية لكامل المسجد، بل وينصّ على أنّ قبة الصخرة ليست مسجداً أصلاً، وهو نفس ما ينص عليه الموقف الرسميّ لدولة الاحتلال المنشور إلى اليوم في موقع وزارة خارجيتها. 1يقول التعريف في موقع الوزارة: [ترجمة الكاتب]: "جبل المعبد في القدس، حيث كان المعبدان اليهوديان، هو أقدس مكان في الديانة اليهودية. ويحتوي الموقع، الذي يسميه المسلمون "الحرم الشريف"، على المسجد الأقصى، ثالث أقدس المواقع في الإسلام، وقبّة الصخرة (والتي هي ليست مسجداً) ومعالم صغيرة كثيرةً أخرى. ويقع المسجد الأقصى في الحافة الجنوبيّة لجبل المعبد، ويغطي مساحةً صغيرةً نسبيّاً من مساحة الجبل".

عندما وقعنا في الفخ!

في المقابل، لعل الكثير منا يذكر كيف كان مفهوم المسجد الأقصى مقتصراً لدى عامة المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي على قبّة الصخرة المشرّفة التي كانوا يرونها في الصور والفيديوهات التي تتكلم عن المسجد الأقصى. ثم أتت تسعينيات القرن الماضي بمفهومٍ مخالفٍ تماماً ادعى يومها أنّ قبّة الصخرة ليست المسجد الأقصى نهائيّاً، وأنّها ليست ذات أهمية، وأنّ المسجد الأقصى الحقيقي هو الجامع القِبلي.

مثال على الفخ الذي وقعنا فيه!

 

بمعنى آخر: عشنا في فترةٍ تبنّى عامة الناس فيها - دون أن يُدركوا - الدعايةَ الإسرائيليّةَ المذكورة أعلاه بقصر مفهوم المسجد الأقصى على الجامع القِبلي فقط. كلّ هذا كان قبل أن تطرح دولة الاحتلال وأقطابها أفكاراً عمليّةً لتقسيم المسجد الأقصى مكانيّاً كما فعل عميت هاليفي هذا العام!

بل وصل الأمر قبل عشرين عاماً إلى اعتبار أنّ قَصْرَ مفهوم المسجد الأقصى على الجامع القِبلي فقط دليلٌ على "متابعة" شؤون المسجد الأقصى والاهتمام بها، إذ كان يُعتبر من يقول إنّ المسجد الأقصى هو الجامع القبلي فقط ذكياً ومدركاً لما ظنّوه في ذلك الوقت "مؤامرة صهيونية" لهدم المسجد الأقصى (الذي هو في ذهنهم الجامع القبلي). وفق ذلك "المنطق"، اعتُبر إظهار قبة الصخرة في الإعلام محاولة لتضليل المسلمين والقول بأنّ الأقصى بخير..ولذلك "يجب الاهتمام بإبراز المبنى ذي القبّة الرصاصيّة"، ووقع المسلمون في الفخ فعلاً!

تُعتبر إعادة التعريف هذه خطوةً أوليّة نحو تشويه مفهوم المسجد في أذهان الناس، ومن ثمّ تمهيد الطريق للسيطرة عليه. من هنا، فإنّ تعريف وشرح مفهوم المسجد الأقصى الحقيقي حسب الرؤية الإسلاميّة، وتثبيته في أذهان الناس، يعتبر أمراً في غاية الأهميّة، لحماية المسجد من مخططات السيطرة عليه عبر البدء أولاً بتقسيمه، والانتهاء بالسيطرة الكاملة عليه.

ما هو المسجد الأقصى؟

المسجد الأقصى المبارك الحقيقي هو كل ما دار عليه السور الرباعيّ شبه المستطيل، بمساحةٍ تصل إلى حوالي 144 دونماً، ويشمل كافة المباني فيه مثل قبّة الصخرة (المبنى ذو القبّة الذهبيّة) والجامع القِبلي (المبنى ذو القبّة الرصاصيّة) وغيره من المعالم، من قباب ومصاطب ومدارس وأروقة وخلوات ومصليات.

صورة جوية تظهر كامل حدود المسجد الأقصى، كل ما دار عليه السور، بمساحة 144 دونماً، التقطت الصورة عام 2007. (GettyImages).
صورة جوية تظهر كامل حدود المسجد الأقصى، كل ما دار عليه السور، بمساحة 144 دونماً، التقطت الصورة عام 2007. (GettyImages).

وشكله شبه المستطيل يتكون من أربعة أضلاع ضخمة، أقصرها هو الضلع الجنوبيّ الذي يصل طوله إلى حوالي 281 متراً، ثم الضلع الشماليّ بطول حوالي 314 متراً، يليه الضلع الشرقي بطول 466 متراً، وأطول الأضلاع هو الضلع الغربي بطول 488 متراً. 

وممّا لا يعرفه كثيرٌ من النَّاس أنَّ المسجد الأقصى بهذه الأضلاع غير المتساوية والزوايا غير المتشابهة لا يوجد له مثيل في الدنيا إلا مبنى واحدٌ فقط هو الكعبة المشرفة التي كان شكلها الأصلي كذلك، أي شبه مستطيل بأضلاعٍ يبلغ طول أقصرها (ما بين الركن اليماني والركن الأسود) 20 ذراعاً وأطولها (من الركن اليماني إلى الركن الغربي) 32 ذراعاً. وهذا التشابه العجيب في نسب الأضلاع والزوايا هو ما اكتشفته ونشره د. هيثم الرطروط أستاذ العمارة بجامعة النجاح في نابلس عام 2005م. 

وهذا ما يؤكد حقيقةً أخرى مفادها أنّ الباني واحد، وأنّ البناء للكعبة والأقصى تمَّ في فترةٍ قريبةٍ من بعضهما، كما نصّ الحديث النبويّ الشريف المتفق عليه، حين سأل أبو ذر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلّم عن الفترة بين بناء الكعبة والأقصى فقال: (أربعون سنة).

"الحرم".. لفظٌ سُرِق لخدمتهم

وهنا لا بدّ من التنبيه من مصطلح "الحرم الشريف" أو "الحرم القدسيّ"، إذ يتساهل البعض في استخدامه على اعتبار أنّه لفظٌ معروفٌ وشائع لدى المقدسيين والناس عموماً، ويُقصَد عند استخدامه التشريف لا  تغيير مفهوم المسجد الأقصى. 

نظريّاً يُمكن القول إنّه لم يكن في هذا الاستخدام ما يحمل دلالاتٍ سياسيّةً خطيرة على مفهوم المسجد الأقصى، أما اليوم فالأمر مختلف تماماً، إذ تتعمد مختلف الجهات الإسرائيلية استخدامه في محاولة للقول إنّ كل هذا المكان بمساحة 144 دونماً يُسمّى "الحرم الشريف"، كتسميةٍ عامّةٍ لا تدل بالذات على المسجد، وأنه داخل هذا "الحرم الشريف" هناك "مبنى صغير قبته رصاصيّة" اسمه المسجد الأقصى. ومن هنا منبع الخطورة في استخدام ذات المصطلح رغم أنّهم سرقوه منا. 

وفي مثال وزارة الخارجية الإسرائيلية أعلاه ما يُشير إلى ذلك، إذ استخدمت الوزارة لفظ "الحرم الشريف" كمصطلح قصدت به أن تقصرَ تعريفَها للمسجد الأقصى على أنّه الجامع القبلي فقط، فادعت أنّ ما تُسمّيه "جبل المعبد" أو "جبل الهيكل" هو ما يعرفه المسلمون باسم "الحرم الشريف"، وأنّ "المسجد الأقصى" ليس إلا مبنى صغيراً يقع في أقصى ناحية "الحرم الشريف" الجنوبيّة، بل ودعاها ذلك للادعاء أنّ قبّة الصخرة ليست مسجداً أصلاً، وهذا يُفهَمُ منه أن الساحات كلها أيضاً ليست مسجداً وليست جزءاً من المسجد الأقصى المبارك، وهنا منبع الخطورة في استعمال الألفاظ. ويتكرر هذا الاستخدام في بيانات شرطة الاحتلال التي تُصدرها بخصوص أحداث المسجد الأقصى. 

المصلون أمام مصلى الجامع القبلي، أحد مصليات المسجد الأقصى، في الجمعة الرابعة من رمضان 1444، 14 نيسان 2023. (عدسة: أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية)

لقد عرف المسلمون لفظ "الحرم القدسي" منذ العصر المملوكيّ، واستمر استخدامه حتى عصرنا الحالي، وأطلقوه على المسجد الأقصى بكامل معالمه من باب التشريف فقط. وقد لفت ذلك الاستخدامُ نظرَ ابن تيمية الذي أشار إلى أنه لا يصح أن يُطلق على المسجد الأقصى لفظ "الحرم" لأسبابٍ فقهيّة بحتة تتعلق بأحكام الحرم في الإسلام: أن لا يُصاد صيده ولا يُعضَد شجره ولا تُلتَقط لقطته من المال وغيرها من الأحكام. 

إلا أن كلام ابن تيمية في ذلك الوقت لم يكن له أثر كبير على لسان الناس، كما هو الأمر في حالة مجير الدين العليمي أيضاً في نهاية العصر المملوكيّ وبداية العصر العثمانيّ، وذلك لأنّ موضوع الألفاظ والمفاهيم لم يكن يشكل خطراً على المسجد الأقصى نفسه في ذلك الوقت، لأن الأقصى لم يكن تحت احتلال يُقلّب المفاهيم ويوظِّفها لأجنداته. 

أما في عصرنا الحاضر فالأمر مختلفٌ تماماً، ولذلك ينبغي علينا التعامل مع العصر بمفرداته واحتياجاته، وأهم واجباتنا في هذا العصر تجاه المسجد الأقصى هو تعريفه حقيقةً وفهم أنَّ كل شجرةٍ في رحابهِ هي جزء لا يتجزأ منه، وأنَّ كلَّ قبّةٍ وخلوة وغرفةٍ وساحةٍ ومحرابٍ ومصطبةٍ وسبيل ماء هي أجزاء لا تتجزأ من المسجد الأقصى، والعمل بمقتضى هذا التعريف.

التعريف الصحيح يحمي المسجد

يُساعدنا التعريفُ الحقيقي والصحيح في إدراك خطورة ما يتعرض له المسجد الأقصى. فالتعريف الصحيح الذي يشمل كل حدود المكان بكافة معالمه يجعلنا نعرف أنّ جزءاً أصيلاً من المسجد الأقصى محتلٌ بالكامل وخارج عن يد المسلمين. وهنا لا نتكلم عن باب المغاربة أو حائط البراق الواقعين على حدود المسجد، وإنما نعني غرفتين من "الخلوات" في ساحة قبة الصخرة المشرفة شمالاً، وهما خلوة قيطاس وخلوة جانبلاط، اللتان سيطر عليهما الاحتلال بالكامل بعد عام 1967، وحوّلهما إلى نقطةٍ لشرطة الاحتلال في قلب المسجد الأقصى، لا في أطرافه ولا على حدوده!

عناصر من شرطة الاحتلال تقف أمام الخلوتين اللتين سيطرت عليهما وحوّلتهما مخفراً لها داخل المسجد، ويظهر في الصورة مصلى قبة الصخرة، حزيران/ يونيو 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية).

إضافةً إلى ذلك، فإن ما يجري في مصلى باب الرحمة، الواقع في الناحية الشرقيّة للمسجد الأقصى، منذ إعادة افتتاحه في هبَّة باب الرحمة عام 2019، يُعدُّ أحد أهم الأمثلة على خطورة هذه المسألة وإصرار دولة الاحتلال على استغلال تعريفها الخاصّ للمسجد الأقصى، فشرطة الاحتلال تُصرُّ على دخول المصلى بالأحذية يومياً لتشير أنها لا تعترف به كمُصلى! 

كما أن جميع قرارات محكمة الاحتلال بإغلاق المكان والمراسلات المعلنة بينها وبين شرطة الاحتلال والبيانات الرسمية الإعلامية المتعلقة بالمكان تصرّ دائماً على اعتباره مجرد مكتب من مكاتب دائرة الأوقاف الإسلامية، وليس مصلى ولا جزءاً من المسجد الأقصى المبارك. 

وهذا يدل على إصرارها على اعتبار هذا الجزء مختلفاً عن مفهوم المسجد الأقصى المبارك نفسه، وهو ما يمكن أن يجعلنا نفهم السرَّ في المحاولات المستميتة للمستوطنين وجماعات المعبد المتطرفة السيطرة على باب الرحمة منذ إغلاقه مطلع عام 2003 حتى اليوم وتحويله إلى كنيس، وهو ما لا يعتبر في أدبياتها اعتداءً على المسجد الأقصى لأن هذا المكان ليس جزءاً منه في نظرها.

عناصر من شرطة الاحتلال خلال حراستهم لمجموعة من المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى، يقفون أمام مصلى باب الرحمة، آذار/مارس 2019. (أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).
عناصر من شرطة الاحتلال خلال حراستهم لمجموعة من المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى، يقفون أمام مصلى باب الرحمة، آذار/مارس 2019. (أحمد غرابلي/ وكالة الصحافة الفرنسية).

عند مراجعة هذه الحقائق تتبين لنا خطورة ما يجري في المسجد الأقصى المبارك من الناحية المعرفيّة المفاهيمية، فلا يمكن أن يتم تحرير مسجد لا نعرفه حقَّ المعرفة ولا نعرف كيف ندافع عنه لأننا لا نعرف شكله وحدوده. 

ومؤخراً بدأت هذه النقطة تأخذ نصيبها من الاهتمام، فقد نصّت اتفاقية الوصاية الهاشمية التي وقعها الملك عبدالله الثاني مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس آذار/مارس عام 2013 على توضيحٍ مهمٍ لحدود ومفهوم المسجد الأقصى، وأنّه بمساحة 144 دونماً تشمل ما فوق الأرض وتحت الأرض وجميع المصليات والساحات. 

وجاء ذلك بعد جهودٍ شعبيّة كبيرة من عدة مؤسسات وهيئات نظّمت حملات للتوعية بخطورة تحرير المصطلحات، كحملة "الأقصى كل السور" التي ذاع صيتها وانتشرت في مختلف المجالات والهيئات حتى أصبح الأمر رسميّاً بتوقيع تلك الاتفاقية، وهذا تطور سياسي مهم جداً يبين خطورة الأمر وضرورة أخذه بعين الاعتبار سواء في المناهج الدراسية أو في الإعلام أو غيره من المنابر المسؤولة عن المسجد الأقصى.

من الصور التي انتشرت على شبكة الإنترنت ضمن حملات تصحيح مفهوم المسجد الأقصى.

معرفة واقعيّة تطبيقيّة

إنّ تثبيت تعريفٍ واضح وصحيح للمسجد الأقصى واعتبار ذلك من المسلَّمات ليست مسألةً علميّة سفسطائية، وإنما هو مسألة أساسية ينبني عليها عملٌ حقيقيٌّ على الأرض، فالمعرفة التي يحتاجها المسجد الأقصى اليوم هي المعرفة القابلة للتطبيق على الأرض والتي ينبني عليها مواقف يمكننا من خلالها الدفاع عن المسجد الأقصى في وجه الاحتلال. 

وأوجب الواجبات أن ينبني على هذه المعلومة الأساسيةٍ عملٌ سياسيّ وإعلاميّ واجتماعيّ وتربويّ متكامل، فيُغطى أي حدثٍ يجري في حدود الـ144 دونماً بنفس الخطورة، وتبدأ المطالبة والعمل الفعلي على تحرير خلوتي قيطاس وجنبلاط من نقطة شرطة الاحتلال، وإحكام سيادة وسيطرة المسلمين على مسجدهم الأقصى بكافة مساحته وحدوده لا ينقص منها شبر واحد.

فإن لم نفعل ذلك، فلا نستبعد أن نرى الاحتلال يقتطع أجزاءً أخرى من المسجد الأقصى دون أن نسمع خبراً عن ذلك أو نرى ردَّ فعلٍ يليق بفداحة الأمر، وهذا سيكون مدخل الاحتلال لتقسيم المسجد الأقصى أولاً.. ثم السعي بذلك لإتمام السيطرة عليه بالكامل، فهذا هدفه النهائيّ، ومن ظنّ غير ذلك فهو واهِم.