تكتظّ شوارع الضفّة الغربيّة بالسيّارات. لا يخلو شارعٌ فرعيٌّ قبل الرئيسي من المركبات. وأينما وجّهت مقود سيّارتك ستعلق في أزمةٍ مروريّة؛ في أيّ يوم وأي ساعة وعلى أي طريق. يبدو هذا الوضع إشكاليّاً للجميع؛ للمتأخّر عن موعده، لكاره الانتظار، للبيئة وطبقة الأوزون، وحتّى للأطفال الذين يلعبون كرة قدم في زقاق حارتهم حين تقاطِعُهم السيّاراتُ المُتحايلةُ على الأزمة المروريّة التي انتابت الشارع الرئيسي.
يحبّ جميعُ سائقي السيّارات دوّارَ المنارة يوم الجمعة صباحاً لأنّه يكون فارغاً. يكره سكّانُ القدس طريقَ قلنديا وكفر عقب عند مرورهم منها للأزمة المروريّة التي أصبحت مُرادفاً لهذه الهوامش بوجود الحاجز العسكريّ الإسرائيلي. ويمقت طلبةُ جامعة بيرزيت تأخّرهم عن محاضرة الساعة الثامنة صباحاً، خاصّة إذا كانوا قادمين من مدينة رام الله، لأنّهم سيعلقون في أزمةٍ مروريّةٍ خانقةٍ قد تكون سبباً في انسحاب بعضهم من المساق الدراسيّ لاحقاً. أمثلة لا تنتهي، فالجميع له قصّته الخاصة مع الأزمة المروريّة، التي نزلت فجأة على شوارع الضّفة الغربيّة. لكن ربّما تكون هذه الأزمة التي نشهدها أكبر بكثير من مجرّد أزمة مروريّة!
حين تغصّ الجغرافيا
يسكن أكثرُ من ثلاثة ملايين إنسان فوق مساحةٍ جغرافيّةٍ ضيّقةٍ لا تتجاوز 39% من الضفّة الغربيّة (مناطق "أ" و-"ب"). تزداد أعدادنا كلّ عام، فيما تتقلّص تباعاً المساحةُ المُتاحة للسكن والحياة بفعل الاستيطان والسيطرة الإسرائيليّة. ترتّب على هذا الازدياد السكّانيّ زيادةٌ في حاجيّات الناس الحياتيّة وأهمّها التنقّل من وإلى مواقع عملها ودراستها وأشغالها.
أمام هذه الحاجة الماسّة، تضخّم عدد السيّارات الخاصّة التي يمتلكها الناس في الضفّة الغربيّة. عام 2018، سُجّلت 95.6 مركبة لكل 1,000 نسمة في الضّفة. للمقارنة، فقد زادت هذه النسبة بأكثر من ضعف خلال 8 أعوام، إذ سُجّلت 42 مركبة فقط لكل 1,000 نسمة عام 2010.
حتّى نهاية عام 2018، بلغ عدد المركبات المسجّلة للمرّة الأولى (الجديدة) في الضفّة الغربيّة 31,731 مركبة، بمعدّل 2,644 مركبة جديدة شهريّاً. أما إجمالي المركبات المُرخّصة في الضفّة فوصل حتّى نهاية العام ذاته 254,497 مركبة؛ 83% منها كانت سيّارات خاصّة. ويتّضح هذا التضّخم في أعداد المركبات، إذا ما قارنّاه بعام 2004 مثلاً، حيث بلغ عدد المركبات المرخّصة وقتها في قطاع غزة والضفة الغربيّة معاً 122,814 مركبة فقط.
محرّك الأزمة
تعود بدايات الأزمة إلى التسهيلات الإسرائيليّة على استيراد السيّارات من عام 2014، ومنها السماح باستيراد سيّارات كانت مُستعملة في "إسرائيل"، إذ تدفّقت السيّارات من بعدها إلى الضفّة الغربيّة بشكل كبير. مثلاً، شكّلت السيّارات المستوردة عام 2018 ما نسبته 9% فقط من كلّ المركبات الموجودة في الضفّة عموماً.
في مقابل ذلك، كانت البنوك، بإيعاز من حكومة سلام فيّاض، قد هيّأت الظروف المناسبة لاستيراد غير مضبوط: عملت على إغراق الناس بالقروض، ووضعت سياساتٍ بنكيّة مُتساهلة جداً لقروض شراء السيّارات. لم يؤدِّ ذلك إلا لتضخّم الديون والشراء بأموال غير موجودة حقيقةً في الضفّة.
لم تعد الناس بحاجة إلى أن تمتلك ثمن السيّارة حتّى تتمكن من شرائها، ويكفي أن تُسدِّدَ أقساطها في كلّ شهر للبنك في دفعاتٍ قد تصل إلى 7 سنوات. وهكذا، كانت 22% من المركبات المُسجّلة لأول مرة عام 2018، مرهونةً لصالح البنك، وكانت في معظمها سيارات حديثة الصنع (2015 فصاعداً). ومع نهاية عام 2013، بلغت قيمة قروض تمويل السيارات أكثر من 130 مليون دولار، في حين بلغت قيمتها لعام 2008 مثلاً ما يقارب 40 مليون دولار فقط. 1"قبل الأزمة بقليل، سياسات إغراق الضفة الغربية بالديون"، ناهد سمارة وإياد الرياحي. 2014. مركز دراسات التنمية - جامعة بيرزيت.
خلق ذلك سوقاً مُربحةً لتجارة السيّارات. حتّى نهاية عام 2018، تواجد في سوق الضفّة 572 معرضاً لبيع المركبات، و28 وكيلاً معتمداً. سعت جميعُها إلى انتشار أوسع للسيّارات التي تُتاجر بها من خلال تقديم تسهيلات أكثر، وكان لذلك الأثر الأهم في اكتساح السيّارات ذي التصنيع الكوريّ شوارع الضفّة، إذ شكّلت 37% من السيّارات المسجّلة لأوّل مرة خلال عام 2018، وذلك نظراً لانخفاض أسعارها وتوفير الشركات ظروف تقسيطٍ مريحة.
عمليّاً يضع الفرد أمواله في البنك، ثم يعودُ البنك لإقراضها له في عمليّة تعتمد على المديونيّة من أجل الاستثمار، كما يشرح ذلك الاقتصادي علي القادري. زاد هذا الوضع من ارتهان الناس وارتباطها بسياسات تقيّد الحياة، كما تقيّد العمل السياسيّ. كما سيجعلهم أقلَّ قدرةٍ على احتمال هزّات سياسيّة قادمة، وهو أمرٌ مفروغٌ منه في بلد كفلسطين. استفادت "إسرائيل" من هذا الوضع، كما السلطة، فدغدغة المشاعر الاقتصاديّة تُسكِتُ الأسئلة السياسيّة، لأنّ البنك- بكل بساطة- ينتظر دفعاتٍ ماليّةً كثيرة في نهاية الشهر؛ منها دفعة السيّارة.
اقرأ/ي المزيد: "الإغراق في الديون.. سياسات الإقراض في الضفة".
من حقّ الناس أن تطمح لحياة أفضل، وأن تقتنص أي فرصة مُتاحة للتخفيف من مصاعب الحياة، وأن تقترض لتتنقّل بأريحيّة، فالوضع الذي خلقته السلطة بإنشاء اقتصادٍ تعتمد سياسته على المديونية والإقراض هو الذي يُلام، وليس سلوك الناس الاجتماعي لإنقاذ نفسها. لم توفّر السلطة للناس مواصلاتٍ مريحةً ورخيصةً، ولم توفّر كذلك الحاجات الرئيسة للأسر: لا مكان عمل قريب، لا مدرسة قريبة، ولا سوق قريب، حتّى يصبح التنقل سهلاً ومُمكناً. كلّ ذلك دفع الناس للتوجه للبنك ليس لشراء سيّارة، بل سيّارتين أو ثلاث.
من يربح حين نشتري سيّارة؟
تذهب الناس بكثرة إلى خيار شراء السيّارة بسبب مساوئ قطاع مواصلات وأسعاره المرتفعة. إذ تضخّ السلطة الفلسطينيّة دعمها للقطاع الخاص لا العام، وتقدّم له تسهيلات كبيرة كما في كلّ القطاعات: مُقابل ما يقارب رُبع مليون سيّارة في الضفّة الغربيّة عام 2018، مثلاً، لا تزيد حافلات النقل العام عن 1164 حافلة فقط، ولا تزيد سيّارات "السرفيس" عن 5,468 سيّارة.
تستفيد السلطة من شراء الناس للسيّارات واستيرادها، إذ يَدرّ لها ذلك أرباحاً بقيمة أكثر من 277 مليون شيكل سنويّاً، وذلك من رسوم الترخيص ولوحات السيّارات والصيانة، ورسوم كثيرة قد تصل إلى 100% من سعر السيّارة بعد أن يدفع المشتري للسلطة أو "إسرائيل" مختلف الضرائب، من ضريبة الاستيراد، وضريبة الشراء، وضريبة القيمة المضافة على السيّارات.
كذلك تدرّ السيّارات أرباحاً ماديّة كبيرة على "إسرائيل"، إذ يستفيد الاحتلال من الضرائب المتعلّقة بالاستيراد، ويفرض بموجب الاتفاقيّات الاقتصاديّة بين السلطة و"إسرائيل" أسعار السيّارات بحيث لا تنخفض عن أسعارها في الأراضي المحتلّة عام 1948 أو في القدس. كذلك لا ننسى أن "إسرائيل" تربح من بيع المحروقات للسلطة بقيمة 650 مليون شيكل شهرياً!2مُقابلة اشتيه مع صحيفة هآرتس الإسرائيليّة. تحرير: حيدر، رندة. "مختارات من الصحف العبريّة". مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 3246، 21-1-2020.
أما على صعيد البنى التحتيّة، تُتـَاح للسيارات طرقٌ تقرّر طولها "إسرائيل"، فلم تتجاوز الطرق التي تشرف عليها السلطة حتّى نهاية عام 2018، الـ 3,400 كم. وتعتمد السلطة بشكلٍ كبيرٍ في مشاريع البنيّة التحتيّة، على التمويل الخارجيّ. يعطينا الاتحاد الأوروبي 9.5 مليون يورو لتنفيذ مشاريع بنية تحتيّة في المناطق المُصنّفة "ج"، ومشاريع كذلك من اليو أس إيد لقطاع الطرق وصلت إلى 90 مليون دولار من عام 2013-2018، واتفاق مع الصين بمبلغ قيمته 8.3 مليون دولار، لدعم وبناء الطرق التي تربط مُحافظات الضفّة بمدينة رام الله.
إلا أنّ الأموال أعلاه، لا تتناسب مع وجود بنية تحتيّة للطرق مُترهّلة تملؤها الشقوق والحفر ومشاكل في تصريف المياه. تضع الهيئة المحليّة في مشاريعها على شارع بطول 2 كيلو متر، ما يقارب الـ200 ألف دولار، فلا يصمد الشارع أكثر من سنة واحدة غالباً. فيما يبلغ عمر الشارع المطابق للمواصفات السليمة 20 عاماً، وهذه غالباً مشاريع تكون مموّلة من الخارج، تصرف على الكيلومتر الواحد ما قيمته مليون دولار. زد على ذلك أنّ الشوارع تحتاج إلى أكثر من 100 مليون شيكل سنوياً لصيانة الشوارع بشكل دوري، وذلك بعيد كل البعد عن التحقّق.
ماذا بقيَ للناس؟
في ورشةٍ نظّمتها وزارةُ النقل والمواصلات الفلسطينيّة بداية العام الجديد، بعنوان "نحو محافظة رام الله والبيرة نموذجاً مروريّاً حضاريّاً"، وصف رئيس الوزراء محمد اشتيّه الأزمة المروريّة في رام الله والبيرة -وهي أزمة في جميع محافظات الضفّة- بـ "الحالة المروريّة". وقال إنّها حالة "استثنائيّة" عزاها إلى تراكم المؤسسات "المؤقت" في رام الله حتّى نقلها إلى عاصمتنا القدس. رغم أنّه حاصل على درجة الدكتوراة في الاقتصاد، إلا أن اشتيّه يلتصق بتفسيرات شعبويّة سطحيّة، تتناقض مع المعطيات التي تقدّمها لنا الأرقام ونعيشها يوميّاً.
الحركة التجاريّة الضخمة للسيّارات، والتسهيلات التي أتاحتها "إسرائيل" على الاستيراد، وارتفاع أسعار الجمارك والنقل والبنزين، والاتفاقيّات الاقتصاديّة التي خنقتنا. هذا الوضع، يعني ثلاثة أشياء: جدوى اقتصاديّة عاليّة لـ "إسرائيل" وزيادة في ارتهاننا لها، استفادة السلطة الفلسطينيّة ماليّاً والسعي الحثيث في مشروعها مع "إسرائيل"، وزيادة المتنفذين من نفوذهم ورؤوس الأموال من أموالهم. أما عامّة الناس فليس لهم إلا إيمانهم وصمودهم... وجنطات السيّارة.
*اعتمدت هذه المادة في أرقامها على مصدرين أساسيين:
1- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إحصاءات سنويّة لعام 2018.
2- التقرير الإحصائي السنويّ، وزارة النقل والمواصلات الفلسطينية، 2018.