دخل فتى هادئ الطباع، بمشيته الواثقة، وفي بزة عسكرية متسخة، يعلوها غبار الميدان إلى أحد مكاتب حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، أواخر أيلول/ سبتمبر 2004. كان للتو عائدًا من الجبهة الشمالية حيث كان يناجز قوات الاحتلال الإسرائيلي في عملية أيام الغضب التي صمدت فيها المقاومة أمام هجوم إسرائيلي بري وجوي. جاءت الأوامر للفتى بالانسحاب، فانسحب ليُكلف بمهمة جديدة.
من خلف المكتب مدَّ الشاب الثلاثيني المكنى بأبي أنس يده بورقة وقال له: هذا بيان لكتائب القسام، ستقرأه في المؤتمر الصحفي بعد ثلاث ساعات في مسجد النور. مرر الفتى عينيه المدربتين على التنزّه في كتب الأدب واللغة على الورقة.
عاد صوت المسؤول: هل لديك سؤال أو استشكال؟
"أبدًا، البيان واضح". رد الفتى ذو الثمانية عشر ربيعًا والذي تخرج لتوّه من المرحلة الثانوية ولمّا يدخل إلى الجامعة.
"ستقرأ البيان، وتتجنب الإجابة عن أسئلة الصحفيين، وإن لاح لك سؤال يمكنك الإجابة عنه من محتوى البيان، فبها ونعمت". ردد أبو أنس قبل أن يودعه.
"مفهوم!" قال الفتى هازًا رأسه.
بعد ثلاث ساعات، اعتلى الفتى المنصة مخفيًا ملامح وجهه بقناع أسود، ومعتصبًا بعصابة خضراء، جلس خلف الطاولة المزدحمة بميكروفونات قنوات الأخبار، وقِطع السلاح، قرأ البيان المشتمل على مجريات المعركة، وأبرز العمليات التي نفذتها الكتائب بشكل منفرد أو بالاشتراك مع فصائل المقاومة، واستعرض بعض الأسلحة المستخدمة في المعركة، وتفاعل مع أسئلة الصحفيين بحصافة.
وحين نزل عن المنصّة، لم يدر بخلد الفتى أن تلك دقائق حوّلت حياته إلى الأبد، وصيّرته وجه القسّام الإعلامي وناطقها الرسمي، ولسانها للعالمين. وسيعرفه العالم، بألقاب متعددة مثل "الملثم" و"الناطق باسم الأمة" أو بكنيته الأشهر "أبو عبيدة".
اعتلى أبو عبيدة المنصة من جديد بعد 20 عامًا، وافتتح أول تصريحاته في معركة طوفان الأقصى، معلنًا أن الطريقة الوحيدة لاستعادة الأسرى الإسرائيليين من قبضة المقاومة هي صفقة تبادل شاملة. ليصدق قوله بعد 15 شهرًا من إبادة شنها الاحتلال على أهالي قطاع غزة، بأن المقاومة لا تفنى وأنه لا سبيل إلى الأسرى إلا بما اقترحه عليهم الملثم منذ البداية.
وقد أدى الإعلام العسكري للقسام دورًا محوريًا في معركة طوفان الأقصى، بدءًا بنشر بيانات الناطق الرسمي أبي عبيدة، وتسجيل رسائل الأسرى الإسرائيليين، وانتهاءً بتصوير عمليات المقاومة، حتى تلك التي استخدموا فيها السكاكين لمواجهة جنود الاحتلال، الذي يحمل الواحد منهم 35 كيلًا من الذخيرة والعتاد.
في لقاء خاص طال الإعداد والترتيب له، قصَّ عليّ الرجل الستينيّ القيادي في حماس ومؤسس جهاز الإعلام العسكري لكتائب القسام - الذي قدّم نفسه إليّ بكنيته (أبو أنس) - قصة اختياره لأبي عبيدة ناطقًا رسميًا للقسام، ومراحل تأسيس جهاز الإعلام العسكري والتحديات التي واجهتهم، فرأيتُ أن أقدم للقارئ خبر القصة والقاص، فقد بدا لي أن حكاية السعي في هذا الباب، لا تقل أهمية عن النتيجة والثمرة.
نفض الرماد عن الجمر
من أين سنبدأ القصة؟ سألته.
رد أبو أنس: "لنبدأ من عام 1996 كانت سنة كبيسة على المقاومة، حين قررت السلطة الفلسطينية تفكيك العمل الإسلامي والتنظيمي والمؤسسات التابعة له بما فيها القسام في غزة والضفة، واعتقلت جل القيادات. كنت وقتها وقبلها، ممن يتردد على السجون، أُعتقل لبضعة أشهر ثم يُطلق سراحي، هكذا كانت سنوات فتوّتي وأنا وقتها ابن العشرين. لم يكن لي اتصال بالملف العسكري حينئذ، كنتُ أعمل في ملف المطاردين وإيوائهم".
بعد عمليات الثأر المقدس التي نفذها حسن سلامة انتقامًا لاستشهاد مهندس المقاومة يحيى عياش وكانت حصيلتها مقتل 46 إسرائيليًا، شنّت السلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال حملة شديدة الضراوة، واعتقلت كل من وصلت إليه أيديها من العاملين في المقاومة، "حتى ظننا أن كتائب القسام قد انتهت وأصيب العمل الإسلامي بشللٍ تام!" كما أخبرني - في وقت سابق - مسؤول مطلع في كتائب القسام، نجا من حملة الاعتقالات تلك.
اقرؤوا المزيد: "القضاء على حماس".. هل يقدر الاحتلال على ذلك؟
"حين خرج إسماعيل أبو شنب في عام 1997، أقبل على إعادة تنظيم الصفوف، ثم تلاه خروج الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، فكان أقدر على ترتيب كوادر الحركة وضبط الصف التنظيمي، أما أنا فخرجتُ من سجن تل الهوى التابع للأمن الوقائي في السادس من نيسان/ أبريل سنة 1996، التقيت وليد الشمالي (أبو بلال) فأخبرني عن نشاط أبي محمد أحمد الجعبري، فتوجهت مباشرةً إلى مسجده، والتقيته لأول مرة" قال لي أبو أنس.
وتابع: "نظر إليّ أبو محمد طويلًا وكأنه يقول في نفسه: من هذا الفتى الذي يريد أن يباشر العمل في هذه الظروف الخانقة، وما زالت رائحة السجن تفوح منه! لقد كان الوضع صعبا جدًا، حتى إن شبابنا لم يكونوا يصلون في المساجد من شدة صولة الأجهزة الأمنية للسلطة".
اشتهر أبو محمد الجعبري بلقب أطلقه الإسرائيليون عليه وهو "رئيس أركان حركة حماس"، وقد كان مهندس صفقة وفاء الأحرار1حررت المقاومة في صفقة وفاء الأحرار 1027 أسيرًا في عام 2011 مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي شاليط الذي أسرته القسام في عام 2006. ومع أن الجعبري كان نائبًا لقائد كتائب القسّام محمد الضيف، فإن بداياته النضالية كانت وسط صفوف حركة فتح. إثر احتكاكه بقيادات العمل الإسلامي في سجون الاحتلال التي قضى فيها 13 عامًا تحوّل الجعبري إلى التيار الإسلامي بفضل صحبة الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وحين خرج من السجن عام 1995 انضم إلى حماس.

ما طبيعة العمل الذي نشط فيه أبو محمد الجعبري في 1996؟ سألتُ أبا أنس.
"كان الجعبري مشرفًا على ملف عائلات الأسرى. أنشأ مؤسسة النور الخيرية، وعينني مساعدًا له. كلفني مرة بفتح حسابات لعائلات الأسرى في منطقة الشمال بغزة، لنحول لهم مبالغ إعانة شهرية، خرجتُ من عنده مباشرة إلى الشمال، وطفت على العوائل مشيًا على قدميّ، فلم أكن أملك أجرة المواصلات، كان الوقت المقدر لهذه المهمة شهرا على أقل تقدير، بعد يومين جئته بالحسابات البنكية لكل عائلات الأسرى! وصار الأخ أبو محمد يعطيني الأموال لصرفها على عوائل الأسرى والشهداء".
كان الفتى العشرينيّ يتلفّت حوله بعد خروجه من السجن، ويستوحش من السكون الذي خيّم على مساجد القطاع بعد أن اعتادها ملأى، تضجُّ بالعمل والتربية والإعداد قبل ضربة عام 1996. فبادر بالعمل لإحياء النشاط المسجدي والدعوي، ولترميم التنظيم، "قلت لأبي محمد: نريد أن نستأنف العمل في المساجد، فقال لي: تحرك! وارجع إليّ إذا احتجتم إلى شيء من المال، كان أبو محمد يتواصل مع مكتب الحركة في الخارج وتصله الأموال منهم فيصرفها في وجوهها. ستتعزز العلاقة لاحقًا مع أبي محمد حين يصبح مرجعيتنا في الإعلام العسكري".
عودة المؤسس
قبل قيام انتفاضة الأقصى بأشهر، غادر الشيخ صلاح شحادة معتقله بعد 12 عامًا قضاها في سجون الاحتلال. كان شحادة المولود في مخيم الشاطئ في غزة عام 1953، بعد أن نزحت عائلته من يافا في النكبة، هو المؤسس للعمل العسكري في الحركة الإسلامية بإنشائه جهاز المجاهدين الفلسطينيين، الذي جمع خلايا عسكرية منفصلة ترجع في قرارها إليه.
"كنت دائمًا أملك زمام المبادرة في الاستقبالات وتنظيم مهرجانات الاحتفال بخروج الأسرى حتى من دون الرجوع إلى التنظيم. حين خرج الشيخ صلاح، بادرت بالإعداد لإقامة مهرجان استقبال ضخم لأحد رموز المقاومة الإسلامية"، قال أبو أنس متذكرًا اللحظات الأولى للقائه بشحادة، الرجل الأول في القسام، والذي سيمنحه ثقة مطلقة بعد أن رأى تفانيه في العمل ومبادرته الدائمة.
كانت المبادرة أم التطور، فقد قال لي فتحي حماد وزير الداخلية السابق في غزة بـ"أن حركة حماس تدين بـ60% من تطورها وبناء قوتها للمبادرات الفرديّة، التي يطلقها أفراد ثم يلتحق بها التنظيم".
اقرؤوا المزيد: السابقون السابقون.. عن الأوائل من كلّ فعل
"رتبتُ الخيمة، كان مهرجانًا ضخمًا. كان الشيخ صلاح محبوبًا جدا في الشمال، حتى إننا كنا نطلق على بيت حانون بيت الصلاح نسبة إليه؛ لمكانة الشيخ عند سكانه، جاء الشباب بالباصات من كل مناطق القطاع وكان يومًا مشهودًا. رأى الشيخ صلاح شابا نشطا يتحرك باستمرار في الفعالية وينظم الحشود، واستغرب أن الشاب الذي يحترق في العمل والخدمة لم يطلب منه شيئًا؛ فوقعت عينه عليّ. أرسل الشيخ يسأل عني فقالوا له: اسمه.. وكنيته أبو أنس، وهو من الشباب الذين اعتقلوا عدة مرات. هذا ما قاله الشيخ لي لاحقًا، حينها دعاني إلى بيته وأكرمني، كان الشيخ صلاح رجلًا يقطر لطفًا ومودة مع إخوانه".
جامعة تصدر الشهداء قبل الشهادات
ما إن وضع رجله اليمنى خارج السجن، وحركت نسائم الصيف لحيته الكثيفة التي غزاها الشيب، حتى نظر بعين بصيرته إلى ساعة عمره، فلم يجد فيها سوى 26 شهرًا. فبادر إلى تنفيذ الفكرة التي اختمرت في ذهنه سنوات السجن؛ كان همه الأول تحويل عمل خلايا المقاومة إلى جيش شعبي. أدرك شحادة من خلال تجربته مع المجاهدين الفلسطينيين ومتابعة عمليات شباب القسام في التسعينيات أن نموذج عمل الخلايا لم يعد مجديًا، وأن تجنيد الشباب في جيش شعبي سيكون له الأثر الأبقى في المعركة مع الاحتلال.
"كان الشباب متحمسين للعودة إلى العمل، وكان منهجنا التعلم عن طريق التجربة، وهذا ما أؤمن به، لا يمكنك أن تخطط ثم تسير وعينك متسمّرة في الخطة، سِرْ والواقع يصححك. استعان الشيخ بموقعه في شؤون الطلبة في الجامعة الإسلامية، لتجنيد جيل جديد. كان الشيخ يقربني ويصطنعني، ولم أكن أشعر بذلك وقتها، ولكني أدركته لاحقًا" قال أبو أنس.

اعتمد شحادة في عملية التجنيد على العمل الطلابي، لعدة أسباب، منها: تطوير كتائب القسّام وتعزيز صفوفها بجيل جديد. أخبرني مصدر مطلع في القسّام اشترط عليّ عدم ذكر اسمه "أنه بعد خروج الشيخ صلاح من سجنه، وبسبب انقطاعه الطويل، لم يكن يعرف العاملين في الميدان الذين انضموا في فترة سجنه، فأقبل على تنظيم الشباب عبر عمله مديرًا لشؤون الطلاب في الجامعة الإسلامية".
اقرؤوا المزيد: سيرةٌ عسكريّة لبدايات "حماس"
لم ينفرد الشيخ بالتركيز على العمل الطلابي، فقد أقبل تلميذه المقرب على العمل الطلابي إقبالًا لافتًا، قال أبو أنس: "سجلتُ في كل الجامعات التي قدرت على التسجيل فيها؛ فسجلتُ في كلية العلوم والتكنولوجيا، وفي جامعة القدس المفتوحة، وفي كلية فلسطين التقنية، إضافة طبعا إلى الجامعة الإسلامية".
سألته مستغربًا، عن سبب كل هذا التسجيلات، فأجابني: "لأجد غطاءً لنشاطي في قيادة العمل الطلابي بين شباب الجامعات، كنا نريد أن نبعث الحركة من جديد".
واصل أبو أنس حديثه عن نشاطه الطلابي:
"لم نكتفِ بالعمل في غزة، وإنما بدأنا نتواصل مع الإخوة في الضفة الغربية ومع طلاب الجامعات، مثل جامعة بيرزيت وجامعة النجاح، ونحرضهم على قيادة العمل الطلابي، قلنا لهم: رتبوا أموركم، وإذا احتجتم إلى المال نحن جاهزون.. فكنت أعمل في ملف التواصل، مع قيس عدوان رحمة الله عليه وغيره من الجامعات في الضفة. ثم طلبنا منهم شراء أسلحة، والتجهيز للعمل العسكري. كان ذلك كله بتكليف من الشيخ صلاح".
إعلان العمل
كمصارع ياباني متجردٍ من ملابسه يقف في الحلبة الدائرية وينتظر صفارة الحكم ليبدأ التدافع، عرف الشيخ صلاح الذي يتقن فنون المصارعة اليابانية أن جزءًا من المواجهة مع الخصم تكون في إعلانك عن نفسك، وإظهار وجودك، وأن العمل السرّي قد ولّى زمنه، وأن الناس تحتاج إلى أن ترى الراية قد ارتفعت ليجتمعوا حولها.
في أحد مجالس شمال غزة اجتمع أربعة أشخاص من قيادات حركة حماس، صلاح شحادة، نزار ريان، وفتحي حماد وأبو أنس. بادر الشيخ صلاح الجالسين، بفكرة طال تقليبه لها، لقد قرر الشيخ أن يضع نهاية للعمل السريّ وأن يكشف الستار عن جهاز المقاومة.
التفت الشيخُ إلى فتى الكهول أبي أنس، وقال له: ابحث لنا عن دار نعلّق عليها لوحة كبيرة نكتب عليها "حركة المقاومة الإسلامية" لنتخذها مكتبًا معلنًا لحماس، وحين سأله الفتى عن الغاية من هذا الفعل؟ قال له: على الناس أن يعرفوا أننا نُستهدف لمقاومتنا وتحدينا للاحتلال. وانطلق الفتى يبحث عن دارٍ تكون هدفًا ثابتًا للطيران الإسرائيلي.
"غبت نحو أسبوع، ثم التقيته وقلت له، لقد وجدت المقر، فقال أين؟ قلت: بيتي!
"بيتك؟! سيُستهدف!"
"استهدافهم لداري أهون عليّ من استهدافهم لدار غيري، فأكون كمن دلّهم عليها بفتح المكتب فيها!
فقال الشيخ كالمختبر: وقد يستشهد أهلك!
"دخلنا هذا الطريق ونعرف عواقبه، ونحن أولى الناس بالشهادة!". قالها الفتى بيقين، فكبُر في عين شيخه.
"خصصت الطابق الأسفل من داري للمكتب، وأحضرت لوحة ضخمة، كتبت عليها: مكتب حركة المقاومة الإسلامية حماس، وعلقتها على مدخل الدار. ودعوتُ الشيخ، فلما جاء وجد الأمر ناجزًا، أدخلته الدار، وقلت له مشيرًا إلى إحدى الغرف هذا مكتبك!، وهنا في هذه الصالة يمكننا عقد الاجتماعات. ولم أطلب منه شيكلًا واحدًا".
أُعجب الشيخ بهذا الفتى الذي يقيس ذراعًا كل ما قاس غيره إصبعًا في العمل التنظيمي. وسيعينه مسؤولًا للعمل الجماهيري في الشمال بأجمعه.
افتتح المكتب في شهر سبتمبر من عام 2000، ولم يبقَ المكتب سوى عام وبضعة أشهر، فقد قُصف في 19 شباط/ فبراير 2002. لم يخسر أبو أنس نصف داره فحسب، بل سقطت في القصف قطعة من فؤاده.
يروي أبو أنس: "خرجتُ من الدار لأقضي عملًا في شارع صلاح الدين. ما إن ابتعدتُ عن الدار قليلًا حتى تذكرت أني نسيت شيئًا في المكتب، دخلت وخرجت من المكتب بسرعة. كان الشيخ صلاح قد أرسل إليّ ملفًا لأحد الإخوة المعتقلين، فكنت أحتاج إلى تصويره قبل إعادته للشيخ".
خرج أبو أنس من جديد من المنزل والتقى في الأثناء مع ابنته (9 سنوات) عائدة من المدرسة وفي يدها نصف شيكل، يبدو أنها نسيت أن تشتري شيئًا من المدرسة. يكمل أبو أنس: "قلت لها وأنا أقف بجانب السيارة، صوري لي الأوراق التي على المكتب يا بابا، دخلت إلى المكتب لتحضر الأوراق لتصويرها، لم تلبث أن توارت خلفَ الباب حتى انتثرت الجدران في كل مكان إثر قصف هائل من العدو للمقر".
واستدرك: "استشهدت ابنتي.. أفرغ الله عليّ صبرًا وربط على قلبي، سأعرف لاحقًا أن الشيخ صلاح كان يعجب من صبر الشاب الذي لم يتجاوز عمره 28 عامًا في تلك الحادثة، وذكر ذلك للشيخ إبراهيم المقادمة، الذي حكاه لي بدوره".
ميلاد الإعلام العسكري
مع انطلاق انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000، وتطور العمليات العسكرية في قطاع غزة والضفة وإصدار البيانات، بدت الحاجة ملحة إلى جهاز للإعلام العسكري يتولى نشر نشاط المقاومة. يقول أبو أنس: "في كانون الأول/ ديسمبر 2000، أخبرني الشيخ صلاح أنه يفكر في إنشاء جهاز إعلامي للجناح العسكري، ولم ألبث أن وافقتُه وشددتُ على يده، وبدأت العمل، اشتريتُ طابعةً وفاكس، وحولت داري إلى مكتب إعلامي".
كانت لأبي أنس خبرة إعلامية سابقة، وقد اعتقله الاحتلال بين 1994-1996، بتهمة العمل في المكتب الإعلامي في شمال غزة للحركة، كان وقتها يعمل برفقة أحمد الساعاتي أبي محمد رئيس الإعلام في الحركة، ولم يكن في حينه للقسام جهاز إعلام.
كتب أبو أنس البيانات وطبعها، وكان يسلمها إلى رفاقه لتوزيعها. بعد 24 عامًا، ذكره حسين فياض قائد كتيبة بيت حانون، قائلًا: "هل تذكر يا أبا أنس حين كنت آتيك في جباليا لأخذ البيانات، وأنقلها إلى بيت حانون، كنت أحملها في الأكياس السوداء وأسير على قدميّ لأني لا أملك أجرة المواصلات، فأصلُ وقد ازرقّت أطرافي".
قبل شراء الطابعة الخاصة بالحركة، كانت طباعة البيانات محفوفة بكثير من الخطر من أجهزة السلطة والاحتلال. يعلق أبو أنس: "كانت المطابع تتعاون معنا وتطبع لنا البيانات، ثم يوصوننا قبل أن نغادرهم: لا تقولو للسلطة عشان ما تغلق محلاتنا".

أما عن الكاميرا الأولى، يروي أبو أنس: "اشترينا كاميرا واحدة، ولم تكن ميزانيتنا تسمح بأكثر من ذلك، كلفتنا الكاميرا وقتها 600 دولار".
حين رأى أبو أنس علامات الاستغراب على وجهي من عدم قدرتهم على شراء أكثر من كاميرا. بادرني قائلًا: "هل تعلم أني كنتُ أذهب إلى الشيخ أحمد ياسين لآخذ ميزانية كتائب القسام وأسلّمها إلى الشيخ صلاح شحادة وكانت 25 ألف دينار! 35 ألف دولار تقريبًا".
كانت تلك الكاميرا تطوف على شباب المقاومة حسب العمليات المخطط لها، يومًا يطلبها أهل خان يونس فتُرسل إليهم، ويومًا يطلبها أهل رفح، ثم أهل غزة وهكذا. يقول أبو أنس: "كنت أعرف بالعمليات قبل وقوعها على حسب طلب الكاميرا، أو أعرف الاستشهاديين حين يأتون لتصوير وصاياهم قبل أن يقبلوا على عملياتهم".
اقرؤوا المزيد: نُصرت بالرعب: كيف أدارت المقاومة الحرب النفسيّة؟
مثل أبو أنس جهاز الإعلام العسكري كاملًا في مرحلة من مراحله، بصياغته للبيانات وكتابة البلاغات العسكرية وتسليمها إلى الموزعين، وإرسال الرسائل عبر الفاكس، لكنه لم يكن يحسن التعامل مع الكاميرا، فكان يستعين بشابٍ صغير، "أفضّل التعامل مع الشباب لأنهم أسهل تعاملًا وأسرع إنجازًا"، قال أبو أنس. واستدرك: "كنتُ أجهز البيانات مسبقًا مع وصية الاستشهاديين وأرسلها إلى وسائل الإعلام مع بدء العمليات، كنا وقتها نتواصل مع جهات محدودة هي: قناة الجزيرة وقناة أبو ظبي وقناة المنار ووكالة رامتان ووكالة رويترز.
وفي عام 2002، تمكن أبو أنس من توفير أربع كاميرات ستتوزع على ألوية قطاع غزة، يقول أبو أنس: "مع تعدد ألوية القسام، طلبنا من الإخوة أن يكون لنا مسؤول إعلامي في كل لواء من ألوية القطاع، كانت وقتها أربعة ألوية: لواء الجنوب، ولواء الوسطى، ولواء غزة، ولواء الشمال".
كيف يتم اختيار المسؤول الإعلامي لكل لواء؟ سألتُه
يجيب أبو أنس: "بعد توسع القسام. صرنا نتواصل مع الألوية ونعطيهم المواصفات في الإنتاج والتصوير والمهارات، فينتخبون لنا بعض المرشحين، فنقابلهم ونعيّن أحدهم". وأضاف: "أسسنا في 2009 معهد تدريب خاص للمكتب الإعلامي كان يجهز هذه الكوادر. فبعد كل حرب نعقد لجنة تقييم، لنتبيّن احتياجاتنا في المرحلة القادمة، كانت الاحتياجات بعد حرب 2009 توفير لوجستيات لنقل الصور من العقد القتالية، ووجود منافذ للشبكات الإخبارية".
في الساعة الثالثة والنصف، فجر 21 كانون الثاني/ يناير 2001، كانت الوحدة 103 التابعة لكتائب القسام، والمكونة من ثمانية طلاب جامعيين نظّمهم صلاح شحادة، تزرع عبوة ناسفة تزن 50 كيلوغرامًا من المتفجرات على طريق "كارني نتساريم" بقطاع غزة.
بعد طمر العبوة الناسفة بإتقان، وتمديد سلك التفجير لمسافة تزيد على 350 مترًا، وقف رامي سعد، ومحمد الديراوي الذي عاش ليروي الحادثة بعد خروجه من سجون الاحتلال في صفقة وفاء الأحرار، وقفا على المفجِّر ينتظران عبور الهدف المرصود وهي حافلة للمغتصبين من المقرر أن تعبر الطريق في السابعة والثُلث صباحًا.
تقدّمت دبابات لحماية الحافلة، توقفت إحداها فوق اللغم مباشرة. أقبل الصيّادان يتشاوران في الصيد، هل ينتظران الحافلة أم يقنعان بالدبابة التي ابتلعت الطعم؟ قال محمد لرامي بلهجته الغزيّة "الحاضر أبقى من الغايب!" حمل رامي الكاميرا ضاغطًا زرَّ التسجيل، وأمسك باليد الأخرى عصا التفجير، وضغطَ على المفجّر مكبِّرًا، أصيبت الدبابة إصابة مباشرة وأصيب عدد في داخلها أقرّ الاحتلال بواحد منهم فقط. كانت هذه العملية أول عملية مصورة، فقد كان الجيش الإسرائيلي ينكر وقوع العمليات، فحرصت الوحدة على التصوير للتأثير في المجتمع الصهيوني، ورفع معنويات المقاومة الفلسطينية.

لمع في سماء العمل الطلابي اسم رامي سعد، المقرّب من صلاح شحادة الذي قال عنه ذات مرة، "رامي ابني الذي لم يخرج من صلبي!" وكان الشيخ صلاح يشفق عليه من شجاعته المفرطة، فيوصي أصحابه بأن يمنعوه من التقحّم على العدو. في ليلة زفافه على الرسامة الفلسطينية أمية جحا، انسلّ من داره لينفذ عملية تفجير في محور نتساريم، كان هذا الشاب هو من همس مرة في أذن أبي أنس في عام 2001، أن بعض الأخوة لديهم فكرة لتأسيس موقع إلكتروني للقسام، وأنهم يريدون الاجتماع به.
كان صاحب الاقتراح مهدي مشتهى ويُكنى بأبي عبادة، وهو أخ للقيادي روحي مشتهى، يتذكر أبو أنس: "جلستُ مع ثلاثة من آل مشتهى الذين كانت الفكرة قد نضجت واستوت في أذهانهم.. طلبوا مني مواد لنشرها على الموقع فزودتهم بالبيانات ووصايا الشهداء. أسسنا الموقع ثم صرنا بعد ذلك نحول كل البيانات القسامية بعد نشرها في وسائل الإعلام، لتعزيز الموقع".
أما عن قصة الشعار، يحدثنا أبو أنس: "عند تأسيس الموقع كنا بحاجة إلى شعار، اجتمعتُ بالمصمم الشهيد أحمد الشتيوي رحمه الله، فطلب مني كما يطلب أي مصمم، عناصر الشعار، عدت للشيخ صلاح حتى يقترح عناصر الشعار". واستدرك: "لأننا نفتقر إلى الخبرة الفنيّة وضعنا قائمة طويلة بالعناصر! قال الشيخ: بدي الكوفية، والأقصى، والقرآن، والراية، والبندقيّة، وأصر الشيخ على كتابة آية في الشعار، قال يمكن الاستغناء عن أي عنصر عداها، وهي: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
خرج الشعار الأول فجًا، بخلفية خضراء مشتملًا على كل تلك العناصر، ولم يكن مناسبًا لترويسات البيانات. يقول أبو أنس: طلبتُ أن يعاد التصميم، ولكن واجهتنا مشكلة أن بعض الاستشهاديين قد صوروا وصاياهم والشعار القديم خلفهم، ثم انتهى بنا الأمر أن نعتمد ذلك الشعار الفج للعمليات الاستشهادية، وأن نصمم شعارًا جديدًا للإعلام والبيانات هو الذي تراه اليوم".
لم يلبث الموقع أن تطور سريعًا، مع عمليات المقاومة، فقسّم الجهاز الإعلامي الضفة الغربية إلى خمس مناطق وعيّن مراسلًا حربيًا في كل منطقة. مع الحركة الإعلامية صار الموقع يضم محررين ومدققين ومراسلين، إضافة إلى القسم الفني وقسم البرمجة.
لم يكن الاحتياط الأمني حاضرًا في البدايات، وكان يجري التواصل مع المراسلين عبر أجهزة اتصال لاسلكية "ميرتس"، ويمررون البلاغات العسكرية، ثم تُنشر على الموقع وتُرسل إلى الجهات الإعلامية.
أبو الخير يضاعف ميزانية القسام
شكّل الموقع الإلكتروني للقسام حالة من التواصل مع الأمة الإسلامية، وبدأ المسلمون من كل مكان يطالبون بإيجاد طرق للتبرع عبر الموقع لدعم المقاومة، وطلبًا لأجر تجهيز المرابطين. في هذه المرة، سيبادر التلميذ ويفاجئ أستاذه، بالتفكير الجريء واقتناص الفرصة. فقال أبو أنس للشيخ صلاح: "بِدْنا نفتح قسم تبرعات بالموقع!"
بمزيج من الاستغراب والإعجاب الذي أثارته مبادرة أبي أنس في نفس شيخه، قال شحادة مستشكلًا: كيف بِدّك تفتح الحسابات؟ ثم قد يتعارض عملك هذا مع اختصاص عمل منطقة الخارج - تقسم حماس عملها على أربع مناطق: غزة، والضفة الغربية، والخارج ويشمل فلسطينيي الشتات، والسجون - فجمع التبرعات من اختصاصهم".
رد أبو أنس وقد أنضج الفكرة في رأسه: "سأفتح الحسابات بأسماء بعض النساء، ونرسله للمتبرع مرة واحدة، ولن نكرر إرسال الحساب الواحد".
لاحت صور قطع السلاح التي يمكن لشحادة أن يزوّد بها جنوده، ومشاريع تطوير الجهاز العسكري مع توفر دعم مجزٍ للمقاومة، ولكنه لم يلبث أن طرد ذلك الخاطر الذي لاح في ذهنه بصرامة تنظيمية قائلًا "لن يقبل الشيخ أحمد ياسين بمثل هذه الخطوة".
التقط أبو أنس هذه الكلمة وطار بها "حسنًا، إذا أقنعتُ الشيخ فأنت موافق؟"
رد شحادة: "بالطبع".
رتّب أبو أنس أفكاره في ورقة، وذهب إلى الشيخ الذي كان يحمل له الكثير من الودّ. حين دخل على الرجل المقعد الذي أقامَ جماعة الفلسطينيين للمقاومة، أمسك بالورقة للشيخ المستلقي على ظهره ليقرأها. مرر الشيخ عينيه الغائرتين على الورقة. وقال له بصوته المبحوح وبعاميّته العذبة: إنت يا بْنيّ (بُنيّ) بدك تعمل لي مشكلة مع الخارج؟ الإخوة في الخارج هم الذين يجمعون التبرعات، وأخاف يزعلوا إذا دخلنا على خطهم".
لم يلبث أبو أنس أن أطلق الردّ الذي بيّته في نفسه: "يعني يا شيخ، بدك تقول لي، إن لو في مسلم يحب يدعم المقاومة ويشارك في أجر الجهاد وهو في المالديف راح يعرف يتواصل مع الإخوة في الخارج؟ هل نقول للناس اللي عندهم تبرعات وليس لهم اتصال بالإخوة في الخارج لا تتبرعوا!".
سكتَ الشيخ قليلًا، ثم قال "توكل على الله".
خرج أبو أنس يمشي وثبًا من الفرحة: "توجّهت مباشرة إلى الموقع، أسابق الزمن قبل أن يصل الخبر إلى أحد ويراجع الشيخ في قراره، كتبت إعلانًا تفصيليًا، عن أسعار الأسلحة والطلقات في السوق السوداء، ونشرت الإعلان على صفحة الموقع". ثم طلب أبو أنس من بعض النساء، منهن زوجته، ووالدة الشيخ نزار ريان، وغيرهن، أن يفتحن حسابات بنكية في البنك العربي. وبذلك فتح عشرات الحسابات البنكية بأسماء نساء الحارة، وبدأت عملية جمع التبرعات.
كانت النساء يذهبن إلى البنك، ويستلمن الحوالات المالية، ويسلمنها إلى أبي أنس، وقد وصلت التبرعات الشهرية إلى 200 ألف دولار، وتضاعفت بذلك ميزانية القسام نحو سبعة أضعاف. يقول أبو أنس: "سماني الشيخ صلاح وقتها بأبي الخير! واستمر الأمر حتى رفعوا قضية على البنك وأٌغلقت الحسابات".

لم يقدر أبو أنس على إخفاء بهجته وهو يتذكر هذا الإنجاز. ثم استدرك كمن تذكر شيئًا مهمًا: "قبل أن نكمل، دعني أحكي لك قصة: في إحدى المرات، وصلتني رسالة على الموقع من شخص يريد أن يتبرع بمليون دولار هكذا كتب لي 10000,00، ذهلت، لم أكن سمعتُ بالمليون من قبل ولا رأيته، فأرسلت له حساب زوجتي، حتى ننال شرف هذا التبرع بأول مليون تصل إلى القسام".
توجه أبو أنس مع زوجته إلى البنك، حاملًا حقيبة سوداء ليضع فيها المليون دولار، وما زال مترددًا إذا كانت الحقيبة ستتسع للمليون. يقول أبو أنس: "لم أصبر أن اتصلت بالشيخ صلاح مبشرًا، وقلت له: "أبشرك، سيأتينا أرنب".
دخلت أم أنس وقدمت أوراقها، وهويتها، وضع الموظف يده في الصندوق وأخرج رزمة من الدولارات، وعدّها سريعًا، وناولها 10 آلاف دولار. "المبلغ الذي جاءنا مليون! لماذا تعطينا 10 آلاف؟ انظر إلى الرسالة! 10000,00" سأل أبو أنس الموظف، الذي أشار إلى الفاصلة، وقال هذه فاصلة السنتات. يروي أبو أنس: "أخذت المبلغ ووضعته في الحقيبة وخرجت وأنا أشعر بالخيبة. وبالعشرة آلاف وهي تتحرك في حقيبتي ذهابًا وجيئة، اتصلت بالشيخ صلاح وأنا في غاية الإحباط، وقلت له أخطأت قراءة الفاصلة، والمبلغ 10000$. فقال لي الشيخ صلاح شحادة وهو يعزيني، وكان يحسن احتواء الشباب، "وهذه قليلة؟".
في شهر تموز/ يوليو 2002، اغتال الاحتلال الشيخ صلاح شحادة بقصف عنيف استهدف حي الدرج، وقد استشهد معه 12 فلسطينيا منهم زوجته وإحدى بناته، وأُصيب أكثر من 140، ودمر القصف مربعًا سكنيًا كاملًا. وباستشهاد شحادة انتقلت دفة القيادة في القسام إلى محمد الضيف. يقول أبو أنس: "تواصل معي أبو خالد، ثبتني وقال لي أبقني على اطلاع على عملكم في الجهاز الإعلامي".

وفي فجر 11 أيار/ مايو 2004 اجتاحت قوات الاحتلال وآلياتها المدرعة حي الزيتون الذي يعد مدخل مدينة غزة الجنوبي. استهدفت قوات الاحتلال ورش الحدادة التي تعرف بـ"المخارط" التي تُتهم بصناعة أجزاء من الصواريخ البسيطة وقذائف الهاون التي كانت تنتجها المقاومة. مع توغل الدبابات كمن أربعةٌ من رجال المقاومة في منزل مهجور، كانت الآليات المتوغلة على بعد نحو 20 مترًا عن ذلك المنزل.
انسلّ أحد المقاومين وأخذ يزحف نحو أحد المفترقات الرئيسية، ليزرع عبوة ناسفة في الطريق، بعد أن غرس لغمًا عاد أدراجه داخل المنزل. يقول أحدهم: "كنا نعلم بأن عبواتنا المصنوعة محليًا لن تؤثر كثيرًا بدبابة الميركافا المتطورة والمحصنة جيدًا". مرت دبابة الميركافا وتبعتها ناقلة جند أقل. وما إن وصلت الأخيرة إلى مكان العبوة، حتى قام أحد المقاومين بتفجيرها.
انفجرت الناقلة وحدث عدد من الانفجارات المتتالية داخل الناقلة إذ كانت تحتوي على عبوات تابعة لوحدات الهندسة الصهيونية، حسب أحد المقاومين. كان انفجارًا هائلًا اهتزت له بيوت الحي من شدته. تعالت صرخات باللغة العبرية، وتحت الغبار والدخان المتصاعد بدأت قوات الاحتلال إطلاق النار والقذائف عشوائيًا. وباشرت لملمة أشلاء الجنود الإسرائيليين الذين قتلوا في كمين المقاومة. "في تلك العمليّة اتخذت قرارًا عاقبتني الحركة عليه بإيقافي عن العمل لمدة شهر، بعد أن اتخذت قرار عرض أشلاء الجنود الإسرائيليين على الإعلام" أخبرني أبو أنس.
في إطلاقنا أسماء على الأشياء، نمارس نوعًا من حيازتها، هذا المعنى تفطّن له أبو أنس في 2004. "خطر لي أهمية تسمية عمليات المقاومة، حين أطلق الاحتلال في عام 2004 اسم أيام الندم على عدوانه على غزة، اقترحت تسمية عملية المقاومة بأيام الغضب، ومن بعدها صار عرفًا لدينا تسمية المواجهات التي نخوضها ضد العدو"، قال أبو أنس هذا وبدأ ينظر إلى ساعته.
بادرته قبل أن يختصر الحديث ويطويه تحت ذريعة الوقت، كيف كان اختياركم لأبي عبيدة ناطقًا رسميًا؟
"في أيام الغضب فكرتُ في ضرورة وجود متحدث عسكري يكون لسان القسام في الإعلان وقارئًا لبياناتها. حضرت في ذهني ثلاثة أسماء من الشباب في غزة، وهم: إياد البزم المتحدث باسم الداخلية، وحسين فياض قائد كتيبة بيت حانون، وأبو عبيدة الذي كان أصغرهم وكان عمره وقتها 18 عامًا". ويتابع أبو أنس: "لفتني أبو عبيدة بصوته ولغته الرشيقة وإجادته قواعد النحو، كان فتى خلوقًا لين الجانب، مقبلًا على دراسة الشريعة حافظًا للقرآن، ومع أنه حصل على درجة عالية في دراسته الثانوية، تؤهله للتخصص في الطب أو الهندسة، فإنه آثر دراسة الشريعة. أرسلتُ إليه وقتها وكان على الجبهة يقاوم الاجتياح الإسرائيلي. جاءني بزيه العسكري، فأعطيته البيان وطلبت منه أن يقرأه ويتجنب الرد على الصحفيين".
اقرؤوا المزيد: يحيا السنوار: عن وقوف الألف في وجه الموت
انعقد المؤتمر وحضر عشرات الصحفيين، وألقى أبو عبيدة البيان وأجاب عن بعض الأسئلة بشكل جيد. بعد المؤتمر، عقدنا لجنة تقييم ضمت الشيخ نزار ريان، وسهيل الهندي، وفتحي حماد، وخلصنا إلى نتيجة "ما بده تقييم، الولد كويس".
بعد نهاية المعركة انعقد المجلس العسكري لتقييم المواجهة. فوجئوا أن هناك ناطقًا للقسام، في الشمال! يقول أبو أنس: "جاءني أبو محمد الجعبري ومروان عيسى معاتبين، كيف قررت تعيين ناطق للقسام ولم ترجع إلينا؟، كانت ميزة الجعبري أنه دائما ما يتبنى أفعال فريقه ويحميهم، كان قائدًا".
اقرؤوا المزيد: مراون عيسى.. جنرال طوفان الأقصى
أجاب أبو أنس: "كنا في حرب ولم تتوفر وسيلة للتواصل معكم لمشاورتكم فارتجلت واتخذت القرار في ضوء الأمور التي فرضها الميدان". ابتسم أبو أنس ابتسامة عريضة، وهو مستمر في حكايته، وتابع: "قال لي الجعبري، طيب سميه متحدث وليس ناطق عن القسام! فقلت له فات الفوت. قد طلع إلى الإعلام بهذا الوصف، لكن يمكنكم تسميته في اجتماعاتكم الداخلية بالمتحدث" وانفلتت منه ضحكة عذبة.

كان أبو عبيدة يخرج ملثمًا بعدها بألوان، يتلثم تارة بكوفية خضراء، أو قناع أسود، ومرة بالكوفية الحمراء. وفي 2006 ناقشنا تثبيت لون اللثام، قال لنا وقتها إيهاب الغضين الذي استشهد في هذه الحرب، إن وائل نصار خرج على قناة الجزيرة متلثمًا بلثام أحمر. فاخترنا تثبيت اللون الأحمر.
في عام 2008 خاضت المقاومة أول حرب شاملة يشنها الاحتلال على قطاع غزة، وأطلقت عليها اسم حرب الفرقان. بعد انتهاء الحرب التي دامت 23 يومًا، انتقل الإعلام العسكري نقلة نوعية من حيث التجهيزات. يُعدد أبو أنس: "أرسلنا إلى الألوية ليرسلوا احتياجاتهم للتغطية الإعلامية، وأحصينا الفصائل بشتى تنوعاتها القتالية والتصنيع والاستخبارات، وعينّا لجنة على رأسها محمد شبانة، لشراء كاميرات لكل الفصائل البالغ عددها 250، إضافة إلى كاميرات رأس، وأجهزة صلبة لنقل البيانات (هاردسكات)".
ظل محمد الضيف
في فجر السابع من تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، بث جهاز الإعلام العسكري لكتائب عز الدين القسام كلمة مسجلة لقائد الأركان محمد الضيف، يعلن فيها عن بدء عملية طوفان الأقصى، ويدعو جماهير الأمة الإسلامية للانضمام إلى هذه المعركة الفاصلة. كانت المقطع يعرض صورة معتمة للضيف. فما قصة هذه الصورة؟ سألت أبا أنس.
"تلك صورة قديمة سأخبرك بقصتها التي تعود إلى 2005، كنت أطلق مشروعًا لأرشيف القسام يضم كل وصايا الشهداء، من 1987 إلى يومنا هذا، كلفنا مشروع الأرشيف 80 ألف دولار، وكنت حريصًا على التسجيل مع الجميع، وفي سلسلة سميناها "في ضيافة البندقية" سجلتُ مع أبي محمد الجعبري الذي كان نائبًا للضيف، وطلبتُ منه أن يقنع الضيف بالتصوير".

كان الضيف (أبو خالد) ينأى دائمًا عن التصوير والأضواء. ولكن تحت إصرار أبو أنس استجاب. يقول: "تلك الصورة التي ظهرت في كلمته التقطت في شارع النصر، في دار إيهاب الغصين الذي استشهد مؤخرًا رحمه الله. كنا ثلاثتنا، أنا وأبو خالد وإيهاب، وفكرنا في طريقة للتصوير من دون أن تبدو ملامحه، لم تكن لدينا تقنيات، هل نصوره في العتمة؟ وبعد تفكير أقترح إيهاب أن نطفئ الضوء ونشعل شمعة، ونصوره على تلك الحالة".
وبعد الانتهاء، أخذوا الصورة إلى المصمم الذي حذرهم من قدرة الاحتلال على تحليل ومعالجة الصورة وصولاً إلى تحديد معالم أبو خالد. يقول أبو أنس: "اقترح علينا شطب الوجه، ثم التصوير، حتى لا يمكن أن يستخرج الملامح، وهذا ما كان".
الحرب النفسية
تميزت معركة الطوفان بمقاطع فيديو مميزة موجهة للمجتمع الإسرائيلي، تُستخدم فيها أغانٍ ذات إيحاءات مأساوية، واقتباسات توراتية تعزف على أوتار الخوف والإرباك خاصة في ملف الأسرى. وكان الإعلام العسكري يكرر خلاصة مفادها أنه لا يمكن الوصول إلى الأسرى أو استخلاصهم من قبضة المقاومة إلا بصفقة شاملة توقف فيها الحرب، ويخرج فيها الأسرى الفلسطينيون.
بدأ العمل على تقنيات الحرب النفسية لدى الإعلام العسكري في 2010. يعلق أبو أنس: "لم تكن فكرة الحرب النفسية من اقتراحاتي، بل اقترحها أحد الإخوة، اعتمد فيها على نفسه في دراسة هذه التقنيات، وأساليبها. وفي 2010 حصلنا على 20 ألف رقم لمستوطن. كنا نتصل بهم، وفور رفع السماعة يبث تسجيل يحذره من البقاء ويوجهه لمغادرة المكان، في الحقيقة كنا نتابع أساليب العدو في الإعلام الحربي، ونحاول قلبها عليه".
في عام 2011 تحرر 1027 أسيرًا فلسطينيًا من سجون الاحتلال، وفق صفقة وفاء الأحرار. كان للأسرى المحررين أثر كبير في إدارة الحرب النفسية خاصة أنهم تشربوا الثقافة العبرية في سنوات بقائهم في سجون الاحتلال. ويختم أبو أنس: "أسست الإعلام العسكري وأدرته إلى سنة 2012، كنت أكتب جميع بياناته، وأتابع سائر تطوراته. وبعدها قرر الإخوة الاستفادة مني في مجال آخر".