شكّلت فكرةُ الإضراب العام قطعةً هامّةً في صورة النضال الفلسطينيّ عموماً، وفي تصوّر النضال داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 على وجه الخصوص. يعود هذا الدور إلى جذورٍ سياسيّةٍ وتاريخيّةٍ مختلفة، أهمّها على المستوى الوطنيّ إضرابُ ثورة 1936. بعد النكبة، تبلوّر دور الإضراب بشكلٍ خاصٍّ في أحداث يوم الأرض (30 مارس/آذار 1976)، إذ كان إعلانُه شرارةَ مواجهةٍ عارمةٍ، ارتقى فيها ستة شهداء في قرى الجليل.
وفي غضون سنواتٍ قليلة، في فبراير/ شباط 1982، أُعلن الإضرابُ في الجولان السوريّ المحتل رفضاً لمحاولة فرض الجنسيّة الإسرائيليّة على الأهالي. وكانت هذه تجربة فارقة من حيث طول الإضراب العام (ستة شهور) وبُعد التضامن الاجتماعيّ الذي ظهر خلالها. ثم في عام 1987 بدأت إضرابات الانتفاضة الأولى، إذ كان يُعلن الإضراب في موعدٍ ثابتٍ مرةً كلّ شهر.
رغم هذا الحضور التاريخيّ، فقدت الكلمةُ بريقَها في أيامنا. وبات ذِكرها يجرّ بشكلٍ فوريٍّ نقاشاتٍ مشكّكةً في جدوى هذه الأداة النضاليّة واتّهامها بالعبثيّة. كما تتعدّد المواقف بين مهاجمة قرار الإضراب العام، أو تجاهله، أو تبنّيه على مضض. في هذا السياق، ومنذ نهاية الانتفاضة الثانية، شهدنا أفول أداة الإضراب العام، وتحوّلها إلى فعلٍ رمزيٍّ ينتهي في معظم الأحيان إلى إغلاقٍ خجولٍ لأبواب المرافق العامّة أو المحلات التجاريّة داخل القرى والمدن الفلسطينيّة، فاقداً لأيّ أثرٍ سياسيٍّ أو اقتصاديّ، وغير مُستندٍ إلى تعبئةٍ أو دافعٍ لها.
الحنين إلى الإضراب
صمدت على مرّ السنين صورةُ إعلان الإضراب العام، داخل أراضي 1948 خاصةً، باعتباره الفعل الأكثر رديكاليّة، كأنّه إعلان حرب. لهذا أسباب منطقيّة:
شكّل إعلانُ يوم الأرض معركةً حقيقيّة. من ملامح ذلك الجهودُ الهائلة التي بذلتها سلطاتُ الاحتلال من أجل منع الإضراب بواسطة عملائها المحليين، من مخاتير ورؤساء سلطات محليّة موالين لها. وقد فرض الناسُ الإضرابَ بتحرّك جماهيريّ تمثّل بلجنة الدفاع عن الأراضي، ثم بتظاهرٍ عارمٍ حاصر اجتماع شفاعمرو، حيث التقى رؤساء السلطات المحليّة للبت في مسألة الإضراب. وقد وفّر هذا التظاهر سنداً حاسماً للقيادات الداعمة للإضراب وعلى رأسها توفيق زيّاد.
جرّ إعلان الإضراب هجوماً عنيفاً للأمن الإسرائيليّ وتصدياً شعبيّاً جباراً. يُذَكِّر ذلك بأن استخدام الإضراب لتوليد الاشتباك هو تكتيك أصيل في فكرة الإضراب، وسابقٌ لاستخدام الإضراب كأداة لتحقيق مكسبٍ سياسيّ، وبينهما جدل جدّي ظهر بشكلٍ بارزٍ في كتابات الأناركيين والشيوعيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. حُفِرَت المعركةُ بين الأمن الإسرائيليّ وفلّاحي مثلث يوم الأرض في أذهان الناس باعتبارها ملحمةً ناتجةً بشكلٍ مباشرٍ عن الإضراب العام.
لكنّ الصورة الملحميّة في ذاكرتنا الجماعيّة لم تنمو وحدها. إنما هي تحتاج إلى سندٍ خطابيّ، إعلاميّ وثقافيّ، يغذّيها ويستفيد منها لتعزيز مكانته. وكان هذا دور الحزب الشيوعيّ الذي عظّم المعركة وجعلها سندَ شرعيّةٍ يحسم انتصارَه على القوى التقليديّة العميلة للأحزاب الصهيونيّة، وانتصاراً آخر على قوى وطنيّة أضعف، حملت خطاباً أكثر رديكاليّة. كانت هذه مرحلة تشكّل الحزب الشيوعيّ ولاحقاً "الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة" كقوّة سياسيّة مهيمنة بين الفلسطينيين في أراضي الـ1948.
انتكاسة الإضراب
هكذا، ومع توالي السنوات، صارت المناداة بالإضراب نوعاً من الدعوة الخطابيّة إلى الخيار الرديكاليّ، وامتحاناً مُستفزاً لمصدر شرعيّة القوّة السياسيّة المهيمنة المتمثلة بالحزب والجبهة. وكانت هذه المرحلة التي بدأت فيها الجبهةُ باستخدام قوّتها السياسيّة لتوسّع روابطها مع طبقة اجتماعيّة أعلى بدأت تنشأ، من تجّار أو مقاولين أو أكاديميين، ممّن يتضرّرون بشكلٍ مباشرٍ من الإضراب العام، ومنهم على سبيل المثال "لجنة التجّار والحرفيين وأصحاب المصالح الخاصّة" في الناصرة (يا لمباشرة هذا الاسم!)، والتي ضغطت في مناسباتٍ عديدة لمنع إعلان الإضراب.
في الطريق نحو الصورة العبثيّة للإضراب، تغيّرت الخارطة السياسيّة في التسعينيّات. أخذت الطبقة الوسطى الناشئة أدواراً سياسيّةً أوسع، في الأحزاب القائمة والجديدة وفي تأسيس الجمعيّات. وفي مقابلها صعدت الحركةُ الإسلاميّة التي لم تكن تربطها صلة وثيقة بالمخيال العماليّ اليساريّ الذي رسمه الحزب الشيوعيّ للإضراب. تبدد استخدام هذه الأداة إلى حدٍّ بعيد، وصولاً إلى الانتفاضة الثانيّة، إذ لم يلعب الإضراب أي دورٍ محوريّ في تفجير المظاهرات في قرى وبلدات الداخل مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2000.
بعد مرور عشر سنوات، تآكل دور "الإضراب العام"، وانحسر طابعه الرمزيّ وتعبيره الصوريّ إلى معاني التضامن فحسب. هكذا بدأ الإضراب يأخذ طابع الحداد، فينحصرُ على المصالح التجاريّة والمدارس في القرى والمدن الفلسطينيّة ليؤدّي صورة التضامن، بينما يذهب الناس بصمت إلى العمل في المصانع والشركات الإسرائيليّة، وبات أصحاب المصالح داخل بلداتنا يتحمّلون ثمن الإضراب وحدهم، دون أي تضرّر ملحوظ للاقتصاد الإسرائيليّ. وفي هذا، غاب أيضاً النشاط النضاليّ الذي يحضّر للإضراب من حيث التعبئة الشعبيّة. إذ يُعلن الإضراب كردِّ فعلٍ فوريٍّ لا يعطي الوقت للتعبئة ولا يستندُ إلى تعبئةٍ جاهزة. كما بات الإضرابُ يُعلَن فاقداً للدافع الصداميّ الأصيل فيه. ثمّ باتت مقولة أنّ "الإضرابَ يحتاجُ تحضيراً للجماهير" حجةً دائمةً للامتناع عن فرضه. وفي المقابل، كانت القوى الرديكاليّة الصغيرة التي تنادي بالإضراب إما عاجزة عن مهمة التحضير للإضراب بنفسها، وإما ساخرةً ومسخّفةً للحجّة.
وغاب عاملٌ مهم آخر؛ وهو إغلاق مداخل القرى من فجر يوم الإضراب. لطالما كانت لعامل إغلاق الشوارع أهميّة كبيرة في النضال الشعبيّ، وكانت له أهميّة كبيرة تحديداً في تشكيل الإضراب العام، فإنّ إغلاق مداخل القرى المعزولة أصلاً كان يقطع القرية عن الدولة بمفهوم ما، ويحوّلها إلى وحدةٍ اجتماعيّةٍ مغلقة. والأهم أنّ هذا الإغلاق كان يستحضر العاملَ الصداميَّ الأصيل في الإضراب، لأنّه إعلانُ وجودٍ صارخ، ويستدعي قوّات القمع لمحاولة فتح الشوارع، أي أنّه يستدعي الصدام. غاب هذا العامل أيضاً، وصار يوم الإضراب يوماً لم يعد يستيقظ فيه المناضلون قبل العاشرة صباحاً.
استبدال الإضراب
مع توالي استخدام الإضراب من قبل "لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة" كإجراء حداديّ أو تضامنيّ صُوَريّ، فقدت الكلمةُ بريقَها، ولم تعد مطلباً بين شرائح شبابيّة واسعة ابتعدت عن فنتازيا يوم الأرض، واستبدلتها بفنتازيا "هبّة أكتوبر". وسرى شعورٌ قويٌّ راسخٌ لدى الشباب بأنّ ما نفتقده فعلاً هو العامل الصداميّ الذي في الإضراب وليس الإضراب نفسه. لم يعد الإضرابُ مُهماً قدر ما يهمّ اجتذابُ الصدام مع النظام وتأجيج القطيعة معه. وبهذا بدأت استعادة مكانة إغلاق الشوارع باعتبارها "إكسير" نضال.
اقرؤوا المزيد: "لجنة أور.. المؤسسة الاستعماريّة لحفظ الشرذمة".
ولو أردنا التمعّن أكثر، فيمكن القول إنّ الجيل المهووس بإغلاق الشوارع نشأ في فترةٍ اعتمدت فيها الأحزابُ والقوى السياسيّة في الداخل على "التكتيك الثوريّ" الشهير: "تظاهرة رفع الشعارات"، وهي مظاهرة يقف فيها الناس واحداً إلى جانب الآخر على رصيف شارعٍ ما، ويرفعون لافتات تحمل شعاراتهم. وهذه قصّةٌ بحدِّ ذاتها، لأن هذا الشكل من التظاهر تشكّل بالخضوع إلى تقييدات القانون الإسرائيليّ بشأن التظاهر، إذ يمنع القانون الإسرائيليّ خروج المسيرات في الشوارع دون ترخيص، ولكنّه يسمح بتجمّعات واقفة على الرصيف طالما لا تشغّل مكبّرات صوتيّة، وطبعاً بشرط ألّا تُعطّل الحياة العامّة ومنها حركة السير.
عمليّاً، نشأ هذا الجيل في ثقافة احتجاجيّة يظهر فيها القانون الإسرائيليّ فاصلاً بين الرصيف والشارع، القانون حاضر بيننا ويمنعنا من أن نخطو خطوة واحدة إلى الشارع. هكذا، بات "النزول إلى الشارع" و-"تسكير الشوارع" شعاراً لمرحلة (أو ربما تجربة) نضاليّة جديدة رأت النور.
"عَ الشوارع"
كانت حرب 2006 نقطة هامّة، ليس مجرد بسبب مشاهدتنا لانكسار "إسرائيل". بل لأنّها جرّت معها أيضاً قصصاً عن مناضلين من الحيّز السياسيّ المعروف، اعتُقلوا وسجنوا بسبب اتهامهم بربط علاقة بـ"حزب الله" (الكائن المنتصر في حينه) أو بالمقاومة عموماً. وكان من بين هؤلاء قيادات رئيسيّة من حزب التجمّع ومن حركة "أبناء البلد" ومن الجمعيّات الأهليّة.
أثّر هذا على الشباب بشكلين؛ ساعد على تحطيم القناعة بأن النضال في إطار القانون يمكنه أن يغيّر أي شيء، ورمز إلى ضرورة الخروج عن القانون. ولكنّ من جهة أخرى شكّلت عقوبات السجن رادعاً عن اتخاذ خطوات بهذا المستوى من الرديكاليّة. وفوق هذا كلّه، كان نموذج الحركة الإسلاميّة الشماليّة الذي يلعب بحذرٍ على حدود القانون الإسرائيليّ. وكانت فكرة إغلاق الشّارع طريقاً للوصول إلى نموذج من التحدّي الجماعيّ للقانون، يكسر أولاً حواجز الرصيف الذي زرعها القانون في رأسنا.
اقرؤوا المزيد: "ما الداعي للاحتجاج؟"
وصل الزمن بهذا إلى انفجار الربيع العربي. كانت هذه لحظة مؤسِّسة، وغاب منها بشكلٍ شبه تام أي وجودٍ لمفهوم الإضراب العام في هذه الانتفاضات. لكنّ ما حلّ في عقولنا كإعلان وجود ثوريّ ودعوة للصدام مع النظام كان مفهوم "جمعة الغضب"، وهي الجُمعة الأولى من جُمعات الثورة المصريّة. وتوالت الجُمعات ومعها ظهرت تسمية "يوم الغضب" التي باتت شائعةً في كلّ حديثٍ عن النضال الشعبيّ.
مع الربيع العربيّ بدأت تظهر "حراكات" أهم ميزاتها أنّها تُنظم خارج الأطر الحزبيّة، وكانت هذه المساحة التي أخذت على عاتقها أن تقارع القانون، وتشكّلت تنظيمياً لهذا الهدف. وكان "حراك برافر" عام 2013 أحد النقاط الهامّة في هذا الشكل النضاليّ، وحملت الملامح المركزيّة التي تميّزه على صعيد العمل الإعلاميّ (استخدام السوشال ميديا)، وأسلوب التنظيم (الشبكيّ لا الهرميّ)، والأهم دافعه الجذريّ اتجاه السلطة. ارتبط هنا "يوم الغضب" بضرورة "إغلاق الشوارع"، وتحوّلت الأخيرة شعاراً شبابيّاً.
هلّا يزال الإضراب العام ممكناً؟
يواجه تنظيم الإضراب مشكلةً مركزيّةً: تشتّت القوّة الفلسطينيّة العاملة في الداخل على عرض السوق الإسرائيليّ، بعد أن كانت مركزةً في مجالات عملٍ محدّدة. وطبعاً لا تجمع العمّال الفلسطينيين في الداخل أيُّ نقابةٍ مستقلّة. في الوقت ذاته توسّعت المصالح التجاريّة داخل بلداتنا مع ازدياد قوّتنا الشرائيّة، وفي أماكن محدّدة تعتمد المصالح التجاريّة على المستهلكين الإسرائيليين. ونشأت أيضاً أطر ومؤسسات داخليّة لا ترى نفسها جزءاً من المؤسسة الإسرائيليّة التي يجب تعطيلها، مثل جمعيّات أو مدارس خاصّة أو نشاط اجتماعيّ أو مرفق عام، وهي تعتبر أن عملها قيمة اجتماعيّة وحتّى سياسيّة بنّاءة، وليس في تعطيلها أي فائدةٍ، بل العكس.
ولازمت هذه التغيّرات الاجتماعيّة تغييرات أكبر على طبيعة علاقتنا بالنظام الإسرائيليّ عموماً، والنظام المالي الإسرائيليّ تحديداً. والأخيرة قصّة كُتب عنها الكثير فلا داعي لتكرارها: بيتك ملك للبنك، سيّارتك ملك للبنك، تعليمك ملك للبنك... والتتمّة كما تعرفون.
اقرؤوا المزيد: "من النقب إلى الجليل.. كيف صُنع الصمت؟".
ومن الواضح كذلك أن الأحزاب الفلسطينيّة في الداخل لا تتجه بأي شكل نحو إحياء التنظيم الجماهيريّ، لا على المستوى الاجتماعيّ العميق ولا على المستوى الاحتجاجيّ، إنما يستحوذ العمل البرلماني على كيانها وتنظيمها. كما لا تظهر بوادر لأي تنظيمٍ جماهيريّ بديل من خارج هذه الأحزاب.
تقف هذه العوامل كلّها على إصبع واحد من كفّة الاحتمالات. ولكن المستقبل كفيل بأن يقلبها أيضاً أو يهمّشها لصالح عوامل أقوى تدفع الناس إلى إحداث قطيعة جديدة مع النظام. احتمال أن يتفوّق حدثٌ واحدٌ على كل العوامل التي تعوّق العمل، أن تتفوّق صورة واحدة على الواقع، أن يظهر شخص لا نعرفه، قرية لم نسمع بها، فكرة جديدة يستوردها الشباب ويحاولون تطبيقها، ليحاولوا من خلال ذلك إحداث ما يُفترض بالإضراب أن يحدثه: تعطيل النظام وكشف حقيقته الدمويّة.