6 سبتمبر 2024

الجوع والخيمة

<strong>الجوع والخيمة</strong>

اتصل بي أحد الأصدقاء الذين اضطروا للنزوح من شمال قطاع غزّة إلى جنوبه، إذ أجبره جنود الاحتلال مع عائلته وأطفاله على الخروج مشياً على الأقدام من منطقة مستشفى الشفاء عبر شارع الرشيد. لم نتكلم منذ أشهر بعد انقطاع الاتصال به، كانت نصف المكالمة تعزية متبادلة في أصدقاء وأقارب فقدناهم، البعض لم أكن أعلم أنهم استشهدوا أصلاً، والبعض الآخر لم يعرف كلانا ما حل بهم في ظل استمرار الحرب لما يزيد عن 11 شهراً.

النصف الثاني من المكالمة كان مع ابنته اللطيفة الذكية فرح، التي بدأت حديثها بالتعبير عن حر الخيمة "يا الله يا عمو عاصم قديش الخيمة حر، ما كانت هيك زمان" لم أفهم ما قصدته ب"زمان"، لكني آثرت الصمت والاستماع لها، استرسلت توضح معنى الخيمة لأنني في ظنها لا يمكن أن أفهم معنى الخيمة ما لم أعش فيها، تقول مرح "في الخيمة أنت تعيش مع الحشرات، يجب أن تصبحوا أصدقاء إذا أردت العيش في الخيمة، أيضا يجب أن يكون صوتك منخفضاً عند الحديث، لأن جدار الخيمة القماشي ملاصق لخيمة الجيران، إلا لو بدك تحكي نكتة علّي صوتك عشان يضحكوا".

سألتها: "طيب ما في اشي حلو في الخيمة؟"، ردت: "زمان قبل الحرب كانت خيمة البحر حلوة في الطشات (الرحلات)، لكن هاي خيمة النزوح ولا اشي فيها حلو"، ثم أكملت: "بابا بقول يا ريتنا ما طلعنا من الشمال، بس أنا خايفة من الشمال عشان في قصف كتير وفش أكل". في تلك اللحظة دارت ببالي حلقة المعاناة الغزية المستمرة، دائرة المعاناة بين الشمال والجنوب، إذ لم يستثنِ الاحتلال أحداً، ففي الجنوب خيمة ونزوح قسري في مساحة ضيقة جدّاً، وفي الشمال مجاعة وحصار صعب وقاسٍ أيضاً، وفي الجهتين قتل وخراب وتدمير.

لطالما حدّث أجدادنا عن الخيمة كواحدة من رموز المعاناة التي عاشوها إبان التهجير القسري عام 48، واليوم بعد ستة وسبعين عاماً تستمر المعاناة وتبقى الخيمة علامة الألم الممتد الملون بشعارات الدول المانحة، والمبطّن بعذابات النساء والرجال والأطفال، خيم تختلف في أحجامها وأسعارها ومصادرها لكنها جميعها تجمع في أحشائها آلاماً عميقة تطعن النفس البشرية وتمزّق الروح وتفتّت الأفئدة وتُذهب الألباب.

وبينما تتعدد عذابات الغزيين يطلُّ الجوع برأسه قبيحاً في مجاعةٍ جعلت رغيف الخبز حلم الأطفال لأسابيع طويلة، وأضحى الجوع جزءاً من المعاناة اليومية. والجوع ليس مجرد نقصٍ في الطعام، بل هو شعورٌ عميق يرتبط بالعجز وفقدان السيطرة على الحياة. الجوع يجعل الإنسان يشعر بالضعف، وهو ما يعمّق مشاعر الحزن الخفي العميق. الأطفال الذين يكبرون دون غذاء كاف، والأمهات اللواتي يعجزن عن إطعام أطفالهن، والرجال الذين يشعرون بالعجز عن توفير الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم، كل هؤلاء يعيشون في دوامة من الألم النفسي والجسدي اللامتناهي.

في حوارٍ مع أهلي حول طعام الحرب وبدائله في المجاعة، قالت أختي: "أرجوكم خلونا ما نسمّي هاي الأكلات بنفس أسماء أكلاتنا القديمة، عشان نحافظ على ذاكرتنا على الأقل، عشان نضل متذكرين انو أكلنا طيب وأن هذا الطعام مجرد مرحلة عابرة لا تحتاج منا لتسمية الطعام فيها بأي شيء سوى أكل الحرب".

المجاعة لا يمكن وصفها أو شرحها، فبعد أشهر من انقطاع الطحين الذي يمثّل المكون الأساسي من طعام الغزيين حتى طحن الناس أعلاف الطيور والحيوانات، أخذت المجاعة شكلاً آخر، الذي يدير الأمر خبيث بالتأكيد، فالصور توحي بأن هناك طعام كثير وكافٍ، لكن الحقيقة أن الموجود بعض أصناف تُعدُّ على الأصابع، غير صحيّة وغير متنوعة، خالية من العناصر الغذائية، ليس فيها خضار أو فواكه أو لحوم أو دواجن أو بيض وإنما معلبات وطحين في الغالب.

النساء الحوامل والمواليد والرضع والأطفال الصغار وكبار السن والمرضى والجرحى الذين يحتاجون لطعامٍ خاصّ  لا يجدون ذلك متاحاً، مما يضطرهم لتناول طعام يسبّب لهم الأمراض، حرفياً لا مجازاً، هذا بالإضافة للآثار طويلة المدى التي قد تصيب الأطفال الذين لم يتناولوا طعاماً صحيّاً وكافياً لفترات طويلة في الأشهر الأولى من حياتهم.

اجتمعت على الغزيين كل عذابات الأرض في هذه الحرب، في الشمال والجنوب، لكني يجب أن أعود لنهاية المكالمة مع ابنة صديقي الحاذقة، عندما قالت لي: "بكرا بس تخلص الحرب بدنا تعزمونا على أكل زاكي في خيمتنا". هكذا ببساطة جمعت الطفلة العذابين في أمر واحد يبدو لطيفاً، ولعلها لم تقصد ذلك إلا أن رسالتها المحمّلة بالأمل المؤلم هي ما يجمع الغزيين الآن ويدعوهم للصمود في مواجهة القتل والنزوح والمجاعة وكل أصناف العذاب التي تحاصرهم.