13 يونيو 2024

اتزان غزّة واختلال العالم

اتزان غزّة واختلال العالم

ينتصف عام 2024 والمدى العربيّ غارقٌ في نزيفٍ لا يلوح له خلاص. غزّة التي تجابه موتاً عاصفاً منذ ثمانية أشهر تختزن حياةً كريمةً معطِّلة لأكبر الأمم المخنوقة في زمننا الراهن والمرتهن. روسيا تراوغ الطوق الغربيّ في أطراف أوكرانيا وتحاول انتهاز سطوة الدم الغزّي المهراق الذي اختطف عنها الأبصار وأفسح طريقها. الصين تسهر بعينٍ قريرةٍ ومطمئنة باقتراب ضمّ عضوها التايواني الفارط، وأميركا تدخل طور مواجهة انتخابيّة عصيبة قد تؤذن ببدء تفكّك الوفاق الوطنيّ الحزبيّ، الذي كان بالأحرى وفاقاً ضدّ مصالح شعوب العالم ومصائرها. دولٌ قريبة تعيشُ أزماناً متباعدة، وشعوباً تخوض غمار أحلامٍ متنافرة لا يصل بينها دالّ ولم يقدر على حلِّ تناقضها أنموذج.

الذكاء الصناعيّ يقتات على الغباء الأخلاقيّ الذي يكاد يستولي على حسّ البشرية ويحشدها تحت راية "الأذكياء الحمقى". الذكاء الصناعيّ يتضخم سريعاً، وقد يكون هو الآخر مستهل ارتكاس الحضارة الصناعيّة في آخر تنويعاتِها الشرسة، ويكشف بعدئذٍ كم كان "التقدم التقني" متخلفاً!

الإنسان الحيّ – المُقصَى والمنزوي والمُهمَّش – يكبر كفرُهُ بأشياء هذه الحياة، في هدوءٍ خفيٍّ وتسارعٍ غير لافت، تماماً بقدر الضخّ الدعائيّ الذي يُغذّي إيمانَ أفرادٍ -كل شيء فيهم ميّت ما خلا أجسادهم- بأنهم أرباب الأشياء ومُلّاكها. و"عقيدة التقدم" تحثّ خطوها بغير هادٍ، منقشعةً عن عقيدةٍ جديدةٍ صلعاء عارية لا يسترها شيء، هي "عقيدة النكوص" المقصود والمعنيّ تماماً هذه المرة.

بدت أممٌ كثيرةٌ تغرق في قعر همومها الخاصّة ولذائذها المتفرقة، في عزلةٍ شعوريّة مستبدة، تَجزّ روابطَ قديمة، بات البَلى يغزوها. ليست أممّاً عربيّة أو شرقيّة أو عالمثالثية بالضرورة، بل أمم الأزمان الحديثة المغشيّة بسيلٍ متدفقٍ بالترهيب والطمع

تنحسر جدوى اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم بين الحكومات إزاء رحلة "القوى الغالبة" تحت قبّة النظام الدولي الشرعيّ من مواراة العنف وتلبيسه وإسباغه إلى وضع الصواريخ والقنابل على موائد الأمر والنهي. حتى لقد أصبحت مساءلة العدالة الكونية أشبه بإلقاء سؤال علميّ جادّ في مسرح كوميدي يؤمّه أكثر الدبلوماسيين لؤماً وجبناً.

بقية باقية من أحياء الضمير يهتفون في رمق أخير، بنَفَسٍ مُتقطّع، وَسَطَ شوارعَ تحاصرها كاميرات الدولة، وتشخّصها أعين رقابة "الأمن القوميّ" المتأهب، ليس في أيديها غير الصوت.

لم يطرأ على معنى "الإنسان" بعد سلسلةٍ طويلةٍ من التكسب الغربيّ باسمه والتمسّح بظلال أصالته، ما يغيّر حقيقةَ حاله الراسخة، وهو أنّه معنى نسبيّ محاصر في خارطة دلاليّة محدودة، مصبوغة بالبياض والزراق، لا يمكن له أن يتجاوزه. بل إنّ مجاوزة المفهوم الغربي لمعنى الإنسان – في النظر الغربي – تساوي شعار "إعلان الحرب" على الغرب كله. غرب الحقوق والتنوير والمساواة.

اللافت – من جهة أخرى موازية – أنّ دساتير الدول المتوسطة والصغيرة والصغرى وجُلّها بطبيعة الحال لا تقع في جغرافيا الغرب الصناعيّ المتقدّم تنصّ على أنّ إعلان الحرب العسكريّة لا يكون إلا في الحالة الدفاعيّة.

صورة رمزية. (المصدر: غيتي ايماجيز)

إنّ الإنسان في فكر "الوثوب إلى ما لم تصل إليه البشرية بعد ولا مفر لها من بلوغه"، من منطلق أنّ كل صعودٍ يقتضي صعوداً آخر مستحدث، هو في تصور هذا الفكر الهَوَسيّ: عتبةٌ للوثبات المتسلسلة الأبدية. والبشرية المقصودة هنا مجازٌ صِرفٌ مُقيّدٌ فقط في الذين ابتكروا خيال الأمس النقي وصنعوا عالم اليوم الأنيق، فحقّ لهم حينئذ أن يرسموا معالم الغد المشرق وإن بفرشاة دماء الآخرين وعلى كُرّاس رقابهم.

لم يعد للعقل الحسابي زاد عقلانيّ يطعم منه؛ وملامح جوع ثوري يطل عليه من شرفةِ مكر التاريخ، لا يسدّه إلا بالتهام نفسه. لا أحد ولا الغرب نفسه يعرف مصير الدرب الشائك الذي يتربص بالكائنات الحية ونظام أشيائها نظير سياسات الإبادة والاستغلال، رغم طفرة التكهنات التي تزاود عليها مراكز الرصد البحثية الحائرة. وفيما يظهر كأنه سباق مع الفناء المحتمل لنظام العالم القائم على وحدة الدولة القومية، تتدافع قوى الدول الكبيرة إلى نيل القدح المعلى في رسم معالم العهد الإمبراطوري الجديد في هيكل السياسة العالمية. 

شهد العالم العربي مئة عامٍ عاصفة، صهرت وعيه الوجودي بذاته، وأخذت بتلابيب أحلامه ومصائره، ليس أوحدها فشل مشروع الوحدة والاندماج الذي كان طوبى أكثر منه شيئاً آخر.  وقد كان من الممكن تخفيض تلك الطوبى درجة واحدة لو أنّ البلدان العربيّة في العالم الإسلامي كانت موحّدة في فتراتٍ زمنيّة متماسكة، بدلاً من حقيقة كونها عاشت مُجزّأة إلى وحداتٍ صغيرة تتمدد وتنكمش في مراحل مختلفة. انتهى الحال بالبرنامج الوحدوي الإدماجي إلى مزيدٍ من التفتت والانقسام، وشيئاً فشيئاً صار من المشروع معاملة المجال الجيوسياسي العربي على أنه مجالات مستقلة عن بعضها البعض في النمط الإنتاجي الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي المتجذر والقيم النخبوية الحاكمة والثقافة المحلية المهيمنة، فهي إذن عوالم أكثر من كونها عالماً واحداً. وقد كان المفكر العروبي الخليجي محمد جابر الأنصاري من أوائل الذين نبّهوا على أنّ القراءة التاريخية لطبائع "الأقطار العربية" هي خير مدخل لفهم حقيقة موقعها وواقع دورها، وذلك بالقياس على العهد السابق على قيامها، كما إنه ضروري وجوهري من أجل استكشاف دقيق لطبيعة التحديات التي تواجه مسارات اتحادها.

بالرغم مما تقدّم، لا توجد علّة تستأصل حقّ العرب في الحلم بوحدة سياسية تكون في صورة نظام كونفدرالي مثلاً، ولا ثمَّ سببٌ يلغي مشروعية هذه الفكرة التي اُختطِفَتْ من أنظمة جذرية فيما سبق، مثل النظام الناصري الذي صادم الإرث الروحي الحي للأمة العربية الإسلامية – التي ثَوَّرَ الإسلام طاقاتها وصَنَعَ حضارتها – فانتهى المطاف بالناصرية أنْ أذاقت العربَ كأس الهزيمة، وانتزعت بقايا أغلال الاستعمار الخارجي المتهالك لتقيم أركان الاستبداد الداخلي المتوحش. 

إن الشقاءات العربية التي ابتدأتها النكسة مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليج الأولى وغزو صدام للكويت وصولاً إلى "إسقاط العراق" ليست إلا مقدمات رئيسة أعادت جرّاءها العديد من الأنظمة العربية اصطفافها، وصاغت مشروعها الاستراتيجي المختلف في المنطقة، ليصبح العدو بعدئذ ليس بالضرورة إسرائيلياً أو إيرانياً، ولكن جزءاً منه أصبح "عربيّاً". تهشم مفهوم العداوة البلاغيّ القوميّ الذي واكب لحظات الاستقلال على صخرة المصالح الوطنية المُحدثة، ودخل مبدأ هذه المصالح في التدافع المحموم على الربيع العربي وما تلاه حتى اصطلب عوده واستوى على سوقه. صار إذن مقياس كل أمر – وعلى رأسها القضية الفلسطينية – هو ما تحققه من ربحٍ "وطنيّ" في حلبات السياسة الدولية، وما تدفعه من أذى سياسي ودبلوماسي "استراتيجي" محتمل.

هذا هو المشهد الذي اصطنعته دوّامات العقود العشر الأخيرة الدامية من حياة المجتمعات العربية ودولها، وهو إشقاء ذاتي يكاد يناهز في مقداره حجم التآمر القادم من الخارج.

وها نحن نكمل اليوم ثمانية أشهر منذ طوفان الأقصى. ثمانية أشهر مرّت منذ أن تفسّخ العالم المسخ عن جلده ولحمه، وذاب منه العظم، ولا تزال بعض الأعين عمياء عن شناعته، تبحث في قبحه عما يمكن أن يُؤول بصفته جمالاً، غير ظاهر. والحال أنه ليس عالماً جميلاً هذا الذي أشرب قلبه الفُحش، ولا شجاعاً حين تلبّسه الذل، وقد يكون جديداً، نعم، ولكن في وحشيّته وإبليسيّته وشرّه.

عَجَبٌ بائسٌ  كيف أن ظواهر برّاقة مثل "السوق العالمية" و"الاقتصاد الوطني"، وملؤها الهزل، قد أقامت على الضمائر: سلطانها، وانتزعت نبضاتها، ورقّصت في محاريب القلوب: شياطينها. 

إن لحظة الطوفان لا يمكن أن تكون إلا لحظة تأسيسية، ولا يمكن لها إلا أن تبقى خالدة، وعائدة، ومتجددة. وهي لحظة النبع والمداد، ويكفي أنها هشّمت أقداح النفاق وثلمت وجوهَ حفلة السلام التنكّرية.

أعود دائماً وأبداً إلى إصاخة السمع لصوت خطوات المجاهد الذي يشطر أحشاء النفق الدامس، وللصدى الذي يتفجّر في تكبيره وتهليله، مجاهد فرد شبه-أعزل، يحمل أمة على ساعده يفسح الكون لوجودها؛ وأُصَمُّ عن وقع الضوضاء الذي يترامى في أطراف أثواب المدن العربية الكثيرة البالية، التي يعظم في صوتها: صمتها.



2 مايو 2018
الشهادة والعرفان

إنّ الكمال إذا أطلق إنما يُراد به الله تعالى، ولكنّه يصحّ فيما دونه إذا قُيّد، فكان كمالاً بالنسبة. هذا الكمال…