16 يوليو 2021

الفلسطينيّ في موقع المواجهة الإعلاميّة: حوارٌ مع محمد الكرد

الفلسطينيّ في موقع المواجهة الإعلاميّة: حوارٌ مع محمد الكرد

نظّم الإسرائيليون خطابَهم للغرب ولبقيةِ شعوب العالم من خلال برامج مدروسة من الدعاية السياسيّة (الهسبراه). في المقابل، لم يكن لدى الفلسطينيّين إلا مجموعة متنوعة من التجارب التي لم تتراكم ضمن خطابٍ مدروسٍ ومُوَجّه. 

في الستينيّات والسبعينيّات، استفاد الفلسطينيون من الخطاب اليساريّ الأُمميّ في تعبئة الرأي العام، بل وتجنيد المتطوّعين من الحركات اليساريّة العالميّة المختلفة. لاحقاً برز خطابُ إدوارد سعيد، الذي قام على مبدأ إحراج الغرب، وإثبات ازدواجية معاييره وخطابه عن حقوق الإنسان فيما يتعلّق بحقوق الفلسطينيّين.

وفي السنوات الماضية، ظهرت حركاتٌ متنوعة أعادت تقديم القضية الفلسطينيّة للجمهور الغربيّ، منها حركاتُ المقاطعة، ومجموعات حقوقيّة مختلفة، والتي ركّزت على فضح انتهاكاتٍ حقوق الإنسان التي تمارسها دولة الاحتلال، وتعارضها مع القانون الدولي. كانت هذه الخطابات- رغم حذرها- تواجه باستمرار ضغطاً صهونيّاً عنيفاً يتّهمها بمعاداة السامية، وهو ما أدّى إلى حظر بعضها في البلدان الأوروبيّة، وتخويف الرأي العام منها.

في المقابل، يبدو أنَّ الأحداث الأخيرة قد أبرزت خطاباً إعلاميّاً بسقف أعلى، وأكثر جرأة في تسمية الأشياء بمسمّياتها، خطاباً يُركّز على الوضوح أكثر من الحذر. حمل جانباً من هذا الخطاب الشّاب الفلسطينيّ محمد نبيل الكرد، ابن حي الشيخ جرّاح والمُهدّد بالتهجير من منزله لصالح جمعيات استيطانيّة.

في مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربيّة، وعلى عكس السائد لدى كثير من المتحدثين الفلسطينيين، يُسمّي الكرد الوجودَ الإسرائيلي في مناطق الـ48 بالاحتلال، ويقول بصراحةٍ بأنّ هذا النظام إرهابي ولا يمكن التعايش معه، وأنّه يمارس -إضافة إلى سياسة "الفصل العنصري"، التي تحوّلت إلى نغمةٍ أثيرة لدى المدافعين عن القضية الفلسطينيّة- سياسةَ تهجيرٍ قسريّ وتطهيرٍ عرقيّ وإحلال كولونياليّ استيطانيّ. 

يستثمرُ هذا الخطاب البداهات السياسيّة التي يعرفها كلّ فلسطيني، ويُتقن استراتيجية المواجهة الإعلاميّة، فينتقلُ من موقع الدفاع إلى الهجوم، ويتفادى بذلك المتاهات الخطابيّة التي تُحوّل القضايا العادلة الكبرى إلى مجموعة مشتّتة من القضايا التفصيليّة والقانونيّة الجزئيّة. 

لم يكن الكرد بطبيعة الحال أوّل من قدّم مثل هذا الخطاب، فهو خطابٌ سكن ذاكرةَ الفلسطينيين مع غسان كنفاني، وغيره من كتّاب حركة التحرّر الوطني. وبينما اعتقدت العديد من مؤسسات الدفاع عن الفلسطينيين أنّ تقديم خطابٍ دبلوماسيّ، يتفادى الخطوط الحمراء، ويلتزم بالتعريفات القانونيّة المتفق عليها، أقدرُ على مخاطبة الغرب والتأثير في سياساته، يرى البعض أنّ هذا الخطاب – بسقفِه الأعلى ووضوحه – هو الأكثر فعالية في مخاطبة الجمهور الغربيّ والعالميّ.

في هذا الحوار، نتحدث مع الكرد عن استراتيجيات هذا الخطاب المتصاعد، ومكمن فعاليّته، وآليات تطويره. 

باعتقادي أنّ هناك الكثير من الأسباب التي رفعت سقفَ الخطاب الفلسطينيّ الجديد، وموجة المناصرة التي ظهرتْ في الأشهر القليلة الماضية ما هي إلا استمرارٌ لعملٍ تراكميٍّ قام به حقوقيون وحراكاتٌ ومؤسسات مختلفة على مرّ عقودٍ من الزمن. 

هذه المرّة استطاع الفلسطينيُّ اختراقَ العوائق وتكميم الأفواه الذي تُمَارِسُه شركات الصحافة في العالم الغربيّ من خلال استخدامه الحدق والمسيّس لوسائل التواصل الاجتماعيّ، ففرضَ عليها الاستجابةَ والحديث عمّا شَغَلَ مواقع التواصل بشكلٍ ساحق. كان هناك العديد من المشاهير، الأميركيين مثلاً، الذين تحدّثوا من خلال مواقع التواصل عن القضية الفلسطينيّة وأدانوا الاستعمار. كذلك ظهرت أصواتٌ سياسيّة في الكونغرس (بغض النظر عن خطابها)  تتجرأ، ولأول مرة، في انتقاد السياساتِ الإسرائيليّة، ورأينا مكانة "إسرائيل" تسقط إلى الهاوية في استطلاعات الرأي العام في أميركا وأوروبا. 

ولا يُمكِنُني أن أنسى: مظاهرات جورج فلويد في صيف 2020، إذ كانت - قبل أن تستولي عليها الحكومةُ الأميركيّة ونخبة من الرأسماليين السود- قد جهّزت الشارعَ العالميّ للخطاب الفلسطينيّ الجديد. لم تطالب تلك المظاهرات بإصلاحٍ في أنظمة الأمن والعدالة الأميركيّة، بل بإلغائها كليّاً: إلغاء السجون وإلغاء الشرطة. هذا الخطاب الراديكالي ليس حديثاً، لكنّه لأولِ مرةٍ يتصدّرُ الصحفَ ويتربّع في الشاشات، مما جعل التربة خصبةً لتلقي مطالب كمطلب تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. 

حين نتحدث اليوم عن دولة الاحتلال باللغة الإنجليزيّة، ولا أشمل الجميع، لا نحصر حديثنا عن "انتهاكات" حقوق الفلسطينيّين والفلسطينيات والمعاملة القاسية، بل تمتد تصريحاتُنا لتشملَ دحضَ شرعية الاحتلال وشرعية مؤسساته الرسمية، والحديث عن جميع جغرافية دولة الاحتلال كمنظومة استعمارية احلاليّة. من الأمثلة على ذلك حالة الشيخ جرّاح، لم نكتفِ بالقول إنّ هناك ادعاءات كاذبة من قبل مستوطنين وإنّ هناك بعض القوانين العنصريّة ضدّ الفلسطينيّين، بل قلنا أيضاً إنّ كلَّ النظام القضائيّ الإسرائيليّ هو استعماريّ بالضرورة، ومبنيٌ من قبل المستوطنين لخدمتهم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُنصِفَ الفلسطينيّ، وليس للقُضاة الإسرائيليين أي سُلطةٍ شرعيّة للبت في قَدَري كفلسطينيّ يعيش في القدس المحتلة. 

يُمكنني القول إنّ الفلسطينيّ اليوم استطاع تخطّي العقبات البيروقراطيّة التي تفرِضُها وسائلُ الإعلام الرئيسة في الغرب، من التعقيدات التي تُمَوّه موازينَ القوى الواضحة وتجعل صناعةَ الرأي العام العالميّ حول القضية الفلسطينيّة أكثر تعقيداً. كنتيجة، أصبح "الوضع في فلسطين" بسيطاً وسهلاً، فلا يجب على المتلقي أن يكون خبيراً في السياسة أو الجغرافيا أو التاريخ لفهم جوهر الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين ومظاهره.

بالإضافة إلى ذلك، كان الخطاب الفلسطينيُّ تاريخيّاً خطاباً يؤدي دوراً محدداً ويتوجه بالحديث لجمهور معيّن، وهو صانعي القرار في الحكومات الغربيّة والإسرائيليين المتعاطفين معهم. أمّا اليوم، فالخطاب هو ترجمة لكلمات وأصوات ووجهات نظر الشارع الفلسطينيّ دون الاستماتة لاستدرار العطف أو القبول أو "الاحترام" من الجمهور الغربيّ.

ما نراه في فلسطين في الأشهر الأخيرة هو استرداد للسياسة إلى أيدي الشعب، ذلك الشعب الذي يوّاجه في الشارع، وهو الذي يفرضُ الواقع الآن، وهذا بعد أن انتزعنا ما يُسمّى بـ"التمثيل الرسميّ" من أفواه النُخب الفلسطينيّة والقيادات الرسميّة. 

استطاع الشبابُ الفلسطينيّ اليوم أن يتخطّى ويفرض فلسطينيته على حدود فلسطين من البحر إلى النهر بالرغم من الجغرافيّات الاستعماريّة، الإسمنتية منها والوهميّة، وبالرغم من الشرذمة السياسيّة التي خلقتها هذه النُخب الفلسطينية أيضاً. وبالتزامن مع ذلك، استعدنا مصطلحاتنا والتسميات الحقيقية الواضحة والمباشرة، كما استعادَ البعض تسمية "مستوطن" لتُطلق على كلّ مستوطن، سواء في أراضي الـ48 أو أراضي الـ67.  

ببساطة، نعم أنا اسمّي الأشياء بمسمياتها. 

أمّا بالنسبة للقانون الدولي، فـ"إسرائيل" تستخدمه كمرجعٍ لتكميم الأفواه دون تطبيق أيٍّ من قوانينه، بل وتضرب بقوانينه عرض الحائط. علينا أن نعي أن القانون الدولي كأداة هي أداة محدودة ولا تُلبي طموحاتنا كشعب مُستَعمَر، وبالتالي يجب أن يكون تعويلنا عليها محدوداً، فنادراً ما طُبقّت قرارات المؤسسات الدوليّة على أرض الواقع، حتى لو أثبتت بعض حقوق الإنسان الفلسطيني نظريّاً.



24 يونيو 2024
لن يطرق المستوطن باب المنزل

جالساً على أريكته في بيته، باطمئنان مناطق "أ" التي تحكمها السلطة الفلسطينية على مساحة 18% من الضفّة الغربيّة. رنّ الجرس…