عددُ رؤوس الماشية أكثر من عدد البشر. كان هذا الواقع في فلسطين قبل العام 1948، حين كانت البلاد واسعةً ممتدة. لكن باحتلال الأرض وتهجير الناس تقلّصتْ المساحاتُ وتقلّصَ معها عدد المواشي. في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة لم يعد هناك إلا ما يقل عن مليون رأس من الماشية، رغم تضاعف عدد الفلسطينيّين وازدياد احتياجهم للحوم ومنتجات الحليب. إذ أدّى تقلّص مساحات المراعي من ملايين الدونمات إلى بضعة آلاف متفرقةٍ من الدونمات إلى تعقيدات في تربية الماشية، وجعلها أكثر صعوبةً وأعلى تكلفةً.
في الضفّة الغربيّة تقلّص عدد البدو أيضاً، إذ ضيّقت عليهم "إسرائيل" وحاصرتهم في 183 تجمّعاً بدويّاً في مناطق "ج". تعتمدُ هذه التجمعات الرعيَ والزراعة وتربية المواشي كمصدرٍ أساسيّ للرزق وتعتبر من أكثر المجتمعات فقراً وتهميشاً في الضفّة. في تلك التجمّعات تغيب أدنى الخدمات الصحيّة والتعليميّة ومقومات الاستقرار، ويتعرّض الأهالي بشكلٍ منتظمٍ لاعتداءات مدروسة من سلطات الاحتلال والمستوطنين، تشمل كافة عناصر يومهم وحياتهم: الأرض والماء والبناء والحركة والتعليم والصحة والإنجاب والزواج، وبالطبع مصدر دخلهم الرئيس: الماشية.
بالنسبة لـ30 ألف بدويّ فلسطينيّ تقريباً يسكنون هذه التجمعات فإنّ المعركة هي معركة بقاء، خسارتها لا تعني فقد الأرض والرزق فقط، بل تعني فقد نهج حياة لم يألفوا غيره، توارثوه عن آبائهم وأجدادهم.
المراعي.. حُلم مواشي الفلسطينيين البعيد
يستهدفُ الاحتلال الماشية في مناطق "ج" ويعمل على تقليص عددها سعياً لإفقار الفلسطينيّين وإفساح المجال أمام المستوطنين لانتزاع أراضيهم ومراعيهم. أوّل أزمة يواجهها رعاةُ الماشية هناك هي تقليصُ مساحة الرعي، فنمط تربية الماشية التقليديّ في فلسطين يعتمد على الأعشاب البريّة والمخزون العضويّ في لحاء الشجر وبين الصخور، وحين يفقد الراعي قدرته على التنقل والرعي لإطعام الماشية يضطرُ لشراء الأعلاف ما يعني تكلفةً إضافيّة مرتفعة. لتغطية هذه التكلفة يبيع بعض الرعاة جزءاً كبيراً من مواشيهم، ويُجبَرُ آخرون في نهاية المطاف على اعتزال الرعي تماماً، لأنه لم يعد قادراً على تغطية نفقاته، والتوجه نحو العمل في المستوطنات.
اقرؤوا المزيد: "مناطق "ج".. خسائر مُركّبة للفلسطينيين".
بدأ أصحابُ الماشية في الضفّة الغربيّة يواجهون أزمة تقلّص المراعي منذ النكبة بطبيعة الحال، فبينما أُتيحت للبدو عام 1946 مساحةٌ مفتوحةٌ للرعي تصل حتى 6 ملايين دونم من شمال البلاد لجنوبها، لم يبق لمن لجأ منهم إلى الضفّة الغربيّة بعد احتلال فلسطين سوى بضع مئات آلاف الدونمات. ورغم أنّ أراضي الضفّة الغربيّة الصالحة للرعي تتجاوز مساحتُها أكثر من مليوني دونم، إلّا أن الاحتلال لا يسمح لهم بالرعي إلّا في ثلث هذه الأراضي، فمعظم الأراضي الخصبة الصالحة للرعي تقع في الأغوار ومنطقة شمال البحر الميّت المصنفة كـمناطق "ج". هناك، يسيطر الاحتلال على 85% من الأراضي تحت مُسميات "المساحات المغلقة"، "مناطق إطلاق النار"، "المحميّات الطبيعيّة" وتسميات أخرى كأراضٍ للمستوطنات، وبالتالي يمنع الفلسطينيّين من الدخول إليها.
بحجّة التدريب العسكريّ مثلاً، يقتطع الاحتلال أكثر من 400 ألف دونم من مناطق "ج" ويمنع الأهالي من دخولها، وإلّا فإن عقوبة السجن وغراماتٍ باهظة تنتظر من يُخالف منهم. كثيرٌ من الأراضي المصنّفة كـ"مناطق رماية" يستولي الاحتلال عليها بشكلٍ عشوائيّ ودون إخطار السكّان أو وضع لافتاتٍ تُشير إلى ذلك. وهناك أراضٍ مُعلنةٌ سابقاً كمناطق تدريب، يسكنها أو يجاورها أكثر من 20 ألف فلسطيني موّزعون على قرابة 100 تجمّع بدويّ ينتشر معظمها في الأغوار ومسافر يطّا.
معظم الأهالي في تلك التجمّعات يعتمدون الرعي والزراعة كمصدر دخلٍ رئيسيّ ودأبوا منذ أجيالٍ على رعي أغنامهم في الأراضي التي أغلقها الاحتلال بوجههم وحوّلها لساحةِ حرب. ومع مزيدٍ من الانكماش في مساحات الرعي، اضطر الرعاةُ للمخاطرة بأرواحهم والرعي في مناطق تجري أو قد تجري فيها تدريباتٌ عسكريّة. هذه تماماً قصّة الطفل عدي نواجعة الذي خرج صباح يوم سبتٍ خريفيّ مع أقاربه لرعاية أغنامهم في أرضٍ في غور الأردنّ تبقّى فيها بعض أعشاب جافّة. كان عديّ يقف قرب شجرة بطم عندما انفجرت به ذخيرةٌ من مخلّفات الاحتلال ولفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يصل المستشفى.
حاجزٌ آخر يصطدم به الرعاة في مناطق "ج" هو عشرات "المحميّات الطبيعيّة" و"الحدائق الوطنيّة" التي يسلب الاحتلال بذريعتها 20% على الأقل من مساحة الأغوار. تطرد "سلطة حماية الطبيعة" الإسرائيليّة الفلسطينيين من تلك الأراضي وتمنعهم من رعي مواشيهم أو التقاط الأعشاب لإعداد الطعام، وتسمح أمام أعينهم للمستوطنين بالرعي في تلك الأراضي الخصبة التي تضم غالباً مصادر غنيّة للمياه.
الاستيطان.. وسيلة للمصادرة أولاً
يفقد الفلسطينيون المزيد من المراعي أيضاً بُحجّة الاستيطان، إذ يسكن أكثر من 325 ألف مستوطن في ما يزيد عن 225 مستوطنة وبؤرة استيطانيّة تتوسّع ويزداد عددها باستمرار في مناطق "ج".
يعتمد المستوطنون تصنيف "المزارع الاستيطانيّة" للاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي وبشكلٍ أسرع، وأعلن رئيس حركة "أماناه" الاستيطانيّة بكلّ وضوح أنّهم يخططون لإنشاء مزيدٍ من البؤر الاستيطانيّة المخصصة لرعاة الأغنام والأبقار في مناطق "ج" لأنّها "أكثر نجاعة" من بناء المستوطنات التقليدية، إذ يخصص الاحتلال لها فوراً آلاف الدونمات، حتى لو سكنها بضعة مستوطنين فقط. مثل ما حدث مع "خربة مكحول" في الأغوار الشمالية، إذ قرر مجموعة من مستعمري مستوطنة مسكيوت عام 2020 وضع سياجٍ شائك يحيط بالأراضي الخاصة المملوكة للفلسطينيين أفقدهم أكثر من 30 ألف دونم من أراضيهم.
اقرؤوا المزيد: "الموت للعرب".. عن مستوطني شبيبة التلال".
لا تقف المأساة مع الاستيطان بما يسرق من أراضٍ تُخَصص للمستوطنات، فهناك الأراضي التي يُخصصها الاحتلال لشقّ الطرق لهذه المستوطنات وربطها ببعضها. في تلال شرقيّ القدس مثلاً، فقد أكثر من 2800 فلسطينيّ في 18 تجمّعاً القدرة على الوصول إلى أراضيهم بسبب التوسع الاستيطاني الذي قطّع أوصالهم وعزلهم عن مراعيهم، فاضطر جلّهم للتخلّي عن الرعي كمصدرٍ للرزق.
وعلى أراضي قرية سالم قضاء نابلس، بنى 5 مستوطنين بؤرة استيطانيّة زراعيّة، وبينما يُحظر على أهالي القرية عبور الشارع والرعي في أراضٍ مملوكة لهم، وتختنق في الحظائر المغلقة مواشيهم، تسرح هناك مواشي المستوطنين بحريّة.
وفي الوقت الذي تُسرق فيه أراضي الفلسطينيين وتُسيّج أمام أعينهم وتمنعهم "سلطة الطبيعة" من الرعي فيها "حفاظاً على البيئة"، تعيث مواشي المستوطنين دماراً في محاصيل الفلسطينيين وما تبقى من أراضيهم الزراعيّة، إذ يمنع جنود الاحتلال الفلسطينيين من تسييج أراضيهم ويهدم السياج فوراً. "خربة سمرة" مثلاً في الأغوار الشمالية، شهدت أكثر من مرة قيام المستوطنين ليلاً بجلب وإطلاق مئات الأبقار لترعى في مزروعاتهم، ما يتسبب في خسارة محصولٍ كامل.
اعتداءات يوميّة
"يشّنون علينا هجمات يوميّة حين نخرج إلى المراعي"، يقول بركات أبو محسن من تجمّع نبع الغزال البدويّ شمال غور الأردن في شهادةٍ لمنظمة "بتسيلم": "هناك أرض قريبة من المستوطنات اعتدنا في الماضي رعي مواشينا فيها، ولكن منذ أقيمت المستوطنة ونحن نعاني من اعتداءات المستوطنين بحيث أصبح الوصول إلى هناك أمراً مخيفاً".
اقرؤوا المزيد: "عند عتبة البيت.. اعتداءات المستوطنين في الضفّة".
في مناطق "ج" ينفّذ المستوطنون وأجهزة الاحتلال أشكالاً من الاعتداءات على الناس ومواشيهم تكمّل بعضها، يتصدّر فيها المستوطنون مشاهد "البلطجة" والهجمات الليلية ويتولّى جيش الاحتلال مهام الهدم والاعتقالات والمصادرة. في مسافر يطّا مثلاً، يقتحم الجنود ومعهم جرّافات وحفّارات تجمّعات السكان بانتظام، يرافقهم مندوبون عن الإدارة المدنيّة وعناصر من شرطة حرس الحدود لهدم زرائب الماشية ومصادرتها (وهي في غالب الأحيان مجرد خيم وشوادر بلاستيكية هدفها حماية المواشي من الريح والأمطار لا أكثر).
يوفّر جيش الاحتلال كذلك الغطاء والحماية إن لزمت للعصابات الاستيطانيّة التي تنفذ في الضفة الغربيّة اعتداءات سنويّة تزيد بالمتوسط عن 700 اعتداء في السنة (هذه النسبة هي للاعتداءات الموثقة فقط خلال الفترة 2017-2021). تهدف اعتداءات المستوطنين لتهجير الفلسطينيين والضغط عليهم للرحيل عن أراضيهم عبر دهس مواشيهم ونحرها ليلاً بالسكاكين وسرقتها، وتنظيم دوريات يعتلون فيها الخيول والتراكتورات وهم مسلحون بالعصيّ والبنادق ويقومون بطرد الرعاة من المراعي، أو يقومون بإلقاء صخور ضخمة عليهم من عُلُّوٍ، وفي بعض الأحيان إطلاق الرصاص الحيّ عليهم أو رجمهم بالحجارة أو إطلاق كلابهم عليهم فتصاب المواشي وأصحابها.
هذا حال قرية "التواني" جنوبيّ الخليل، التي يتعرّض أهلها لهجماتٍ دوريّة من ثلاث مستوطناتٍ تحيط بهم، وصلت حد تسميم المواشي وآبار المياه. ومن يفكر من الفلسطينيين بالشكوى لسلطات الاحتلال بصفتها "السلطة" الوحيدة في المنطقة، إمّا يتم إهماله أو يتعرّض لمزيد من التنكيل والاعتقال بتهمة "التعدي على المستوطنين وممتلكاتهم" ثم تغريمه بمبالغ كبيرة.
يستخدم المستوطنون أيضاً أسلوبَ حرق الأراضي لمنع الفلسطينيّين من الرعي فيها، وهذا يُضعف النباتات وقدرتها على الإنبات، كما تتسبب الجرافات والآليات الإسرائيلية الثقيلة والمواد المتفجرة المستخدمة في التدريبات العسكريّة بتآكل التربة وخسارة المزيد من الغطاء الأخضر. يستخدم المستوطنون المراعي كذلك مكباتٍ لنفاياتهم تاركين مخلّفاتٍ بلاستيكيّة تتناولها الأغنام وتتسبّب في مقتلها، فقد سجّلت وزارة الزراعة الفلسطينية العثور على قرابة 5 كغم من البلاستيك والخيطان في أمعاء كثيرٍ من الأغنام بعد موتها وتحللها. كلّ ذلك يترافق مع شحّ في المياه وأمطارٍ قليلة تعني مزيداً من التصحر وتراجعاً في جودة المساحات الرعويّة المتبقيّة.
يعيش بدو فلسطين ظروفاً قاسية، تفرضها عليهم حياة البداوة بالأساس، وتصبح هذه الحياة أقسى بكثير حين يجرّد البدويّ من أرضه ويذبح "حلاله" ويسرق أمام عينه ويتعرض للإهانة المستمرّة على يد المستوطنين. "كانت فلسطين من شمالها لجنوبها مفتوحة لترحال البدو هم وحلالهم".. تبدو هذه الحقيقة التاريخية مثل قصة خيالية تتلى على مسامع الأطفال إذا ما قورنت بحال البدو ورعاة الماشية في فلسطين اليوم. فـ"إسرائيل" حوّلت البدويّ أيضاً إلى لاجئ، وجعلت ترحاله مُحالاً، وسلبت منه حقّه في التجوّل في أرضه والانتفاع منها، وجعلت خيراتها حراماً عليه حلالاً للمستعمرين فقط.
*يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" منذ يناير/ كانون الثاني 2021.