4 يوليو 2025

الفقدان الذي لم نعتده في غزة

الفقدان الذي لم نعتده في غزة

"لن ينجو أحد من لعنة هذه الحرب"، كتبت على لوحة في غرفتي في اليوم الأول للحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كنت أشعر في كل لحظة يتعاظم فيها قصف الاحتلال علينا أنه سيلاحقنا ويقتلنا جميعاً. وأصبحت في كل يوم أعيش الفقد، وأودع أحبائي الواحد تلو الآخر، أقبلهم للمرة الأخيرة، وألمس أناملهم للمرة الأخيرة. 

أقف أمام جثامين أحبتي المكفنين بالأبيض، ويدور شريط الذاكرة في رأسي مجدداً بذكرياتهم الملونة والمبهجة، أُسمعهم صوت الحياة للمرة الأخيرة بقراءة سورة يس وسورة البقرة بالقرب من آذانهم. وأرافقهم إلى المقبرة للمرة الأخيرة وأُهيل عليهم بعضا من التراب الذي خطت عليه أقدامهم يوماً ما. ولا يخلو صباح من إهدائهم الدعاء وسورة الفاتحة أو بصدقة متواضعة ربما بسقيا الماء عسى أن تطمئن أرواحهم.  

رسم الاحتلال لنا الموت ونحن في كل مرة نخترع أشكالاً للنجاة، وأدور في دائرة أسئلتي الكثيرة: ماذا يكون الموت؟ هل علينا أن نخاف على من ماتوا أم هم الناجون بيننا؟ لماذا نحاول النجاة من الموت على مدار الساعات والأيام؟ هل نحن على قيد الحياة أم على قيد الموت؟ 

اقرؤوا المزيد: رعب اسمه: حقيبة الطوارئ

 لم أجد إجابات عن هذا التساؤلات ولم يهنأ لي بال، ويومياً يرتجف قلبي وتذرف عيوني الدمعات حين أسمع بارتقاء فرد من أفراد عائلتي وجيراني وأصدقائي، وأشاهد المجازر اليومية التي يذهب ضحاياها بالآلاف. 

وداع تلو الوداع 

 اخترع الاحتلال في هذه الحرب أشكالاً جديدة للموت، اختلف شكله ورائحته ولونه، أصبحنا نرى تطاير الأجساد بالسماء، واحتراق الأجساد والأرواح وهم أحياء، وتبخر الأجساد وإذابتها وتحللها، والتهامها من الكلاب المسعورة، وترك الناس محاصرة تحت أنقاض منازلها المقصوفة لتموت اختناقاً ببطء.

فمنذ بداية الحرب، فقدت ما يزيد على 300 فرد من عائلتي، في 18 نيسان/ إبريل 2025 فقدت أبناء وبنات خالتي الذين تربينا وعشنا معاً، وذهبنا إلى المدرسة والجامعة معاً، ولطالما خرجنا في جمعات ونزهات العائلة. 

اقرؤوا المزيد: مقاومة لا تراها الطائرات

عبد اللطيف، نايف، أسماء، أماني، روان، حلا، جنان، سيلين، قُذفت وتطايرت أجسادهم من الطابق الخامس إلى الشارع في حيّ الزيتون وإلى بعد مئات الأمتار على أسطح الجيران، لم أقوَ على تصديق الخبر سرعان ما هرولت أنا وأمّي مشياً على الأقدام نحو مستشفى الشفاء. وفي المستشفى، لم أقوَ على الكشف عن وجوههم، جلست بقربهم وهم مسجَّون بالكفن الأبيض، واكتفيت بقراءة سورة يس والبقرة لحين مواراتهم الثرى. 

الشهيد شعبان الدلو في صورة سيلفي التقطها مع أفراد عائلته التي قُتل أفرادها عندما أدت غارة إسرائيلية إلى إضرام النار في خيمته وسط غزة

 ولن أنسى ما حييت رجفة قلبي ورعشة يديّ في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 بعد صلاة الفجر حين استفقنا على خبر احتراق واستشهاد صديقنا شعبان الدلو ووالدته آلاء وشقيقه عبد الرحمن ولحقتهم فيما بعد شقيقته فرح، داخل خيمتهم في مستشفى شهداء الأقصى.

 صرخ أشقائي محمد وإيمان: "يا الله يا الله حرقوا شعبان، ليش حرقوك يخوّ، ليش يخوّ؟ بكينا وصرخنا جميعاً، من أعمق نقطة في أرواحنا المكلومة، بألم الفقد حاولت أمّي تهدئتنا بالدعاء لهم بالرحمة. وتضاعف وجعنا أننا لن نستطيع حتى وداعهم، فنحن في شمال القطاع، وهم في جنوبه، وتفصل بيننا حواجز الاحتلال وما فرضه علينا من تقسيم جغرافي.  

اقرؤوا المزيد: عائلات غزة الممزقة شمالاً وجنوباً

لم نفقد عائلة صديقنا شعبان فقط في ذلك الاستهداف، وإنما عددا من زملائي الصحفيين أيضاً، بعد أن طال قصف الاحتلال خيمتهم بجوار مجمع ناصر الطبي ما أدى لاستشهاد زملائي الصحفيين أحمد منصور وحلمي الفقعاوي والشاب يوسف الخزندار، وأصيب أيضاً عدد آخر من الصحافيين. 

صديقة بلعها الركام 

أما صديقتي نور الحطاب، فلم أستطع حتى هذه اللحظة فتح المحادثة الأخيرة على حساب الإنستغرام بيني وبينها، منذ أن ارتقت في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر2023، حين استهدف الاحتلال مربعاً سكنياً بحزام ناري في حي الشجاعية. 

ارتقت نور برفقة 28 فرداً من أسرتها، وما زالت جثامينهم حتى هذه اللحظة أسفل الأنقاض لا أدري حتى إن بقيت أسفل الركام في الوقت الحالي حيث يقوم جنود الاحتلال بتجريف مساحة كبيرة من حي الشجاعية من أجل توسيع المنطقة العازلة. 

 أب يطبع  قبلة الوداع الاخيره على  طفله  في مشرحة مشفى  شهداء الأقصى  
(تصوير علي جاد الله/الأناضول)
أب يطبع قبلة الوداع الاخيره على طفله في مشرحة مشفى شهداء الأقصى
(تصوير علي جاد الله/الأناضول)

وقد أصبح في هذه الحرب القاسية، صاحب الحظ فينا من يجد شهداءه، يودعهم ويكفنهم ويواريهم التراب، فكم لنا من أحبة ما زالوا محاصرين تحت أنقاض منازلهم، لم نستطع حتى الآن أن نعانقهم العناق الأخير، وأن نكفنهم وندفنهم، وأن نودعهم وداعا يليق بهم. 

للغياب أثر وآثار

رغم سلب الموت أحبتنا كل يوم، ما زلنا لا نعتاده، وما زلنا نضعف في لحظة الوداع الأخيرة، وما زلنا نبكي كثيراً. بعضنا يحتضن جثامين أحبته لوقت طويل، ويهمس لها بالعهد أنه لن ينساها، ويحدثها بالذكريات عسى أن توقظها. وبعضنا يغطي وجوه أحبته الشهداء، ويرفض أن يراهم بعد أن فارقوا الحياة، لتبقى في رأسه ذكرياتهم وهم أحياء. 

هذا بعض من الوجع العميق الذي حفره الشهداء في أرواحنا، وجع يبتلعنا في كل لحظة نعيشها من دونهم، وجع وما زلنا لا نعتاده...