بين أروقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رفعت 13 دولة أيديها في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 لتصوت على القرار 2803 الذي في ظاهره "خطة سلام" لغزة، وفي سطوره يعيد كل قضية فلسطين إلى مربع الصفر، ليأتي القرار انعكاساً لمعضلة مركبة تواجهها المقاومة: أن النظام الإقليمي يعمل على حجب مفاعيل التغيّر في النظام الدولي، ما يمنع المقاومة من ترجمة التغيرات الدولية إلى وقائع جديدة.
جاء قرار مجلس الأمن جزءاً من مرحلة الحسم التي افتتحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، إثر إعلانه نقل سفارته إلى القدس واعترافه بها عاصمة لـ "إسرائيل". حينها، بدأ مؤرخو العلاقات الدولية رصد انتقال القطبية العالمية من لحظة الأحادية القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب آخذٍ في التشكل، تكون فيه الصين القطب الثاني والمنافس الأقرب للولايات المتحدة، وروسيا القطب الثالث والأبعد في المنافسة، مع احتمالية دخول قوى أخرى مستقبلاً إلى نطاق القوى العظمى، وأبرزها الهند.
كيف يتشكل حولنا إقليم دولي جديد؟ وأين موقع القضية الفلسطينية فيه؟ وهل تستطيع المقاومة النهوض من جديد والاستمرار في ظل المتغيرات الدولية التي تحاصرها؟
نظام إقليمي في لحظة الأحادية
كان لافتاً في ذلك الحين أن العالم العربي وجواره الإسلامي يسيران في اتجاهٍ مناقض للاتجاه العالمي، إذ إنه بينما كان فراغ القوة يتسع بما يسمح بسياسات أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة، كان الإقليم يُحسم لصالحها، فلم يتبق من النظام الرسمي العربي سوى حلفاء في الخليج العربي والأردن والمغرب، ومصر مع تراجع مكانتها الدولية، ورغم ظهور مؤشرات خاطفة على انفتاح بعض أولئك الحلفاء على خيارات أخرى كما في: القمة الخليجية الصينية في 2022، أو التحالف السعودي - الباكستاني في 2025، فإن الاتجاه العام سرعان ما يؤكد أن تلك التحركات كانت أقرب إلى تهديد الولايات المتحدة بوجود بدائل لحضِّها على استدامة دعمها ومظلتها، أكثر مما هو توجه مستمر لتنويع الخيارات الاستراتيجية، خصوصاً بعد أن أقر أوباما استراتيجية التحول نحو آسيا في 2011 لاحتواء صعود الصين كقطب عالمي.
اقرؤوا المزيد: رسالة في الاكتئاب السياسي بعد الربيع
وسط ذلك جاءت موجة الثورات العربية لتشكل محاولة من الشعوب لاستعادة إرادتها، وقول "لا" في وجه آفاق مغلقة، قول "لا" أمام أنظمة رسمية عجزت عن التصدي لتحدي العدو الخارجي وعجزت في الوقت عينه عن تحقيق نهضة اقتصادية تجيب عن أسئلة التنمية والفقر والبطالة، فجاءت مقولة النفي الشهيرة للثورات العربية: "الشعب يريد إسقاط النظام"، فالجماهير الغاضبة كانت تعرف ما لا تريده، مع ضبابية ما بعده.
استجاب النظام الرسمي العربي بموجة رِدّة على الثورات شملت قهراً وإخضاعاً بكل أدوات التدمير والقمع والاضطهاد المتاحة، فكان ملخص إجابتها للثورات أن تقنع الشعوب أن ما بعدها أسوأ مما قبلها، وأن ما بعد شعار "إسقاط النظام" أسوأ كثيراً مما قبله، فكان جوابها للثورات أن لا تعالج أسبابها وأن تضربها وتنهيها.
وفي المحصلة انتهى صراع وأد إرادات الشعوب إلى دمار واسع، نجت منه الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة فحسب، وهو ما زادها رغبة في الحفاظ على هذا التحالف الذي ظنّت أنه أنجاها.
مقدمات الحسم
هذه الوقائع تأسيسية في المشهد السياسي الذي نعيشه وليست تفصيلاً أو صفحة طويت، إذ فتحت المجال لترامب في ولايته الأولى أن يأتي إلى المنطقة بمشروع تصفية نهائية: بدءاً من نقل سفارته إلى القدس واعترافه بها عاصمة لـ "إسرائيل" في 2017، ومحاولته تقويض الأونروا وإنهاء حق العودة في 2018، وسحب الاعتراف حتى من ممثلية منظمة التحرير في الولايات المتحدة والتي كان افتتاحها جزءاً من بداية مرحلة المفاوضات.
وصولاً إلى طرح "صفقة القرن" كمشروع تصفية شاملة، لكن الأزمة السياسية الإسرائيلية الداخلية اضطرته إلى تأجيله حتى كانون الثاني/ يناير 2020، ثم أسس عليه في أيلول/ سبتمبر 2020 الاتفاقيات الإبراهيمية باعتبارها تحالفاً مع "إسرائيل" يتخطى مفهوم "اتفاقات السلام"، تحالفا يتجاوز الحق الفلسطيني ويحاول التأسيس لعلاقات تكامل اقتصادي وعلمي وتكنولوجي بين الدول العربية و"إسرائيل".
اقرؤوا المزيد: لقاءات بالسرّ.. الزعماء العرب في مذكرات نتنياهو
في أثناء ذلك كله، لم تهدأ في فلسطين المواجهة يوماً، وبرزت في موجة من الأحداث المتصاعدة التي تصدت خلالها المقاومة الشعبية والمسلحة لمحاولات الحسم، بسبع معارك تكثف فيها التصدي والاشتباك على مدى ثماني سنوات، بدءاً من هبة باب الأسباط في الأقصى في تموز/ يوليو 2017، إلى مسيرات العودة 2018 وما تخللها من عدة جولات تصعيد، ثم هبة باب الرحمة في شباط/ فبراير 2019 ومعركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021، ومعركة وحدة الساحات في آب/ أغسطس 2022، ومعركة الاعتكاف في نيسان/ أبريل 2023، وربما ليس أخيراً معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
اقرؤوا المزيد: أذرعُ المقاومةِ الطويلةُ.. عن صواريخ "سيف القدس"
سارت أميركا نحو ما اعتقدته "حسماً" لصالح "إسرائيل" في ظل أوضاع إقليمية مواتية، ومضى ترامب في مشروع النقاط العشرين وقمة شرم الشيخ على المنطق، وكأن لسان حاله يقول: "سنحسم لـ "إسرائيل" بالسياسة واصطحاب دول الإقليم ما عجزت عن حسمه بالحرب والإبادة".
التقت مصالح ترامب مع صعود تيار الصهيونية الدينية في "إسرائيل"، وبدأ التحضير للتحول نحو آسيا بحسم هذا الإقليم لصالح مركز صهيوني مطلق يضمن المصالح الأميركية فيه، في استجابة لتطلعات كتلة وازنة من ناخبي الصهيونية المسيحية الذين ساهموا في صعوده السياسي، وبالتزامن مع ظهور بيئة إقليمية عربية متشظية وضعيفة نتيجة محاولات التغيير وإجهاضها بالقوة المسلحة.
اقرؤوا المزيد: مستوطن البيت الأبيض.. هكذا يوسع ترمب "إسرائيل"
تعزز اتجاه الحسم الأميركي للإقليم مع قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تغيير نهج السياسة الخارجية بعد المحاولة الانقلابية التي كادت أن تطيح به وبحزبه عام 2016، بأن يتصالح مع الولايات المتحدة وحلفائها العرب من البوابة الإسرائيلية، بموكب مهيب لحرس الشرف الذي استقبل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في 2022.
مواجهة مستمرة
في مواجهة هذه القوى التي كانت تدفع نحو الحسم لصالح "إسرائيل" في فلسطين، والحسم الأميركي في الإقليم، برزت ثلاث قوى فاعلة: المقاومة الفلسطينية التي تصدت في سبع محطات، وطالبان في أفغانستان التي أجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب الكامل في 2021، وإيران التي كانت تواصل الاستثمار في برنامجها النووي بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي بينهما، فتمكنت إيران من تطوير برنامجها الصاروخي، ومواصلة دعمها لـ "حزب الله" وقوى المقاومة الفلسطينية، ولاحقاً تنظيم "أنصار الله" في اليمن.
اقرؤوا المزيد: هل يخوض "حزب الله" معركة أعمدة؟
كانت المقاومة الفلسطينية والهبّات الشعبية تمضي لمواجهة الحسم في بيئة دولية تقلل من فرص الولايات المتحدة و"إسرائيل" في فرضه، خصوصاً مع اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية في 2022، ومع سعي الصين علناً لاستعادة تايوان بحلول عام 2027، إلا أن البيئة الإقليمية أصرت أن تبقى في النظام الدولي السابق، في لحظة الأحادية القطبية، وظلت محسومةً إلى حد كبير لصالح الولايات المتحدة، فباتت تعمل كمظلة تمنع دخول مفاعيل الفرص الدولية إلى الإقليم.
كانت المقاومة الفلسطينية تواجه ذلك شبه مجردة سوى من انعكاسات انتصار طالبان على الولايات المتحدة من دون وجود تحالف فعلي معها، وبتنسيق مع إيران و"حزب الله" و"أنصار الله"، لكنه تنسيق محاط بمعضلتين: الأولى الهوية المذهبية لهذه القوى والتي وظفها ما تبقى من النظام الرسمي العربي المتحالف مع الولايات المتحدة لمحاولة عزل المقاومة وتصوير هذا المحور باعتباره "شيعياً" أشد خطراً على المنطقة "من الصهاينة أنفسهم".
اقرؤوا المزيد: مفتاح باب المندب في غزة.. هكذا ساندت اليمن الطوفان
أما المعضلة الثانية، فتمثلت بالانخراط الإقليمي لإيران و"حزب الله" و"أنصار الله" في العراق وسوريا واليمن، بشكل أسّـس جدران دمٍ على الحدود المذهبية مع عشرات الملايين من أبناء تلك الشعوب، وسمح بمدِّ أجندة "الاعتلال العربي" بما تحتاج إليه من حجج لشيطنة المقاومة وتبرير محاولة القفز عن قضية فلسطين باعتبارها "ليست قضيتنا"، وكأن الصراع ضد "إسرائيل" تفصيل على هامش صراع مركزي سني - شيعي!
الجزائر ضدنا!
المقدمات السابقة مهمة لنفهم اليوم لماذا تصوت الجزائر وباكستان مع القرار الأميركي في مجلس الأمن بينما تمتنع الصين وروسيا عن التصويت، فتتقدم الأقطاب العالمية في موقفها على قوى الإقليم شبه المحسوم، التي تحجب أوكسجين الشقوق والفراغات الدولية عن منطقتنا. إقليم يوقّع فيه "الوسطاء" الأقرب للمقاومة، قطر وتركيا، على مشروع خنقها وتجريدها من السلاح كمحصلة لحرب إبادة ضدها على مدى عامين.
من جهة ثانية، لنحاول فهم لماذا تتمكن الجماهير الأوروبية والأميركية من الخروج بالملايين إلى الشوارع، بينما تمنع السلطات الجزائرية أي تجمع شعبي مناصر لغزة على مدى عامين، وهي الخارجة حديثاً من الموجة الثانية للثورات والثورة المضادة لإجهاضها، وبينما تحرص مصر والأردن على تجفيف التحرك الشعبي وصولاً إلى تصفيره، فإن الفرصة الدولية يحول دون قطافها ميزان قوى إقليمي ما زال عالقاً في لحظة الأحادية القطبية، يقدم لترامب قرابين الرضى من دماء المقاومين وشعبهم ومن أعمار من يحاولون دعمهم.
لقد كان النظام الرسمي العربي قبل 2010 - على علّاته - متعدد الخيارات السياسية، إذ حينما كانت السعودية في الحلف الأميركي، كانت مصر تدعم المقاومة الجزائرية والفلسطينية، وحين ذهبت مصر إلى كامب ديفيد، شكلت العراق وسوريا وليبيا والجزائر "جبهة الصمود والتصدي"، ثم انضم السودان كأحد اللاعبين الخارجين عن الإرادة الأميركية بعد تغيير نظام النميري. لم تفقد المقاومة الفلسطينية في أي مرحلة من يتحدث مع القوى الدولية نيابة عنها، ويحاول الاعتراض على الموقف الأميركي المنحاز لـ "إسرائيل" بموقف سوفيتي - وروسي لاحقاً - أو صيني، على ما يمكن أن يوصف به هذا التعديل من وهن.
اليوم، تصوت روسيا والصين بالامتناع لأنها لم تجد من يحمل موقف المقاومة الفلسطينية إليها ويقايض عليه بحسابات المصالح، إذ كان من الممكن بسهولة أن ينتهي هذا القرار إلى الفيتو، وأن يجد ترامب نفسه أمام لاعب دولي جديد يصبح طرفاً في خطته رغم أنفه، لأن هناك من يستطيع منع تمريرها دولياً؛ لكن لم تبادر أي دولة عربية أو إسلامية لذلك، رغم أن الجزائر والباكستان والصومال يمثلون كتلة الدول العربية والإسلامية في الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي لا يمنع تصويتها مرور القرار، لكن ما يمكن أن تقدمه من موقف وتفاوض يمكنه أن ينتهي إلى فيتو روسي أو صيني أو حتى مشترك بين الاثنين. في غياب ذلك، فضلت كل من روسيا والصين حساباتها الخاصة واكتفت بالامتناع.
ما بين حسمين
لقد جاءت حرب الإبادة على قطاع غزة كمشروع حسم عسكري نهائي بعد تعثر محاولات الحسم السياسي، وسريعاً ما تحولت إلى حرب تهجير لغزة وتدمير كامل لها، وتزامنت مع حرب تهجير لمخيمات الضفة الغربية، تؤسس لمرحلة لاحقة من تهجير أوسع، وتزامنت مع تصعيد حرب الحسم على القدس بمسجدها الأقصى وأحيائها وحدودها.
والمضي بالحرب إلى جنوب لبنان ومحاولة الحسم تجاه المقاومة اللبنانية، ثم باتجاه اليمن في محاولة لإسكات الإسناد المؤلم والمؤثر الذي مضى إليه، والاتجاه إلى إيران ليس لتدمير مشروعها النووي والصاروخي فقط؛ بل في محاولة لتغيير النظام وفرض الفوضى والتفكير بـ"فرط" الدولة الإيرانية لمكوناتها القومية والمذهبية، والسعي لتحقيق هذا الهدف في سوريا بعد إسقاط النظام فيها، ومنعها من التماسك في دولة مركزية من جديد، وامتدت يد الحسم لمحاولة إنهاء التفاوض بأسره في غارة الدوحة، ومحاولة كسر أسطول الصمود في الغارات على تونس.
اقرؤوا المزيد: صناعة العداء.. كيف مُهّدت الطريق لـ "إسرائيل"؟
رغم القتل والتدمير لم ينجح الحسم العسكري أيضاً، وانتهى إلى عزلة دولية لـ "إسرائيل"، جسدته موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية تحت ضغط الشارع الأوروبي والدولي، ومشهد خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة بالمقاعد الفارغة للقاعة، وأسطول الصمود بعشرات السفن الذي وضع الإسرائيليين في مواجهة ناشطين من كل العالم، والتغير الداخلي الأميركي السريع في انتقاد "إسرائيل" ورفض الانحياز الأميركي الأعمى لها، وبدء النظر إلى اللوبي الإسرائيلي بوصفه يعمل لصالح دولة أجنبية ما يوجب تقييد عمله؛ جاء ترامب ليقول إن الحرب أصبحت عبئاً ثقيلاً، فدعونا نرجع لمحاولة الحسم السياسي.
لم يقترح ترامب نهاية للحرب، بل اقترح تخفيف وتيرتها ونقل جزء من ثقلها للأدوات السياسية بما يقلل من الآثار السلبية الناتجة عنها، ما اقترحه كان أقرب إلى استعادة حالة شبه الحرب المتقطعة التي كانت قبلها، مع فارق في وقائع ما بعد الحرب.
لقد بدأ الحسم كأجندة سياسية - اقتصادية تستخدم القوة أحياناً، ثم تحول إلى حرب إبادة وتصفية متعددة الجبهات، واليوم يعود لشكله السياسي الذي بدأ منه واستمر فيه لست سنوات؛ وهو لا يعني فقط البقاء على حافة الحرب بل احتمالية العودة إليها على عدة جبهات بشكل متقطع.
الأفق الممكن
يبقى السؤال الأهم: ما الأفق السياسي والعسكري اليوم بعد اعتماد قرار مجلس الأمن 2803، وإقرار "مجلس السلام" بقيادة ترامب وتفويضه بمهمة حكم غزة وتأهيل السلطة الفلسطينية لاستلامها، وتشكيل "قوة استقرار دولي" ومنحها تفويضاً واسعاً بنزع السلاح وهدم المنشآت العسكرية والإشراف على تشكيل شرطة فلسطينية جديدة قائمة على التنسيق الأمني، واستحضار صفقة القرن 2020 باعتبارها أساسا للحل؟
قد يقول قائل: لم تعد المشكلة مع "إسرائيل" والولايات المتحدة، بل باتت مع العالم.
رغم ما يحمله هذا القرار من خطورة فإنه تسجيل للوقائع القائمة بوثيقة، وليس تأسيساً لوقائع جديدة: هو تثبيت لحقيقة أننا في إقليم شبه محسوم للولايات المتحدة، عالق في الأحادية القطبية، يحجب عن فلسطين ومقاومتها وعن كل شعوبه مفاعيل التغيير الدولي، ويحاول تأبيد الغطاء الأميركي في فترة أفوله.
لقد سبق للولايات المتحدة أن أسست قوة دولية متعددة الجنسيات بعد حرب مدمرة، وذلك في آب/ أغسطس 1982، حين نزلت القوات الأميركية والبريطانية والفرنسية والإيطالية على أرض لبنان دون قرار أممي لتشرف على "مغادرة المقاتلين الأجانب" ولـ "تساعد الدولة اللبنانية في بسط سيادتها والحفاظ على الأمن"، لكنها سرعان ما أصبحت تحت الاستهداف كقوة وصاية دولية على لبنان، لتخرج بعد 14 شهراً من انتشارها.
الوقائع ليست متطابقة على أي حال، والتاريخ لا يعيد نفسه بحذافيره وإن كان خزان التجربة الإنسانية الذي يمكن العودة إليه للاسترشاد، فهذه القوات تجري محاولة منحها الشرعية بقرار لمجلس الأمن بخلاف ما حصل في 1982، ولبنان دولة مستقلة قبل دخول "إسرائيل" بجيشها إليه، بخلاف قطاع غزة الذي ما زال محتلاً مع تفاوت أشكال احتلاله، وفي تلك الحقبة كانت الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تفرض ميزان قوىً مختلفا عما هو عليه اليوم.
اقرؤوا المزيد: اختراع الإدارة: ما الذي تحاول "إسرائيل" فعله في غزّة؟
اليوم، نعيش في نظام دولي رخو ما زال يتشكل، تتراجع فيه الولايات المتحدة بسرعة أكبر من قدرة الصين وروسيا على شغل ما تتركه من فراغ، تشتعل فيه حربٌ بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، وتُقبل فيه الصين على استعادة تايوان خلال عامين، بينما معظم قوى الإقليم ترفض مغادرة لحظة الأحادية القطبية، لكن هذا تحديداً ما يُفقِدها وزنَها وتأثيرها، ويجعل انضمامها للولايات المتحدة في قرار حسم لا يغير كثيراً في الوقائع، فقواه قامت بالفعل بكل ما تستطيعه لوأد المقاومة وهزيمتها على كل الجبهات، وحرب الإبادة بالسلاح الأميركي الكامل قد تمت بالفعل، وإعادة إنتاج هذه الوقائع الصلبة في وثائق سياسية لن يجعلها قادرة على الحسم وإن كان يُعقّد المشهد سياسياً.
التغيير اليوم يمكن أن يأتي من ثلاثة مصادر: أولاً، تجدد المقاومة على جبهات أخرى مثل الضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948 أو الجبهة اللبنانية بما ينهي الاستفراد بغزة باعتبارها مقدمة الحسم، وثانياً، أن يحصل تغيير في موقف دول الإقليم أو في بنيتها نتيجة تحركات شعبية أو تصدعات داخلية بما يسمح لمفاعيل التغيّر الدولي أن تدخل الإقليم، وثالثاً، أن تزداد التغيرات الدولية بانفجار التناقضات الداخلية الصهيونية أو الداخلية الأميركية أو في العلاقات بينهما.
حتى ذلك الحين، فإن المقاومة الفلسطينية معنية بالصمود، والحفاظ على سلاحها، ومنع الولايات المتحدة و"إسرائيل" من فرض أي وقائع جديدة في كل الأرض الفلسطينية، والواجب على قوى المقاومة ومن يدعمها اليوم أن يحرصوا على معادلة سبق أن كرسها الشهيد إسماعيل هنية: "لن تأخذوا بالسياسة ما عجزتم عن أخذه في الميدان".
اقرؤوا المزيد: من الطوفان إلى ردع العدوان.. ماذا ينتظر منطقتنا العربية؟
تحقيق ذلك يتطلب استراتيجية ثلاثية: أولاً، المناورة السياسية مع الصلابة الميدانية، وثانياً، تعزيز التواصل، وثالثاً، تنسيق الموقف مع القوى التي تجابه الحسم وعلى رأسها "حزب الله" الذي سيكون سلاحه التالي إن تقدمت تجربة نزع سلاح مقاومة غزة لا قدر الله، وكذلك إيران واليمن وأفغانستان، والقوى الشعبية العربية الرافضة للارتكان الرسمي العربي المطلق للغطاء الأميركي.
هذه الاستراتيجية تحاول منع استئناف حرب الإبادة ما استطاعت، ومنع فرض وقائع ميدانية جديدة بالمقابل، إلى أن تبدأ محاولة الحسم بالتفسخ، فهذه محاولة عمرها ثماني سنوات اليوم، وسبق أن فشلت في سبع محطات سابقة، وهي تخوض محاولتها الأشرس اليوم، التي إن فشلت ستعني الفشل النهائي، وأن أي محاولة لاحقة ستكون أقل خطراً وتأثيراً منها.
قرارات مجلس الأمن تفشل في الميدان إن عجزت القوى التي تبنتها عن فرضها، وهذا مفتاح إجهاض قرار 2803 الذي يجب إجهاضه، لكن من دون الاندفاع بإعلان ذلك سياسياً بما يسمح باستئناف حرب الإبادة، فإن كانت "إسرائيل" معنية باستئنافها لتحمل هم عبء هذا القرار، فالمقاومة تقف بين الحرب السياسية والعسكرية على مدى شهور قادمة، إلى أن تستجد وقائع جديدة تسمح بالوصول إلى نهاية أكثر اتزاناً واستقراراً لحرب الإبادة.