لا يُشكّل إعلان التطبيع بين الإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيليّ نقطةَ البداية للعلاقات بينهما، إنمّا هو نتيجة حتميّة لسيرورة تراكمت عبر السنين من خلال ترابطات سياسيّة واقتصاديّة عديدة. لكن هذا الإعلان سيُشكّل مرحلة جديدة لتوّسع وتعزيز مصالح "إسرائيل" الجيو-سياسيّة والاقتصاديّة في العالم العربي، إذ لا تُشكّل الإمارات لوحدها مساحةً كسبتها "إسرائيل"، بل ستكون كذلك جسراً لها إلى عالم أوسع. وكما أثبتت حالات كثيرة سابقة وحالية، فإن أيّ علاقة مع "إسرائيل" هي أيضاً وسيلة لاكتساب خبرات أمنيّة، وأدوات قمع وتعذيب، وأسلحة.
نحاول في هذه المقال الوقوف عند أبرز مشاريع التعاون والتطبيع العسكريّ والتكنولوجيّ والتجاريّ بين دولة الإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيليّ في السنوات الأخيرة، ونرى من خلالها خنجر "إسرائيل" في قلب بلادنا العربيّة.
يدخلون الإمارات أفواجاً
نشطت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة في دول الخليج بشكلٍ مكثّف خلال العقدين الأخيرين، واستطاعت أن تبني علاقاتٍ مع شخصيات خليجيّة حكوميّة، وأخرى غير حكوميّة، وأصحاب رؤوس الأموال. بين العامين 2016-2018، زار الإمارات تحديداً أربعة وفود إسرائيليّة تضمّ شخصياتٍ رسميّةً وغير رسميّة. وفي عام 2019 زار الإمارات خمسة عشر وفداً إسرائيليّاً، لا يشمل ذلك رجال الأعمال الإسرائيليين الذين زاروها بشكلٍ مستقل. ولم تكتفِ الوزارة بإرسال وفودٍ إلى الإمارات، بل عملت أيضاً على استضافة رجال أعمال إماراتيين في "إسرائيل".
وعلى مدار تلك السّنوات، نسّقت الوزارة لحوالي 500 شركة إسرائيليّة من أجل فتح أسواقٍ لها في الإمارات، وتشبيكها مع شركات إماراتيّة. بحسب التقارير الإعلاميّة الإسرائيلية، فإنّ عشر شركات إسرائيليّة تقريباً تطلب المساعدة في الوصول إلى شركاتٍ إماراتيّة أسبوعيّاً. وعادةً ما يُقوم ممثلٌ عن الوزارة في مركز الصّادرات الإسرائيلية بالتشبيك بين الشّركات على الطرفين. في الوقت الراهن تتعامل الوزارةُ مع عشرين مشروعاً مشتركاً تصل قيمتُها إلى مئات ملايين الدولارات.
تتركز معظم الشراكات والصفقات الإسرائيليّة الإماراتيّة في مجالات المياه، والتكنولوجيا، والزراعة، والصحّة، والأمن والسايبر. وفيما يخصّ القطاع الأخير، والأبرز، فعلى مرّ السنين زار الإمارات ضباطٌ سابقون في الـ"موساد" والـ"شاباك" وجيش الاحتلال ليلعبوا دور المستشارين والخبراء، وقدّموا "النصائح" لضمان أمان قصور حكّام الإمارات، والفنادق، والمؤسسات العامّة.
اللهث وراء السايبر الإسرائيلي
ولأننا نعرف جيّداً دور رأس المال الإسرائيلي في تيسير مصالح الاستعمار، ليس من الغريب أنّ أوّل من مهّد الطريقَ لبناء العلاقاتِ بين "إسرائيل" والإمارات كان رجل الأعمال الإسرائيليّ ماتي كوخافي، والذي جنى الأرباح الطائلة بعد أن تمركَّزَ عملُه في الأمن الداخليّ، خاصّةً بعد أحداث 11 سبتمبر. يرأس كوخافي شركتين، الأولى هي AGT International المُسجّلَة في سويسرا والسويد، والثانيّة هي شركة Logic المُسجّلَة في "إسرائيل"، واللتين تعملان في مجال السايبر والأمن وإنترنت الأشياء.1"إنترنت الأشياء" (Internet of things): مصطلحٌ يُشير إلى ربط كافة الأجهزة والمهام والأغراض التي يستخدمها الإنسانُ يومياً على شبكة الإنترنت. أحد الأمثلة الأوضح على ذلك هو "البيت الذكيّ" الذي يمكن التحكّم بكلّ أجهزتِه وأجزائِهِ عبر الإنترنت. وكما هو معتاد في قطاع التقنية العالية الإسرائيليّ، فإنّ من يعمل فيه هم في غالبية الأحيان ضبّاط وخبراء سابقون في جيش واستخبارات الاحتلال، ومن هؤلاء اختار كوخافي عدداً من موظفي شركاته.
عقد كوخافي أول صفقةٍ بين شركته AGT والإمارات عام 2008، والتي خوّلتها "حماية المرافق الحيويّة في الإمارات". وعام 2011، باع كوخافي من خلال شركتيه؛ AGT وLogic، نظام رقابة يُدعى Falcon Eye، والذي يشمل آلاف الكاميرات ومعدات الرقابة. ولاحقاً باع مُعدّاتِ أمنٍ خاصّة لحماية منشآت الغاز والنفط الإماراتيّة، منها دروع الدفاع السايبريانيّ. وكما صرّح المتحدث باسم شركة Logic لصحيفة "هآرتس" عام 2008، فإنّ جميع نشاطات الشركة "تحدثُ بالتنسيق أو تحت إشراف وزارة الدفاع الإسرائيليّة".
اقرأ/ي المزيد: "إسرائيل على الجبهة الإلكترونيّة".
وحسبما تذكره مصادرُ أخرى، فإنّ لشركة Aeronautics Defense System الإسرائيليّة نشاطٌ مع الإمارات. لا تتوفر معلوماتٌ دقيقة حول المعدّات التي وفّرتها الشّركة للإمارات، إلا أننا نعرف أن الشّركة تُصنّع طائرات بدون طيّار وأدوات متطورة للمراقبة. وهي أوّل شركةٍ مدنيّةٍ إسرائيليّةٍ تحصل على تصريحٍ رسميّ إسرائيليّ للقيام ببعض عمليات جيش الاحتلال، ومنها العمليات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. 2منذ عام 2002، تستعين قواتُ الاحتلال بالشركة لتقديم خدماتٍ استخباراتيّة مرئيٍة في مجال الدفاع. خلال عام 2018، استخدم جيش الاحتلال طائرات الشركة لمهاجمة المتظاهرات والمتظاهرين في مسيرات العودة على الأطراف الشرقيّة للقطاع. ومن خلال إحدى الشركات التابعة لها، وهي شركة RT LTA Systems، وفّرت Aeronautics بالونات مزوّدة بكاميرات مراقبة، استُخدمت في سماء غزّة، وفي سماء القدس لمراقبة القطار الإسرائيلي الخفيف (الترام)، بعد هبّة أبو خضير عام 2014.
اسأل مجرّباً، اسأل خبيراً
لم تكتفِ رؤوس الأموال الإماراتيّة بالمعدات الأمنيّة التي يصنعها الاحتلال، بل هناك من أراد الاستفادة من الخبرة العسكريّة المكتسبة على مرّ السنين والتي شكّلت القاعدة الاساسية لقطاع التقنية العالية الإسرائيلي. مثالٌ على ذلك شركة DarkMatter الإماراتيّة، والتي اشتغلت خلال عام 2017 على جذب خريجي وحدة 8200 الإسرائيليّة والمتمرّسة في قمعنا للعمل لديها. 3وكانت الشّركة في العام 2016 قد استولت على برنامج جوسسة سريّ بالشراكة مع ضباط استخبارات سابقين من الولايات المتحدة، وراقبت مواطنيها من خلاله. تختصّ شركةُ DarkMatter، والتي أسسها فيصل البناني، ابن ضابط في الشرطة الإماراتيّة، في تكنولوجيا السايبر، وتربطها علاقة وطيدة مع الحكومة الإماراتيّة. كذلك عملت الشّركة على جذب خبراء إسرائيليين وإغرائهم لترك الشركات الإسرائيلية التي يعملون بها، ومنها شركة NSO.
وقد قامت شركة DarkMatter، من خلال شركة الواجهة Breej Holdings، بتطوير تطبيق هاتفيّ للرسائل يُدعى ToTok والذي يُمكّن الحكومة من مراقبة محادثات المواطنين ومواقعهم ونشاطهم الإلكتروني. من خلال منشورات حكوميّة، سُوِّق التطبيق في الإمارات على أنّه أداة "سريعة وآمنة"، خاصّةً في ظلّ منع الحكومة الإماراتيّة لاستخدام تطبيقات مراسلة عديدة. وعلى ما يبدو، فإنّ موظفي الشّركة الإسرائيليين والذين يعملون من مكاتبها المسجّلة في قبرص (قبل إعلان التطبيع الرسميّ) هم من ساهموا في تطوير تكنولوجيا تهدف إلى فرض المزيد من الرقابة على الملايين من الناس.
وكي لا ننسى دور شركة NSO التي عرفت بتوّرطها مع أكثر الانظمة الدكتاتوريّة والقمعيّة عبر العالم، والتي خسرت بعضاً من موظفيها لصالح DarkMatter، فقد وفّرت هي الأخرى خدماتها للحكومة الإماراتيّة تحت غطاء ودعم من الحكومة الإسرائيليّة، إذ وفّرت جهاز Pegasus والذي يعمل على اختراق الهواتف النقالة والتجسس على "الأهداف".
اقرأ/ي المزيد: "قمع في الأرجنتين؟ "إسرائيل" جاهزة لتقديم خبراتها".
كما كشفت مصادر إعلاميّة عن نشاط للشركة الإسرائيليّة ZIM في الميناء الإماراتيّ، وهي شركة شحن مائيّ، وواحدة من أكبر 20 شركة شحن عالميّاً. استطاعت الشركة أن تبني علاقاتٍ جيّدةً مع الشركة الإماراتيّة DP WORLD، والتي تُفعّل 82 ترمينال في 40 دولة. تتأمل ZIM من خلال هذا التعاون مدّ خطوط جديدة عبر الخليج الفارسيّ إلى إفريقيا وغرب الهند. لكن الاستفادة بالطبع متبادلة، فإن الشركة الإماراتيّة تتوقع أن تستعين بالتكنولوجيا التي تطوّرها ZIM والتي تُمكّنها من مراقبة محتويات السفن.
فيروس فوق الفيروس
في مقابلةٍ له على موقع "غلوبس" الإسرائيليّ الاقتصاديّ، قال مصدرٌ إماراتيّ إنه مقتنع تماماً باستفادة الإمارات من "إسرائيل" في الأزمة الصحيّة الحالية، وأكد أنّهم على قناعة بأن "إسرائيل" ستكون من أوائل الدول التي ستوّفر لقاحاً لفيروس "كورونا". في يوليو/ تموز الماضي، عقدت شركة Group42 الإماراتيّة اتفاقيةً مع شركة Rafael Advanced Systems الإسرائيليّة (مصنعة القبة الحديدية)، تنصّ على التعاون في الأبحاث لتطوير حلولٍ لمواجهة الفيروس. يعني التعاون ما بين الشركتين أنّ الإمارات ستستفيد من خبرات شركة Rafael، وسيمنح ذلك شركة Rafael مكاسب معنويّة واقتصاديّة لاستمرار عملها ولتعزيز معرفتها.
قامت ذات الشركة أيضاً بالتعاقد مع الشركة الإسرائيليّة "نانوسنت" من أجل تطوير فحص يكشف عن وجود الفيروس في الزفير الخارج من أنف المفحوص. يدعى الجهاز "ScentCheck" ومن المتوقع أن يوّفر نتائج بعد 30-60 ثانية، وستقوم الشركة الإماراتية بإجراء آلاف الفحوصات من خلاله في الأسابيع القريبة.
اقرأ/ي المزيد: "كورونا.. فرصة أخرى لتسويق قدرات "إسرائيل" العسكريّة"
وبعد يومين من إعلان التطبيع الرسميّ بين دولة الاحتلال والإمارات، عقدت شركة الاستثمار الإماراتيّة APEX اتفاقيةً مع الشركة الإسرائيليّة TeraGroup، وهي شركة تكنولوجيا توّفر الحلول لقطاعات مختلفة كالزراعة، والدفاع، والصحة والإلكترونيات، للاستثمار في أبحاث حول الفيروس. يعني أن المداولات بين الشركتين بدأت قبل إعلان التطبيع، وشكّل الإعلان دفعة أخيرة لها لإتمام الاتفاقية.
طائرات F-35 الأميركيّة: احتكار "إسرائيل" في المنطقة
وفيما يتعلق باتفاقية التطبيع بين "إسرائيل" والإمارات، فعلى الرغم من العلاقة الوطيدة بين الاثنتين واعلان الاتفاق الرسمي، الّا أن "إسرائيل" لا تزال ترفض بيع طائرات F-35 الأميركية للإمارات. وبينما تدعّي الإمارات أن الاتفاقية تحتوي على بند سرّي ينص على بيع الطائرات للامارات، الّا أن نتنياهو يُنكر وجود بند كهذا. وكخطوة احتجاجية، قامت الإمارات بإلغاء مشاركتها في لقاء ثلاثيّ برعاية أميركا.
يكشف هذا الأمر سقف الاتفاقيات المعلنة مع "إسرائيل": عدم التفوق العسكري عليها، أي أن شروط "إسرائيل" للسلام، هي ألّا يكسر حلفاؤها احتكارها على أكثر الأسلحة تطوّراً، وهو واقع تحافظ عليه الولايات المتحدة من خلال القانون العام 110-429، والذي ينصّ على أن تضمن الولايات المتحدة حفاظ "إسرائيل" على تفوقها العسكري، وعلى جميع التصديرات والمبيعات للاسلحة من الولايات المتحدة أن تتماشى مع هذه القاعدة.
بكلمات أخرى، لن توقف اتفاقيات "السلام" حرص "إسرائيل" على إخضاع العرب من حولها عسكريّاً، وحرصها على إمداد الأنظمة الحليفة من حولها بالمعدات الامنية التي ستُستخدم لاخضاع الشعوب أو "الاعداء المشتركين"، باستثناء تلك التي من الممكن أن تستهدف "إسرائيل" بأي شكل من الأشكال. بالإضافة إلى ذلك، تستمر الولايات المتحدة بالتأكيد لحليفتها "إسرائيل" أنها حتى لو باعت الطائرات للإمارات، فإنها ستعمل على إبقاء "إسرائيل" هي المتفوقة عسكريّاً في المنطقة، على الأرجح من خلال إمدادها بمعدات عسكرية أكثر تطوراً.
أما بعد…
وصف رجل أعمال إسرائيلي وضابط سابق في الجهاز العسكري الإسرائيليّ الإعلان الرسمي عن التطبيع بأنه سيمنح شرعيةً للدول العربيّة للشراء من "إسرائيل"، من خلال وسطاء إماراتيين، وهو ما كان يحصل في السابق، لكن الآن "السماء هي الحدود"، حسب تعبيره، أي لا سقف لإمكانيات التعاون. مصدر سعوديّ أكد على هذه الأقوال، قائلًا "العالم العربي سيستفيد من هذه الاتفاقية...لم تختف القضية الفلسطينية وستستمر بتشكيل عائق إلى حد ما، لكن الطريق مفتوحة".
وهي كذلك فعلاً، فالقضية قضية توّسع وتغلغل لكيان استعماريّ، وتعميق لسيطرة طبقات حاكمة ولمبانٍ وأنظمة قمع ستستفيد من خبرات "إسرائيل"، وهي استفادة محصورة في مواجهة شعوبها، فلن يعطي هذا التعاون تفوقاً للإمارات في مواجهة أعدائها تركيا وإيران، وكذلك فإن "إسرائيل" لن تحاربهم بالنيابة عنها. في المقابل، ستستفيد "إسرائيل" باستمرار من بسط سيطرتها، ومن رأس المال الذي يجري بسيولة مُعزّزاً منظومةً استغلالية كاملة.