يُشير آخر تعدادٍ زراعيٍّ أُجري في فلسطين على يد الجهاز المركزيّ للإحصاء عام 2021، إلى أنَّ عدد الخراف المتوفرة في الضفّة الغربيّة والقدس هو 770 ألف رأس، منها حوالي النصف من النوع البلديّ أو المسمّى (عواسي)، فيما يبلغ عدد الماعز 240 ألف رأس فقط، 88% منها ماعز بلديّ.
لا تتوفر إحصائيات أحدث، أو أقدم لغرض المقارنة الدقيقة، لكن ما يعرفه العاملون في قطاع تربية المواشي، أنَّ أعدادها بدأت في السنوات الأخيرة بالتراجع، وبشكلٍ خاصٍّ خلال آخر 3 سنوات، وذلك لجملةٍ من الأسباب المُرَكّبة، من تصاعد التنكيل الإسرائيليّ وتوسع الاستيطان، وصولاً إلى تقصير الحكومة الفلسطينيّة وعدم دعمها لهذا القطاع الحيويّ.
يُربّي الأغنام ولا يجد ما يُضحي به!
يُعتبر عبد الرحيم بشارات - أبو صقر (72 عاماً) من أعمدة رعاة الأغنام ومربِّي الماشية الصامدين في الأغوار الفلسطينيّة الشماليّة منذ عشرات السنين، لكنّه مع حلول عيد الأضحى قبل حوالي أسبوعين، لم يجد داخل الحظيرة التي يمكلها رأساً واحداً من بين 130 رأساً من الخراف يُربّيه حتى يصل لعمرٍ تنطبق عليه فيه المعايير الشرعيّة للأضحية.
والسبب أنّه مضطرٌ لبيع المواليد الجدد من الخراف بعد فطامها مباشرةً، حتى لا تكبر عنده ويتحمل تكاليف تربيتها المرتفعة وبالذات ما هو متعلق بأسعار الأعلاف. يقول: "يوم يوم في السوق الفلسطيني يُباع قطيع أو قطيعان من أمهات الخراف، وهناك نقص وتراجع في أعداد الأمهات".
اقرؤوا المزيد: "أين ترعى الماشية؟سؤال يحاصره الاستيطان"
من ناحيةٍ ذات صلة، يستذكر بشارات ما حصل معه عام 2013، إذ كان لديه حوالي 500 رأس من الخراف البلديّة، لكنها انخفضت خلال عامٍ واحدٍ فقط إلى 220 رأس، بسبب تفشي مرض "الكولي".
يروي بشارات أنّ وزارة الزراعة الفلسطينيّة أبلغته حينها باسم المرض الذي أدّى لنفوق القطيع بعد إجراء فحوص مخبريّة، وأنّه آنذاك طلب منهم علاجاً لا معرفة الاسم فقط، فردّوا عليه بأنه لا يوجد له علاج.
لكنه تفاجئ لاحقاً بأنّ لهذا المرض علاج موجود الأردن، ويُشترى ويُهرّب إلى فلسطين بسعر 9 دنانير أردنيّة، والعلبة منه تكفي لعلاج 125 رأساً. يقول بشارات: "الحكومة الفلسطينية بتقولي مالوش علاج، وما همهم موت القطيع تبعي، ومثلي مثايل".
ويتهم أبو صقر الجهات المسؤولة بالتهميش في توفير الخدمات البيطريّة له ولغيره من مربّي المواشي، ويقول إنّ هناك قلة في عدد أطباء البيطرة الحكوميين، وغياب للأدوية الضرورية لعلاج الأمراض المنتشرة.
الاستيطان التهم أراضي الرعي
ولا تنتهي الأسباب هنا، فبشارات لا يستطيع توسيع بركسات وحظائر الأغنام لديه حيث يعيش في تجمع "الحديدية" في مناطق (ج)، إذ في كلّ مرة يبني بناءً جديداً تسارع جرافات الاحتلال الإسرائيلي لهدمه، بحجة عدم الترخيص. يضطر بعدها لتربية ما لديه من خراف في مساحة ضيّقة، وهو ما انعكس على سرعة تفشي الأمراض بينها ونفوق أعدادٍ كبيرة منها سنويّاً.
كذلك تمنعه سلطات الاحتلال من استخدام الجرافة في إزالة روث المواشي، من أجل القيام بعمليات التعقيم عند تفشي الأمراض، وهو ما يضاعف من أزمته، إذ يفقد بسبب هذه الأسباب مجتمعةً ما يتراوح بين 50-70% من الخراف المواليد سنويّاً.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ سياسات الاحتلال الإسرائيلي بجيشه ومستوطنيه في استهداف رعاة الأغنام الفلسطينيّين في المناطق المصنّفة "ج"، وبشكلٍ خاصّ في مسافر يطا والأغوار الفلسطينيّة، أدّت إلى هجرة رعاة الأغنام هذا القطاع، وعزوفهم عن تربية المواشي، ونفوق كمياتٍ كبيرةٍ منها.
اقرؤوا المزيد: "قصة مصوّرة: وجوه من مسافر يطا".
يقول "أبو صقر" إنّ المراعي تقلّصت في الأغوار بسبب انتشار البؤر الاستيطانيّة، واعتداءات المستوطنين، الذين يُسيّجون - بحماية الجيش - مساحاتٍ واسعةً من الأراضي الرعويّة ويغلقونها.
وفي بعض المناطق فقط يكفيهم وضع حجرين فوق بعضها لحجز مساحات كبيرة لهم ومنع الرعاة من تجاوزها، وإذا اقترب راعي الأغنام منها يحضر الجيش والشرطة لحماية المستوطنين، بينما لا يتلقى الفلسطينيّ أي مستجيبٍ لندائه، والكثير منهم تعرّضوا للضرب والاعتقال ونفقت أغنامهم. "صرنا نختصر، وبغض النظر عن غلاء الأعلاف، لا نخرج للرعي حتى لا تهان كرامتنا" هذا ما قاله بحسر أبو صقر.
منذ العام 1967، دمّر الاحتلال الإسرائيلي حوالي 36 قريةً وخربةً فلسطينيّة في الأغوار، بحسب الناشط الحقوقي عارف دراغمة، وهو ما أدّى إلى تناقص في أعداد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأغوار ويعملون في الزراعة والرعي، مقابل زيادة في التوسع الاستيطاني وأعداد المستوطنين.
وللاستيطان هناك أشكال مختلفة، من إحضار أبقار وأغنام ترعى على حساب أراضي الفلسطينيين، وهو ما يعرف بالاستيطان الرعوي، عدا عن الاستيطان السياحي من خلال احتلال ينابيع المياه في مناطق عديدة، وإغلاق مساحات شاسعة على أنها محميات طبيعية، وبالتالي حرمان رعاة الأغنام من الوصول إليها وتحرير مخالفات بحقّهم في حال فعلوا ذلك أو اعتقالهم. كما أن جيش الاحتلال أغلق آلاف الدونمات والأراضي تحت بند أنها مناطق عسكرية مغلقة، ثم فجأة تُعطى للمستوطنين لبناء المستوطنات عليها.
اقرؤوا المزيد: "مناطق ج.. خسائر مركبة للفلسطينيين".
ويضيف دراغمة سبباً آخر يضرّ بقطاع المواشي، وهو التدريبات العسكريّة التي يجريها جيش الاحتلال بالقرب من مساكن وتجمعات الفلسطينيين في الأغوار، والتي أحياناً يُطرد خلالها الفلسطينيون من مساكنهم إلى حين انتهاء التدريب. وقد تسبّبت هذه التدريبات في أكثر من مرة في موت الخراف هلعاً أو التأثير عليها بقلّة إدرار الحليب.
قوانين تبقى حبراً على ورق
وفي حديثٍ مع رئيس اتحاد المزارعين الفلسطينيّين عبّاس ملحم يُبيّن أنّ التراجع في أعداد الخراف البلديّة جرى في السنوات الثلاث الأخيرة، لعدة أسباب، أولها تداعيات تفشي فيروس "كورونا" على تكاليف الشحن والتجارة العالميّة، ومن ثمّ الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والسببان معاً أدّيا إلى ارتفاع أسعار الأعلاف، إذ كان طن العلف في العام 2019 حوالي 1300 شيكل، ثمّ ارتفع إلى 2300 شيكل، قبل أن يستقر اليوم على 2000 شيكل.
ويوضّح ملحم أنّه بالرغم من الحاجة الماسة لدعم صمود المزارعين إلا أنّ الحكومة الفلسطينيّة لا تقدّم ما يكفي. يضرب على ذلك مثالاً بالقول إنّها لم تُقِر حتى اليوم قانون استرداد ضريبة القيمة المضافة المدفوعة على الأعلاف، والتي تبلغ 16%، بمعنى أنَّ طن العلف في حال أُعفي من ضريبة القيمة المضافة سيصل للمزارع بسعر حوالي 1680 شيكلاً.
وقال ملحم إنّهم عملوا على نصّ القانون عبر لجنة في عضويتها وزارتي المالية والزراعة، وتوصلوا إلى تفاهمٍ في نهاية عام 2022، ولكن ما زال القانون عالقاً عند وزارة المالية، ولم يُقر من مجلس الوزراء.
يقول ملحم: "طلبنا أمرين من الحكومة لتدعيم صمود المزارعين في مناطق "ج"، وهي إما دعم المزارعين بالأعلاف، أو على الأقل المصادقة على الاسترداد الضريبي حتى نخفف فاتورة الأعلاف، ولكن منذ 6 شهور لم تصادق وزارة المالية عليه وهذا أمر غير معقول".
كذلك لا تقدّم الحكومة الخدمات البيطرية اللازمة للمزارعين، وبحسب ملحم فإنَّ مرض الحمى القلاعية أدّى لنفوق حوالي 4 آلاف رأس من الأمهات في آخر موجة له قبل حوالي 8 شهور، وطُعم الحمى القلاعية هو من مسؤولية الحكومة إذ لا يتوفر بالأسواق، ومع ذلك لم توفّره لعدة سنوات مما أدّى إلى نفوق أعدادٍ كبيرةٍ من الأمهات.
بل أكثر من ذلك، فرغم وجود قرارٍ رسميّ بتعويض مربّي الأغنام بنسبة 50%، إلا أن تلك التعويضات لم تُصرف حتى اللحظة. يُعلّق ملحم بالقول إنّ المطلوب من الحكومة تعويض المزارعين بسرعة، فالمزارع لا يستطيع انتظار سنوات حتى يحصلوا على التعويض، لهذا طلبوا من الحكومة تشكيل صندوق طوارئ لدعم المزارع على الخسائر بشكل فوري دون الاضطرار للانتظار.