24 مايو 2023

ازرع أشجاراً.. تحصد مستعمرات!

ازرع أشجاراً.. تحصد مستعمرات!

يتناول هذا المقال سياسة مصادرة الأراضي في الضفّة الغربيّة وفاعلية الفلسطينيّين في مواجهتها.1يستند المقال إلى مجموعة من المقابلات الشخصيّة التي أجراها الباحث أثناء تحضيره لأطروحة الدكتوراه بعنوان: "منظومة التحكم والسيطرة للحكم العسكري الإسرائيلي في المناطق المستعمرة عام 1967، في الفترة ما بين 1967-1981/ البيوسلطة الزراعية كمدخل"، جامعة بيرزيت 2022. يجادل المقال بأنّ الاحتلال الإسرائيليّ استند إلى مفهوم "أرض الموات" لتقنين مصادرة الأراضي الخاصّة، وكذلك إلى الإعلان عن بعض الأراضي كـ"محميات طبيعيّة"، أو كمناطق عسكريّة مغلقة. فيما لجأ الفلسطينيون للمقاومة بالحيلة من أجل التصدي لتلك السياسة. يستعرض المقال تفاصيل ذلك ويستعرض أيضاً الفلسفة الفلسطينيّة من التوجه للمحكمة العليا الإسرائيليّة (رغم العلم المسبق بانحيازها) للمطالبة بوقف تلك المصادرة.

إذا لم تزرع أرضك فنحن "أحقّ" بها منك!  

عقب حرب 1967 واستعمار ما تبقى من فلسطين الانتدابية، اتخذ فلسطينيو مناطق 67 قراراً بعدم اللجوء للمحاكم الإسرائيلية، رفضاً للإقرار بسيادتها القانونيّة، وكان من مظاهر هذا الرفض إضراب المحامين عن الترافع أمام هذه المحاكم. لكن وبالرغم من ذلك؛ فرض الواقعُ نفسَه وبدأ البعض بالتوجه لتلك المحاكم.

في منتصف السبعينيات، وعقب توجه بعض الفلسطينيّين إلى المحكمة العليا الإسرائيلية للاعتراض على مصادرة أراضيهم لصالح بناء مستعمرة ألون موريه، أصدرت المحكمة قراراً بعدم "قانونية" مصادرة الأراضي الخاصة لغرض بناء مستعمرة.  

دفع ذلك القرارُ الحكمَ العسكريّ الإسرائيليّ في الضفّة إلى البحث عن طريقةٍ أخرى يُقنن من خلالها عملية المصادرة، فلجأ إلى قانونٍ عثمانيّ يُعرَف بقانون "أرض الموات" وبدأ باستخدامه. بموجب ذلك القانون، فإنّ "للدولة" الحقّ في تحويل الأراضي ذات الملكية الخاصّة إلى أراضي دولة إذا لم تُزرَع لثلاث سنواتٍ متتالية، (كان هدف العثمانيين من سن القانون حثّ السكان على زراعة أراضيهم).



إذاً، استغل الاحتلال قانون "أرض الموات" لقونَنة مصادرة الأراضي الخاصّة، وذلك من خلال استخدام صور المراقبة الجويّة، من أجل تحديد الأراضي التي زُرِعت منذ أقل من عشر سنوات (فترة التقادم). وقد أظهر التصوير في فترة ما بعد منتصف السبعينات وجود 2.15 مليون دونم من أراضي الضفّة الغربيّة يُمكن الاستيلاء عليها باستخدام هذا القانون.2راجع: Neve Gordon, Israel's Occupation, California: University of California Press, 2008, p: 129
وبالتالي أعيد تعريف ملكية الأراضي بحيث حُوّل جزءٌ كبيرٌ منها إلى ملكية "الدولة".

بحسب جمال العملة، استخدم الاحتلال هذا القانون لأوّل مرّة عام 1978،  وتوجّه إلى مصادرة الأراضي في الجبال غير المزروعة.3مقابلة شخصية مع جمال العملة (مدير مركز أبحاث الأرض)، في حلحول، 30/6/2020. أما ما سبق من عمليات المصادرة فكانت تتم على أساس استخدامها كمعسكراتٍ للجيش (إذ يسمح القانون الدولي بذلك على اعتبار أنّ الاحتلال مؤقت)، ومن ثم يتم الالتفاف على القانون الدولي وتحويلها إلى مستعمرات.

كيف برّروا التوجه لمحاكم الاحتلال؟

أمام تلك المصادرات، توّجه العديد من الفلسطينيين إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لرفع دعاوى للطعن في قرارات المصادرة. يقول العملة إنّه رغم  المحاذير السياسيّة المُتَمثِّلة بإقرار السيادة القانونيّة الإسرائيلية، وإضفاء الشرعية على نهب الأراضي، ومع القناعة بعدم حيادية المحكمة، وضئالة فرص كسب القضايا، فإنّ الهدف القانونيّ والعمليّ من التوجه كان ما يُسمّيه "تثبيت الحقّ". بمعنى لو شُكِّلت مستقبلاً لجان دوليّة، فسيتم الاستناد إلى القضايا المرفوعة (والتي لم تُنصفهم فيها المحكمة المنحازة) لإثبات ملكية الفلسطينيين للأراضي المُصادَرة، ففي حال لم يتم الإعتراض ولم يتم التوجه للعليا فهذا إقرارٌ ضمنيّ بعدم ملكية الأرض.4المصدر نفسه.  

تستغرق عملية التوجه للعليا والتقاضي عبرها فترةً زمنيّةً تتراوح ما بين 7-9 سنوات للبت في الاعتراض، مما يمنح الفلسطينيين فرصةً لفرض الحقائق على الأرض، سواءً من خلال البناء أو استصلاح الأراضي. ورغم أنَّ معظم هذا البناء غير "مرخص" من الإدارة المدنية، إلا أنه يصبح أمراً واقعاً، مما يجعل من الصعب على الاحتلال هدم جميع البنايات، مما جعل عملية البناء أكبر من عملية الهدم (وهذا يفسّر عشوائية البناء في ريف الضفّة الغربيّة، فالهدف كان الانتشار الأفقيّ لحماية الأرض من المصادرة). 

وبالتالي واجه الفلسطينيون سياسة مصادرة الأراضي على أساس "قانون الموات"، عبر التوجه للمحكمة العليا باعتراضات على قرارات المصادرة. وبينما تتداول القضايا في أروقة المحكمة استمروا بالبناء الأفقيّ رغم مخاطر التعرّض للهدم (والذي كان له أثرٌ سلبيّ على المدى الطويل من حيث تآكل مساحة الأراضي الصالحة للزراعة). 

وأيضاً لجأوا إلى الزراعة (بصرف النظر عن الجدوى الاقتصاديّة منها)، ففي بعض الأحيان استخدمت زراعة أشجار الزيتون للمحافظة على الأرض، كما اتفق جزءٌ من المهجّرين الذين صُنِّفت أراضيهم كأملاك غائبين، بالاتفاق مع بعض المزارعين على زراعة أراضيهم ضمن نظام "المزارعة"، والذي يقوم على إعطاء المزارع نصف الإنتاج الزراعيّ مقابل جهده.

"الحديقة" التي تُباغتنا على شكل مستعمرة!

من أجل تسويغ مصادرة بعض الأراضي في الضفّة، لجأ الاحتلال أيضاً إلى ما يُعرَف بـ"المحميات الطبيعيّة" أو"المناطق الخضراء"، وكذلك إلى تحديد مناطق عسكريّة مُغلَقة يُمنَع على الفلسطينيين دخولها دون تصريح. فيما يتعلق بالمناطق الخضراء، استند الاحتلال "قانونياً" إلى قانون الانتداب البريطاني الصادر عام 1943 الذي يسمح بمصادرة الأراضي للمنفعة العامة.5Shaul Ephraim Cohen, The politics of planting: Israeli - Palestinian competition for control of land in the Jerusalem periphery, Chicago, Ill.: University of Chicago Press, 1993, p:129-138. 

على سبيل المثال، حُدّدت عام  1970 شمال مدينة القدس مساحة من الأراضي على أنّها "منطقة خضراء"، يُمنع على الفلسطينيين التصرف بها. لاحقاً استُخدِمت تلك "المنطقة الخضراء" لبناء مستعمرة رمات شلومو.6جُرفت سنة 1990 الأشجار التي زرعها الصندوق القومي اليهودي (JNF) في عام 1970 لإفساح المجال للمستعمرة التي ضمّت في حينه 2000 منزل. وهو ما حصل أيضاً في حالة مستعمرة "تل بيوت" التي بُنيت على بعض أراضي صورباهر، جنوب القدس، إذ صُودرت تلك الأراضي مسبقاً  بذريعة إنشاء "منطقة خضراء". وبالتالي منذ سنة 1980 كانت مصادرة الأراضي في القدس تتم من خلال تشجيرها وزراعتها، وذلك لتحقيق هدفين استعماريين: الحدّ من التمدد العمرانيّ للفلسطينيين، وكذلك منع "غزو" رعاة المواشي من الفلسطينيين لهذه الأراضي (فلو بقيت تلك المناطق عشبية قد يسكنها البدو ورعاة الأغنام).

منظر عام لمستعمرة رامات شلومو، شمال شرق القدس المحتلة. (أحمد غرابلي/Getty Images)
 منظر عام لمستعمرة رامات شلومو، شمال شرق القدس المحتلة. (أحمد غرابلي/Getty Images)

يضاف إلى ما سبق؛ صادر الاحتلال بعض الأراضي على أساس أنّها "مناطق عسكريّة مغلقة"، وبحسب بعض التقديرات تصل مساحة الأراضي المصادرة على هذا الأساس (في الفترة ما بين 1967-1985)، حوالي 280 ألف دونم (أي ما يعادل 5% من مساحة الضفّة).7ليلى فرسخ، العمالة الفلسطينية في إسرائيل ومشروع الدولة 1967-2007، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع مواطن، 2009، ص: 81. وقد استخدمت "المناطق العسكريّة المغلقة" لتهجير الفلسطينيّين، فعلى سبيل المثال بعد إصدار قرار عسكريّ عام 1968 يمنع التواجد فيها لأنها "منطقة عسكرية مغلقة"، هُجّر سكان قرية الزور الملاصقة لنهر الأردن إلى منطقة العوجا، واستخدمت في ذلك أيضاً ذريعة الخشية من الأعمال الفدائية. في العام الأول من صدور القرار مُنح أهالي القرية تصاريح تسمح لهم دخول المنطقة للزراعة، لكنهم منعوا من ذلك في العام الثالث بشكلٍ قطعيّ.

من جانبٍ آخر، فقد حدّد الحاكم العسكريّ في الضفّة المساحات التي يستطيع فيها رعاة المواشي التحرك، وذلك في خطوةٍ تمهيديّةٍ للاستيلاء على الأرض والسيطرة عليها. وقد صدر أمر سنة 1974 يُحدِّد المساحة التي يمكن الرعي فيها، واشترط ذلك بالحصول على تصريحٍ من الحاكم العسكريّ، وفي حال المخالفة تُوجه لصاحب الحيوانات أو راعيها  تهمة مخالفة الأمر بشأن تعليمات الأمن.8كراس 33، أمر عسكري رقم 544 "أمر بشأن المراعي (غور الأردن)”، ص: 1325، 30/4/1974. 

المقاومة بالحيلة أو التمرد

في إطار تصديهم لسياسات الاحتلال، لجأ أهالي الضفّة إلى حيلٍ وأدوات شتى. على سبيل المثال، تنبّه المزارعون إلى بعض الحيل الإسرائيلية القانونية، إذ اكتشفوا في إحدى القضايا تلاعب الحكم العسكريّ من خلال تغيير رقم الحوض والقطعة في الإعلان عن الاستيلاء على الأرض، وذلك لتضليل أصحاب الأراضي، حتى لا يعترضوا أمام المحكمة العليا، فقدّموا دعوى ضدّ ذلك مستخدمين رقم القطع الصحيح.9مقابلة شخصية مع  إسماعيل الدعيق، (خبير في مجال التمور، مدير الإغاثة الزراعية، وزير الزراعة في السلطة الفلسطينية، 2009-2011، سكان أريحا)، في أريحا بتاريخ 23/6/2020.

مسافر يطا، جنوب الخليل، أيلول 2022، فلسطينيون يجلسون في أراضيهم بالقرب من إشارة وضعها جيش الاحتلال للإشارة إلى أنّ المنطقة "منطقة عسكرية مغلقة". (حازم بدر/ وكالة الصحافة الفرنسية).

وفي خضم توجههم للمحاكم الإسرائيليّة، لجأ البعض للمقاومة بالحيلة10مصطلح استخدمه جيمس سكوت للإشارة إلى لجوء المحكومين الضعفاء لاستخدام الحيلة للرد على سياسات الحكام الأقوياء، ويمكن القول إنّها آلية لمقاومة سياسات السلطة دون الاصطدام بها.، وذلك من خلال محاولة إثبات عدم صحة الادعاء الإسرائيلي بأنّها "أرض موات"، فوضعوا أكواماً من القش في الأرض المُهَدّدة بالمصادرة، لتظهر كأنّها من حصاد الأرض، في حال صُوِّرَت من الجو، أو جاءت لجنةُ تفتيشٍ مُنتدبة من المحكمة، فيما نقل آخرون أشجاراً (بجذورها) إلى الأرض المُهدّدة بالمصادرة. 

في السياق ذاته، لجأ البعض إلى التمرد على الأوامر العسكريّة التي تمنع الزراعة أو الرعي في المناطق العسكريّة المغلقة، رغم المخاطرة بالتعرض للسجن و الغرامة أو مصادرة الماشية أو إتلاف المزروعات. على سبيل المثال يروي "ي. ع" من منطقة مسافر يطا المصنّفة كمنطقةٍ عسكريّةٍ مُغلقة، كيف كانوا يزرعون الأرض ويرعون الماشية في أراضيهم رغم عدم وجود طُرق مُمهَّدة (نتيجة المنع الإسرائيلي لشقّ الطرق)، والمشقة التي يتكبدونها نتيجةً لذلك، وكيف كانت تدور بين المزراعين وقوات الاحتلال "معارك" شبه يوميّة حول المنع من الزراعة، وتفجير آبار المياه، وإغلاق الطرق، وطرد السكان، ومصادرة الحيوانات.11مقابلة شخصية مع "ي. ع"، مزارع، في يطا/ الخليل، بتاريخ 18/ 12/2019. 

مسافر يطا، جنوب الخليل، 22 حزيران 2022، مجموعة من الفلسطينيين يقفون محتجين أمام آليات عسكرية لجيش الاحتلال خلال إجرائها تدريبات بالقرب من أراضيهم في المسافر. (مأمون وزوز/ وكالة الأناضول).
 مسافر يطا، جنوب الخليل، 22 حزيران 2022، مجموعة من الفلسطينيين يقفون محتجين أمام آليات عسكرية لجيش الاحتلال خلال إجرائها تدريبات بالقرب من أراضيهم في المسافر. (مأمون وزوز/ وكالة الأناضول).

يُضاف إلى ذلك، تنظيم اللجان الزراعيّة حملاتٍ تطوعيّة لزراعة الأراضي المُهدّدة بالمصادرة، وشقّ الطرق فيها. وهذا التكتيك نجح في عدة مرات بإفشال المصادرة والاستيطان، كما حدث في منطقة ما بين كفر نعمة وبيتونيا في أواخر السبعينات، وكذلك الأمر في سنجل وسلفيت وعدة قرى.12مقابلة اسماعيل الدعيق، مصدر سابق.

ثابر الفلسطينيون على تحدي السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، واستمروا بزراعة الأراضي المُهدَّدة بالمصادرة، أو المُصنّفة كـ"منطقةٍ عسكريّة مغلقة"، مما دفع الاحتلال في فترة السبعينات والثمانينات إلى اللجوء لأساليب قمعيةٍ أخرى في مناطق كمسافر يطا، فعمد إلى رشّ هذه المناطق (من الجوّ بواسطة الطائرات) بمواد كيماوية مبيدة للمزروعات، وتكرر الأمر في بعض أراضي قرية عقربا قرب نابلس، وذلك قبل موعد الحصاد بأسابيع،13غادي الغازي، قضية اللاجئين بين نكبة 1948 وحرب 1967، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 113، شتاء 2018، ص: 102. وأيضاً في منطقة حلحول في الخليل، علاوة على خلع المزروعات وحرق المستوطنين للأشجار.14مقابلة اسماعيل الدعيق، مصدر سابق. 

في المحصلة، دأب الفلسطينيون على التمسك بأراضيهم وعدم الخضوع بشكلٍ كاملٍ للمنظومة الاستعماريّة الإسرائيلية، ومقاومتها بجميع الوسائل، سواءً بالحيلة أو التمرد. في المقابل، طوّرت منظومة الحكم العسكريّ من أدواتها وقوانينها لمواجهة تلك المقاومة والاستيلاء على الأرض. أما فيما يتعلق باللجوء إلى المحكمة العليا، فرغم التحفظات السياسية على ذلك، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تطويرٍ لمنظومة القانون الاستعماريّ، فإنّ البعض يرى أنّ الدعاوى في المحكمة تعني كسبَ الوقت وفرضَ الوقائع، ويضربون مثالاً على ذلك: مسافر يطا، فالدعوى ضدّ إخلائها رُفعت من قبل أهلها في السبعينات، لكن القرار بخصوصها صدر قبل فترةٍ وجيزة (عام 2023)، مما سمح طوال الفترة السابقة ببناء عدة قرى صغيرة وتثبيت أهلها فيها.



8 ديسمبر 2023
اليوم 63: بدلاً من تحريره قتلوه

في خانيونس جنوباً، وفي جباليا والشجاعية وبيت لاهيا شمالاً، تجري أعنف المعارك بين المقاومة والجيش الإسرائيلي. تستهدف القسّام وسرايا القدس…