منذ أحداث عام 2007، لم يألُ الرئيسُ محمود عبّاس جهداً في محاولاته الرامية إلى تجيير القضاء وإخضاعه لسيطرته التامة باعتباره إحدى العقبات - والأخيرة ربما - أمام إحكام سلطته المُطلقة. في إطار هذه الجهود، جاءت الخطوة الأخيرة المُتمثلة بإصدار ثلاثة قرارات بقوانين في 30 ديسمبر/كانون الأول 2020، تتعلق بإجراء تعديلاتٍ على قوانين تخصّ السّلطة القضائيّة وتمسّ استقلاليتها بشكلٍ مباشر.1هذه القرارات هي: قرار بقانون رقم (39) لسنة 2020م بشأن تشكيل المحاكم النظامية، وقرار بقانون رقم (40) لسنة 2020م بشأن تعديل قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م، وقرار بقانون رقم (41) لسنة 2020م بشأن المحاكم الإدارية. وهي تعديلات رفضتها جهاتٌ قانونيّةٌ وسياسيّةٌ عديدة كونها تُجذّر تدخلاتِ السّلطة التنفيذيّة بجهاز القضاء، وتمسّ مبدأ الفصل بين السّلطات، وتؤدّي إلى استئثار طرفٍ سياسيٍّ بعينه بالقضاء، وما لذلك من تداعيات على دور القضاء باعتباره الركن الأساسيّ لحماية الحقوق والحريّات.2وهي مبادئ نص عليها القانون الأساسي الفلسطيني، وقانون السلطة القضائية لسنة 2002.
على إثر ذلك، أصدرت مؤسسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ، ونادي القضاة، وبعض الأحزاب السياسيّة، بياناتٍ تُعبّـرُ عن رفض هذه التعديلات وتدعو إلى احترام السّلطة القضائيّة. وكانت نقابة المحامين الفلسطينيين في صدارة المشهد الرافض، إذ قادت الاحتجاجات في الشّارع، ودعت إلى مقاطعة مجلس القضاء الأعلى3مجلس القضاء الأعلى هو هيئة إدارية تمثّل القضاء الفلسطيني، يتكون من رئيس وستة أعضاء آخرين. تعنى برسم السياسات القضائية وإقرار الموازنة والإشراف عليها، وتنسيب القضاة للرئيس، وتلقي الشكاوى على القضاة، واتخاذ القرارات بشأن إنهاء خدمات القضاة أو ندبهم، وإدارة المحاكم وإعداد لوائح بقية الدوائر مثل دائرة التفتيش والفنية، وإدارة شؤون التدريب وتظلمات القضاة. والتشكيلات القضائية الجديدة، بالإضافة إلى تعليق العمل في المحاكم لأيامٍ متقطعة، والاعتصام في المحاكم وتنظيم اعتصام مركزي أمام مجلس القضاء.
ماذا تعني القرارات الأخيرة؟
منحت القراراتُ المذكورة الرئيسَ الفلسطينيّ صلاحياتٍ واسعةً على السّلطة القضائيّة تحُوّلها عمليّاً إلى ملحقٍ للرئيس والأجهزة الأمنيّة. فقد منح عبّاس نفسه صلاحيات تعيين رؤساء ونوّاب رؤساء المحكمة الإداريّة والإداريّة العُليا وقضاتهما، وتعيين وقبول استقالة رئيس المحكمة العليا/رئيس مجلس القضاء الأعلى، بينما نصّ قانونُ القضاء سابقاً على أن يحلَّ محل أيّ رئيسٍ للمجلس نائبُه الأقدم في المحكمة العليا تلقائياً، ولم ينصّ على مصادقة رئيس السّلطة على استقالة القضاة. ويعني ذلك عمليّاً تحوّل السّلطة القضائيّة إلى دميةٍ في يد الرئيس الفلسطينيّ يشكّلها وفقاً لأهوائه ومصالح المقرّبين منه.
وفي السّياق ذاته، منحت تلك القرارات المجلسَ المحسوب على الرئيس الفلسطينيّ، وعباسَ نفسه، مجموعة أدواتٍ بغيةَ ترهيب القضاة وتخويفهم. من أبرزها التقاعد المبكّر القسريّ، والانتداب للعمل في غير الشأن القضائيّ بدون موافقة القاضي، والاستيداع4وقف مؤقت لخدمة القاضي لمدة لا تزيد على خمس سنوات، قبل إحالته على التقاعد وفقا لأحكام القانون. والإخضاع للتجربة لمدة ثلاث سنوات بعد التوظيف. وقد شملت رزمة القرارات بقوانين بالفعل قرارات بإحالة ستة قضاة للتقاعد المبكّر القسريّ، بما يخلق بيئةً قضائيّةً تخشى السّلطة على حساب الحقوق والقانون.
ومُنحَ رئيسُ مجلس القضاء الأعلى وفقاً لهذه التعديلات صلاحياتٍ واسعة واستثناءاتٍ تتعلق بالراتب التقاعديّ والسّن التقاعديّ في محاباةٍ لهذا المنصب وتمييزه عن القضاة الآخرين وتشجيعاً لشاغله الامتثال لمرؤوسيه في السلطة التنفيذية. وشملت التعديلات كذلك تحويل صلاحيات رؤساء المحاكم بإصدار التنبيهات إلى القضاة، وصلاحيات انتداب القضاة، وإنهاء خدمتهم تعسّفاً، والإحالة للتقاعد لتصبح من اختصاص رئيس المجلس.
كما أنّ التعديلات الجديدة تُحصّن الرئيس الفلسطينيّ في الانتخابات المقبلة، لأنها أعطته حقّ تشكيل المحكمة الإداريّة العليا وتعيين قضاتها، وهي المحكمة المختصّة بالنظر في الطعون المتعلقة بنتائج الانتخابات. كما أعطت هذه التعديلات صلاحيات تشكيل محكمة قضايا الانتخابات لمجلس القضاء الأعلى ، وهو الموالي ضمناً لعباس، وهي المحكمة المختصة بالنظر في أي دعاوى خاصّة بقرارات لجنة الانتخابات المركزيّة. ولا يُمكن فصل القرارات بقوانين عن الانتخابات التشريعيّة المزمع إجراؤها صيف 2021، ولهذا السبب تحديداً عجّل عباس من إصدارها لتقليم مخالب المجلس التشريعيّ القادم.
ومن المواد الأبرز في التعديل، إنشاء نادٍ "اجتماعي ثقافي" للقضاة برعاية السلطة، وسيصدر نظام خاصة بكيفية إدارته لاحقاً. ويهدف هذا القرار إلى الالتفاف على "نادي القضاة" الحالي المستقل عن السلطة، وإنشاء نادٍ موازٍ موالٍ. وذلك بخلاف ما ينصّ عليه قانون السلطة القضائيّة بحقّ القضاة في تشكيل جمعيات خاصّة بهم.
القضاء...لعبة الرئيس المفضّلة
جهود عبّاس الأخيرة للاستئثار بالقضاء ليست جديدة، فعلى مدار السنوات الخمس الأخيرة تقريباً دأب على إصدار قرارات بقوانين تؤدّي إلى إحكام قبضته، وإقصاء خصومه ومعارضيه. يمكن الرجوع بذلك إلى العام 2016، حين شكّل عبّاس في أبريل/نيسان من ذلك العام أول محكمة دستوريّة عليا في تاريخ السّلطة الفلسطينيّة بشكلٍ متفرّدٍ ودون إجماعٍ وطنيّ ودون الاستناد إلى الأسس القانونيّة، وضمّ فيها قضاةً موالين له ومحسوبين على فصيله السياسيّ.
وتكمن أهمّية المحكمة الدستوريّة للرئيس الفلسطينيّ في أنهّا "السلطة الأرفع في مواجهة السلطات الثلاث التقليدية المعروفة: السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية." إذ أنها تمتلك العديد من الصلاحيات الحسّاسة بالنسبة لعباس، أبرزها البتّ بأي طعونات بشأن فقدان الرئيس أهليته القانونية للحكم، والرقابة على دستورية التشريعات التي يصدرها المجلس التشريعي5مثل الرقابة على دستورية اللوائح والتنظيمات التي تُصدرها الوزارات، والفصل في التنازع بين السلطات الثلاث فيما يتعلق باختصاصاتها وواجباتها، وأي نزاع بين جهات قضائية مختلفة.. وبذلك تشكّل المحكمة الدستورية يد الرئيس الضاربة التي سيوظّفها لاحقاً في ملاحقة خصومه السياسيّين وإصدار قراراتٍ مثيرة للجدل.
وكان أبرزُ القرارات التي أصدرتها الدستوريّة قرارها بمنح عبّاس صلاحية إلغاء الحصانة عن أي نائب في المجلس التشريعيّ، وقد استغل هذا القرار برفع الحصانة عن خمسة نواب من المجلس التشريعي، أبرزهم محمد دحلان ونجاة أبو بكر. وكذلك قرارها أواخر عام 2018 بحلّ المجلس التشريعي، والذي أعلن عباس عنه قبل إعلان القرار من المحكمة نفسها في مؤشرٍ لسلطته على القضاء. وجاء ذلك حسب المراقبين تحسباً من شغورِ منصب الرئاسة بسبب المرض أو الوفاة أو الاستقالة. وفي تلك الحالة يتولّى رئيسُ المجلس التشريعي الفلسطيني التابعِ لحركة "حماس" رئاسة السلطة مؤقتاً وهو ما كان يخشاه عباس والمقربون منه المتنازعون على خلافته. ويُشكّل هذا القرار، وفقاً لمؤسسات حقوقيّة، أسبقيّةً خطيرة تفتح إمكانية حلِّ أي مجلس تشريعيّ مستقبلاً.
وقد شكّل العام 2017 ذروةَ هذه الجهود إذ أصدر عبّاس حينها ، مرسوماً رئاسيّاً يقضي بتشكيل "اللجنة الوطنيّة لتطوير قطاع العدالة في فلسطين". أدارت اللجنة أعمالها بسرّية تامّة بعيداً عن غالب مؤسسات المجتمع المدنيّ، وبعد عامٍ من تشكيلها أصدرت تقريرها النهائي الذي حمل توصياتٍ تهدفُ نظريّاً إلى "تطوير" قطاع العدالة في فلسطين. أثارت توصيات اللجنة التي قُدّمت لعبّاس العديد من الانتقادات من مؤسسات المجتمع المدنيّ، إذ اعتبرتها تؤسس لمنح "السّلطة التنفيذيّة نفوذاً واسعاً وغير دستوريّ على القضاء وشؤون العدالة". وقد تجسّد قسمٌ من توصيات هذه اللجنة فيما يخصّ تعديل قانون السّلطة القضائيّة بالقرارات بقوانين الأخيرة، مثل استحداث القضاء الإداريّ وإعفاء رئيس مجلس القضاء من سن تقاعد القضاة.
تبعاً لتلك التوصيات أيضاً، ومحكوماً بنفس الرؤية الساعية للسيطرة على القضاء، أصدرَ عبّاس قرارين بقانون آخرين وهما 16 و17 لعام 2017. نصّ الأخير على حلّ مجلس القضاء الأعلى وكافة هيئات المحكمة العليا، وإنشاء مجلس قضاء أعلى انتقاليّ لـ"تطوير وإصلاح" السُّلطة القضائيّة، ومُنِحَ المجلس صلاحياتٍ واسعةً بهذا الصدد، ومنها تشكيل مجلس قضاء أعلى دائم ومحكمة عليا وإعداد مشاريع قوانين معدّلة لقانون السلطة القضائية.
ولاحقاً في عام 2020 جرى حديث عن إمكانية إجراء تعديلات على قانون السُّلطة القضائيّة، وهو ما حذّرت منه مؤسسات حقوقيّة عديدة، إلا أنّه حصل بالفعل مؤخراً من خلال القرارات بقوانين الأخيرة. وقد نصّت التعديلات بالإضافةِ إلى تعديلِ قانون السلطة القضائية بطريقة تمسُّ بالقضاء واستقلاله، على تشكيل مجلس قضاءٍ أعلى دائم اختار عباس أن يرأسه عيسى أبو شرار الموالي له، والذي ترأس المجلس الانتقاليّ والمحكمة العليا ونَسَّب نفسه لرئاسة المجلس الدائم.
كان أبو شرار رئيساً سابقاً للمجلس للأعوام 2005-2009، ويعد يد الرئيس الطويلة في القضاء الفلسطيني ومشاركاً في التضحية بنزاهته واستقلاليته. ويبدو من حيثيثات التعديلات الأخيرة وما نتج عنها من تشكيلٍ لمجلس قضاء أعلى دائم أنّ أبو شرار مُنح صلاحيات واسعة لتشكيل القضاء وفقًا لأهوائه ومن وضعه في منصبه، وسيبقى ذاته رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى الدائم الذي شكّله وإدارته بالتشريعات الجديدة التي أعدّها بالتوافق مع عباس لتناسب مقاسه الشخصيّ.
قاضٍ بملف أمني "نظيف"
وعدا عن التعديلات الكثيرة، برزت خلال أحداث سابقة من مسلسل تركيع القضاء معلومات تؤكّد تدخّل الأجهزة الأمنية بشكلٍ مباشر في مراسيم تعيين رؤساء مجلس القضاء من خلال إجبارهم على التوقيع على استقالاتهم من رئاسة المجلس قبل استلام المنصب. وبذلك يقيل عباس أي رئيسٍ للمجلس عند انتهاء دوره المنوط به أو إبداء أي استقلالية، كما حصل مع القاضي سامي صرصور.
ووصل الأمر بالسلطة التنفيذية ممثّلةً بالرئيس الفلسطيني إلى إجراء مسح أمني لأي قاضٍ قبل تعيينه. وتهدف إجراءات "السلامة الأمنيّة" إلى ضمان عدم توظيف قضاةٍ مستقلين يمكنهم الوقوف بوجه السلطة، وتشكيل المحاكم من قضاة محسوبين على حركة "فتح" أو موالين للرئيس الفلسطينيّ.
ومن المعلوم أن السُّلطة القضائيّة تُدار مؤخراً بالحديد والنار والترهيب، إذ يُمنع القضاة من التعبير عن رأيهم بحريةٍ في وسائل الإعلام، ويُقصى المستقلون منهم ويحالون إلى المجلس التأديبي. وثمّة فساد في تشكيل الهيئات القضائية وتوزيع القضايا، حتى أن بعض القرارات تصدر بتوقيع قضاة دون علمهم.
محطّة أخرى من الصراع على الكعكة
على الرغم من مطالب المجتمع المدنيّ المحقّة والهامة الرافضة لتدخل الرئيس والأجهزة الأمنيّة في شؤون القضاء، إلّا أن البعض يجيّر الزخم حول القضية ويدفع به ضمن نزاعاتٍ داخل السّلطة الفلسطينيّة وحركة "فتح" نحو الساحة القضائية لتحقيق مآرب شخصية وشللية، وذلك أن قرارات عباس تعود بالمنفعة لصالح جماعته الممسكة بزمام السلطة فعلياً.
ويبدو مما يرشح من الأخبار أنّ أقطاب هذا الصّراع شخصياتٌ كبيرة في حركة "فتح" والسُّلطة الفلسطينيّة مثل توفيق الطيراوي الذي يوظّف استلامه ملف التنظيمات الشعبيّة والنقابات في الصّراع الداخليّ ضمن صفوفِ الحركة والسّلطة. كما أنّه يساهم ضمن آخرين في التأثير على العديد من النقابات وعلى رأسها نقابة المحامين التي شاركت في اللجنة الرئاسيّة سابقاً، ثمّ غيّرت موقفها لاحقاً بعد تغيّر حساباتها على ما يبدو بعد تغيّر رئيس مجلس القضاء الأعلى. وفي الطرف الآخر الرئيس عبّاس ممثلاً تحديداً بمستشاره القضائيّ علي مهنا وبالقاضي أبو شرار وبعض المتنفذين الذين ليسوا على وفاق مع تيّار الطيراوي الذي سبق وانتقد بعض رؤساء الأجهزة الأمنيّة دون ذكرهم بالاسم.
وفي انعكاس على القضاء، شنّ الطيراوي تصريحات ضدّ أبو شرار وطالبه بالاستقالة ورفع قضية ضده في النيابة العامة قبل أيامٍ قليلة. في مقابل ذلك ألمحت أطراف داعمة لأبو شرار إلى الطيراوي واتهمته بحيازة مزارع ومجموعات مسلّحة. وفي وقتٍ سابق اتهم أبو شرار "أحد المسؤولين في إحدى الفصائل" التنسيق مع القضاة وتحريكهم ضدّ مجلس القضاء الأعلى، وذلك على وقع احتجاج القضاة المنتدبين أواخر2020.
وقال أبو شرار آنذاك إنّ هذا التحرّك يبدو في ظاهره ضدّ المجلس لكنه عملياً "يهدف إلى تحدي عباس"، كما اتهم نقابة المحامين آنذاك بإلقاء السُّلطة القضائيّة في أتون صراعات سياسيّة على حدّ وصفه. ويلمّح في ذلك إلى أن تحرّك النقابة يأتي ضمن حسابات سياسيّة، وبدفع من تيارٍ بعينه في حركة "فتح" (ربما يقصد تيار توفيق الطيراوي) لتحدي سلطة الرئيس عبّاس. ولم تكن هذه المرّة الأولى التي تظهر فيها ملامح النزاع الداخليّ على الساحة القضائيّة، لكن هذه الجولة تتميّز بإحداث تغييرات عميقة على القضاء الفلسطينيّ، بالإضافة إلى ملف الانتخابات الذي ترى به التيارات المختلفة داخل "فتح" فرصةً لتغيير معادلة علاقات القوى.
وحتى تتكشّف وجهة التطورات الجديدة بالشأن القضائي، فإن الرئيس عبّاس قد أحكم قبضته تماماً على القضاء الفلسطينيّ وحصّن نفسه من خطر المجلس التشريعيّ ضمن مساعٍ طويلة غُلّفت في ظاهرها بهدف "إصلاح القضاء". وبدلاً من احترام نصوص القانون الموجود المجمع عليه بأنّه متطوّر والتقيّد بها، اختار الرئيس الفلسطينيّ بتشجيع من بعض المقرّبين المسّ بالقضاء الذي من المفترض أنه ملاذ الأفراد في وجه السلطات.