يتجدّد كلُّ فترة الحديثُ عن الانتخابات الفلسطينيّة بوصفها مخرجاً من "المأزق"، دون الحديث بشكلٍ جديٍّ عن طبيعة المأزق الذي نريد الخروج منه. هل الانتخابات حلّ للـ"انقسام" أم إعادة إنتاج له؟ هل هي طريقة لمواجهة الاحتلال أم تثبيتٌ للمعادلة التي وضعها الاحتلال؟
في سبتمبر/ أيلول الماضي أعلن الرئيس محمود عباس من خارج فلسطين وفي خطابه أمام الجمعية العامّة للأمم المتحدة عن نيّته الدعوة لإجراء "انتخابات عامّة" في الضّفة والقدس والقطاع. هذه المرة بدت وكأن الأمور أكثر جديّة، ولكن بغض النظر عن جديّتها فإنّها انتخابات مرهونة بسماح "إسرائيل" بإجرائها في القدس، مما يُعطي وبشكلٍ مهينٍ فكرةً عن حدود جديّتنا وإرادتنا الوطنيّة، إذ يبدو من هذا "المنطق"، أنّه من الممكن أن تُجمِع كلُّ الفصائل على شيءٍ ولا يحدث، ببساطة لأنّ "إسرائيل" لا تريد ذلك. ومن الممكن أن تسمح "إسرائيل" بإجراء هذه الانتخابات، ثمّ لا تسمح بنتائجها كما سبق وحدث في انتخابات عام 2006، وتكون فرصة أمنيّة لها لظهور كوارد التنظيمات بأجمعها إلى سطح العلن، فيسهل قطفها واعتقالها في الضّفة الغربيّة والقدس.
لذلك فإنّ من يعتقدون أنّ الانتخابات سَتُرَتِب "البيت الداخليّ الفلسطينيّ" يتغاضون عن فكرة أنّ "إسرائيل" تحتل البيت وتفرض على ناس أن يقيموا في غرفةٍ وعلى آخرين أن يُقيموا في غرفةٍ أخرى، وأنّها هي من يُنظّم كلّ هذا التواصل وتجعله تحت هيمنتها. إننا لم نعد نملك بيتاً وهذه الحقيقة التي نتحاشى الحديث عنها.
يجب أن تكون هناك سلطة تجري عليها الانتخابات، حتى يمكننا أن نعتبر أنّ للانتخابات معنى ما. وليس الأمر في أنّه لا يمكن إجراء انتخابات تحت الاحتلال فقط، بل أيضاً في أنّه لم تتبقَ سلطةٌ تحت الاحتلال يمكن تداولها. والمكيدة تكمن في أن أي مُنتخبٍ قادمٍ مُطالبٌ بالتخلي عن المزيد من السّيادة كي يضمنَ عدم تجويع ناخبيه، وبالتالي يصبح ما نتداول عليه ليس هو السّلطة بل التداول على التخلي عنها، والتحدي أمام الأحزاب الفلسطينيّة باستمرار هو تقديم شخصيات أقل تسييساً وأكثر تكنوقراطاً، تماهياً مع هذا المطلب ومع بنية السّلطة الفلسطينيّة التي استحالت إلى بلديةٍ كبيرة.
اقرأ/ي المزيد: "سيرة مختصرة لسلطة لم تعدّ لها أي حاجة".
ليست الانتخابات نشاطاً محليّاً لإنعاش الأدرينالين السياسيّ لدى النّاس وإشغالهم به. من شأن الانتخابات -إن جرت- أن تُشعِر النّاس بنوعٍ من النشوة بالسيادة الوهميّة، وهذا النوع من "المخدرات" هو ما اتقنَتْ السّلطةُ تصنيعَه، من استخدامٍ للبساط الأحمر، والمواكب التي تُحرس على طول طرق سيرها، وحتى تسميات مثل "رئيس دولة"، و"رئيس وزراء"، وصولاً إلى "ملاك السّلام". كلّها "مُخدرات" تُغرِقُنا بالمجاز، وتستخدمه كتعويضٍ عن الحقائق التي تصنعها "إسرائيل" على الأرض يومياً. يزيدُ الكلام والشّعارات عن السّيادة بشكلٍ طرديّ كلما خسرنا شيئاً منها على الأرض، والجهاز منقوص السّيادة في 2006 والمسمّى "سلطة" هو في 2020 معدومٌ منها كليّاً، إذ كان على مدار هذه السّنوات يفقد تدريجياً ما يملك من "نقاط قوّة".
إذا كان هذا هو الحال، فما هي الحسابات التي انطلقت منها الأطرافُ الفلسطينيّة في تعليق كلّ هذه الأماني على الصندوق؟
حسابات "حماس" و"فتح"
يواجه عباس ضغوطاتٍ أوروبيّة لإجراء الانتخابات، وتنبع حاجة الأوروبيّين لهذه الخطوة من إدراكهم لموت حلّ الدولتين على الأرض، وهو آخر أفكارهم المتصلة في المنطقة، وبالتالي الرغبة في إنعاش حضورهم السياسيّ بعد استفراد الولايات المتحدة بالمشهد. وهي رغبة في العودة من الباب الرمزيّ للشرعيات، لأنّ الوجود القانونيّ منقوص الشرعيّة لمؤسستي التشريعي والرئاسة بات يسبِّبُ للأوروبيّين إحراجاً في المضي قدماً في دعم السّلطة ومشروع بناء الدولة، خاصّة أنّ الاتحاد الأوروبيّ هو أحد أكبر المانحين في ميزانية السّلطة. وهذا يعني أنّ الانتخابات تجري داخل اللعبة القديمة، التي رفض الاتحاد الأوروبيّ ذاته نتائجها سابقاً، وبالتالي هي ليست سوى محاولة لإلباس دمية قشٍ بدلةً بربطة عنق.
في ظلّ هذه الضغوطات يبدو أن عباس كان يعوّل على رفض "حماس" للانتخابات، حتى يُحرِجَها وينطلق في تجديد "شرعيته" في الضّفة، وفي فصل غزة بشكلٍ نهائيٍّ بوصفها إقليماً مُتَمرِدَاً على "الشرعية". لكنّ عباس تفاجئ بالحماسة المُفرِطة التي أبدتها "حماس" للانتخابات، خاصّة أنّ ليس من مصلحته إجراؤها في ظلّ هذه الموافقة، لسببين: الأول أنّه غالباً سيخسر غزّة لصالح محمد دحلان الآخذ نفوذه بالتنامي هناك، والثاني: أن "حماس" ستُنَافِسُه بقوّة في الضّفة بعد غيابها الطويل عنها.
أما "حماس"، فقد رحبت بالانتخابات بشكلٍ مبالغٍ فيه، حتى أنّها تنازلت عن معظم شروطها السابقة، كالشرط المتعلق بالتزامن بين عقد الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة، وشرط قوائم الدوائر1فازت قائمة التغيير والإصلاح المحسوبة على حركة "حماس" بـ (76) مقعداً في المجلس التشريعي الفلسطيني لعام 2006، وبذلك شكّلوا ما نسبته 57.6% من أعضاء المجلس، أما على مستوى الدوائر الانتخابية، فقد تمكنت قائمة التغيير والإصلاح من الفوز بـ (46) مقعدا مشكلين ما نسبته 69.7% من مقاعد الدوائر، وعلى مستوى القوائم الانتخابية، فقد فازت هذه القائمة بـ (30) مقعدا ويشكلون ما نسبته 45.4% من المقاعد المخصصة للقوائم الانتخابية. وهو ما يجعل "حماس" تفضل انتخابات الدوائر، حيث تعوّل على شعبية شخصياتها المحليّة.، وحلّ المحكمة الدستورية العليا، والاتفاق على برنامج وطنيّ، وانتخابات المجلس الوطنيّ. كلّ تلك الشروط تنازلت عنها "حماس"، بل إنّها لم تجعل شرعنةَ الموظفين الذين عيّـنـتْهم وصرفَ رواتبهم خطّاً أحمر، وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع رفع العقوبات التي فرضتها السّلطة على قطاع غزّة. كلّ ذلك جرى التنازل عنه لصالح إجراء الانتخابات.
يبدو أن هذا التلّهف على إجراء الانتخابات يعبّر عن حجم الأزمة التي تُعانيها الحركة، إذ تتضاعف باستمرار تكلفة حكمها وإدارتها للقطاع بشكلٍ منفردٍ، وتضعها في مآزق وضغوطات متلاحقة. وعليه فإنّ رغبة "حماس" بالنزول عن شجرة الاستفراد بالحكم من خلال الانتخابات تبدو أفضل من نزولها عنها من خلال ضغط الشّارع المُثقَل بيوميات الحصار، خاصةً أنّ تخفيف الحصار وصولاً إلى رفعه أصبح الاستراتيجية الوحيدة التي تملكها الحركة.
وخلال الـ13 عاماً راكمت "حماس" في غزّة من حقائق القوّة ما مكّنها من احتكار قرار الحرب والسِّلم والتفرد بشبكة اتصالاتها وحماية الأراضي التابعة للمقاومة وسلاحها، ويبدو أنها تعوّل على إمكانية المحافظة على ذلك بحدٍّ معقولٍ من التنسيق مع أيّ حكومة منتخبة قادمة يكون لها فيها تمثيل، سواء من خلال شخصيات وطنيّة محسوبة عليها أو مقربة منها. وهو ما يعني بالمحصلة أنها تريد الاستفادة من ميّزات حكم المقاومة للقطاع دون أعبائه.
اقرأ/ي المزيد: "جولة غزّة الأخيرة.. تصعيد على هيئة إسفين".
ليس من المرجح أن تسمح "إسرائيل" لـ"حماس" بالنزول عن شجرة الحكم في غزّة، ولا بصعودها في الضّفة. تريد "إسرائيل" بقاء الوضع القائم كما هو وتأبيده حتى يخرّ وحده على ركبتِهِ من الإنهاك، وهذه الاستراتيجية التي ترى "إسرائيل" أنّها كفيلةٌ بتغيير جوهر فكرة المقاومة، من خلال تحميلها أعباء الحكم وليس تخففها منه.
ما الذي تعنيه الانتخابات؟
تُعْرَضُ الانتخابات علينا بعد هزيمةٍ ما، وليس تعبيراً عن مُنجزٍ ما. أول مرةً، عام 1996، كانت الانتخاباتُ وسيلةً لتحديد من هم داخل اللعبة ومن هم خارجها2في هذه الانتخابات تم تحديد من هو الفلسطيني الذي يحقّ له البت في مصير الشعب الفلسطيني، فقد أخرج منها اللاجئون الفلسطينيون وفلسطينيو الـ48.، ومن يَعتقِـدُ أنّه آن الأوانُ لأن نُقيمَ سلطة حكم ذاتيّ تحت الاحتلال، ومن يعتقد أنّنا ما زلنا حركة تحرر. كان هذا هو الانقسام الأوليّ الذي علينا أن نُواجِهَه قبل أن نُشَوِّشَ على النّاس في ترديد شعارات فارغة حول إنهاء الانقسام، وهو انقسامٌ وَضَعَ وِفقَهُ أسيادُ الحكم الذاتيّ كلَّ من عارضهم في السّجون في تلك الفترة.
بعد أربع سنوات من تلك الانتخابات عبّر النّاسُ عن رأيهم في قدرة برنامجها على تحسين حياتهم ومواكبة آمالهم بالتخلص من الاحتلال من خلال الانتفاضة الثانية عام 2000، والتي كانت بمثابة حدثٍ تصويتيٍّ مهيب لا يقارن به شيءٌ. إذ كانت الانتفاضة الثانيّة حدثاً يُعَبِّر بكثافته عن عجز المسار السلطويّ في تحقيق تطلعات الناس، وحملت مُمكِناتٍ أخرى لسير التاريخ. لكننا لم نجرؤ على تخيل كيفية استثمار هذا الحدث المهيب سوى بالإرث الذي خطّته لنا سلطةُ أوسلو، وبدلاً من التأسيس عليها لخلق حقائق جديدة جرت العودةُ إلى الحقائق القديمة التي نعرف محدوديتها. لم تتجه فصائلُنا بعد انتهاء الانتفاضة إلى العمل خارج إرث السّلطة أو في تقريرِ شكلٍ آخر للسياسة التي نريدها، بل جرى حشر كلّ منجزات الانتفاضة داخل ذات المسار الضيّق السابق، وبهذا لم تكن أوسلو محض اتفاقية بل شكلاً مخصوصاً ووحيداً من ممارسة السّياسة، وهذا ما كانت تعنيه انتخابات 2006 بالتحديد.
تحت أفق السّلطة ذاتها الذي قامت الانتفاضةُ على النقيض منه، وبأقلّ بكثير مما قدّم النّاسُ دماءهم باسمه، دخلنا انتخابات 2006. بدا كما لو كان الصندوق الانتخابيّ سيقطف ثمار الانتفاضة الثانية، بينما اتضح أنه قلّم ممكناتها وهذّبها، ومنع تطوّرها لأماكن أبعد في إيلام "إسرائيل" وتحقيق تطلعات الناس التحرريّة، وهو نفسه ما يعكّر صفو حياتهم اليوميّة.
لم تكن الانتخابات سبباً في الانقسام بل تعبيراً مُشَوَّشاً عنه، إذ جرت موضعة انقسامنا القديم بشكلٍ شوّش جوهره داخل أفق الانتخابات لتعريف الخلاف السياسيّ. ومعركتنا اليوم حول الوضوح، فالتناقض القائم على فكرة "هل نحن حكم ذاتيّ أم حركة تحرر" عليه أن يكتسب وضوحَه مجدداً، وبوابتُه لذلك ليست انتخابات أخرى تضع سؤال السّلطة والجغرافيا اللتين حدَّدتْـهُما لنا "إسرائيل" إطاراً ناظماً لِما نُرِيدُهُ بالفعل.
الانتخابات في 2020، إن حدثت، فإنّها ستكون كما المرات التي سبقت ليست وسيلةً لمعرفة إرادة النّاس بشكلٍ حرٍّ، بل في دفعهم مجدداً لاختيار الحلول التي جرى تجريبها وفشلت، فهم لا يصوتون حول سؤال من سيخلِّصهم من الاحتلال بل حول القادرعلى إدارة شأنهم تحت سلطته.
وحين تكون كيفية تصويتك خياراً بين رزق أبنائك أو مقاومة الاحتلال تكون الانتخابات مسألة لا علاقة لها بالتعبير عن إرادة الناس بل بإخضاعها. وقد لا ينجح هذا الإخضاع وتكون الانتخاباتُ فرصةً لتعبير الناس عن رفضه، ولكن تبقى هذه هي الحدود القصوى للانتخابات، استفتاء منقوص على نتائج غير مرجوة التحقق.