وقع على الحركة الطلابيّة الفلسطينيّة تاريخيّاً دورٌ كبيرٌ في تحريك الشارع الفلسطينيّ وقيادته، لكن انخراطها في معركة "طوفان الأقصى" اليوم بدا أقلّ جديّة وأكثر تواضعاً وانحساراً. وقد طُرحت في الأشهر الأخيرة الكثير من الأسئلة عن غيابها وقُورِنت كثيراً بالحركات الطلابيّة العالمية، الأميركية خاصّة. فما السبب في ذلك؟ وما الذي طرأ على الحركة الطلابيّة في فلسطين؟ هل فعلاً غابت عن الساحة؟
الخبرة التي انقطع تراكمها
لطالما كان الطلبة الفلسطينيون رافداً لحركتهم الوطنيّة، وشكّلوا داخل فلسطين وخارجها، منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة على الأقلّ، جسماً وطنيّاً كانت له بصمته في كل مرحلةٍ تاريخيّة فكراً وممارسة. أما الجامعات الفلسطينيّة داخل الأرض المحتلة، فقد راكمت فيها الحركةُ الطلابيّة منذ سبعينيات القرن الماضي دوراً بارزاً في تحشيد الطلبة، وتعبئتهم للمشاركة الميدانيّة في مواجهة الاحتلال. كما أنّ الحركة الطلابيّة لم تتوقف عن تصدير القيادات الوطنيّة التي لعبت دوراً محوريّاً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وقادت التنظيمات والشارع الفلسطيني في انتفاضاته المختلفة.
أما في حالنا اليوم، فقد سبقت انطلاقَ الطوفان حالةُ ركودٍ عمّت جامعات الضفّة الغربيّة، إذ لم تكن قد خرجت تماماً من آثار جائحة "كورونا". وقد أدّى التغيير الذي تركته الجائحة بإغلاق الجامعات أبوابها، وتحوّل الدوام الوجاهي إلى إلكتروني، وابتعاد الطلبة وحركتهم عن مساحاتِهم المُحرِّكة، إلى تخرّج أجيال ما قبل الكورونا وتوافد أجيالٍ جديدةٍ لم تعرف معنى الجامعة بغير مفهوم الدوام إلكترونيّاً.
لم تستطع هذه الأجيال الجديدة مراكمة خبرةٍ كافيةٍ بالاتصال مع من سبقها، وبدا أن تأثير الحركة الطلابيّة على جموع الطلبة وطنيّاً واجتماعيًاً قد واجه تحدياتٍ حقيقيّة، خصوصاً في الجامعات التي كانت تُعطَى فيها الحركة الطلابيّة هامشاً في ممارسة نشاطها، مثل جامعة بيرزيت. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ حضور ونشاط الحركة الطلابيّة باعتبارها مكوّنةً من أُطرٍ طلابيّةٍ مختلفة، يتفاوت من جامعة إلى أخرى، وتتفاوت فاعليتها والمساحة التي تمنحها الجامعات لها حسب مستوى تدخل السلطة السياسيّة فيها، فعلى النقيض من بيرزيت مثلاً أعلنت الجامعة الأمريكية في فروعها المختلفة تعليق أعمال مجلس الطلبة في آب/ أغسطس الحالي.
اقرؤوا المزيد: "معركة طلبة بيرزيت على ما تبقى من الهامش".
تزامن ذلك مع استنزاف الحركات الطلابيّة بالمشاكل الأكاديمية التي تصاعدت في السنوات الأخيرة نتيجة قرارات صدرت عن إدارات الجامعات، تعلّقت برفع الأقساط بشكلٍ أساسي، إلى جانب قرارات أكاديميّة وجامعيّة أخرى تكررت في جامعات مثل بيرزيت والنجاح وبيت لحم. هذا إلى جانب انحسار العمل الطلابيّ ليكون الطابع الخدماتي الأسرع والأقلّ جهداً هو الأبرز في نشاط الأطر الطلابية، بينما تراجع دورها النقابيّ والثقافيّ والوطنيّ. ولم يكن هذا التراجع إلا انعكاساً للحالة المجتمعيّة والجماهيريّة التي تعيشها الضفّة، وهو ما يمكن أن نراه في أبسط فعاليةٍ وطنيّة تُنظّم في مراكز المدن، من حيث قلّة التفاعل وقلّة المشاركين.
عين الكابتن تلاحق الطلاب
لم ينفصل كلّ ذلك عن المجهود الذي تبذله المخابرات الإسرائيليّة وأجهزة الأمن الفلسطينيّة في ملاحقة الطلبة واعتقالهم. علماً أنّ إطارين طلابيين هما الكتلة الإسلاميّة، الذراع الطلابيّ لـ "حركة حماس"، والقطب الطلابي، الذراع الطلابي لـ "الجبهة الشعبيّة"، محظوران حسب القانون الإسرائيلي، إذ يكفي الانتماء لهما سبباً لاعتقال الطلبة وتحويلهم للمحاكمة1جرّم الاحتلال الكتلة الإسلامية وصنّف أعضاءها "بالإرهابيين" في قانون أصدره عام 1996، في حين أعلن عن القطب الطلابي منظمة غير مشروعة عام 2020.. وينعكس هذا المجهود في تخصيص مخابرات الاحتلال ضابط مخابرات مهمته مراقبة بعض الجامعات، كجامعة بيرزيت، وهو المسؤول عن استدعاء الطلبة واعتقالهم وتهديدهم بوسائل مختلفة، وذلك على النمط الذي يعامل به الاحتلال القرى والمناطق في الضفة الغربيّة، إذ يخصص لكل منطقة ضابط مخابرات.
اقرؤوا المزيد: "من يبيع الفلافل أيضاً.. عن ملاحقة العمل الطلابيّ في بيرزيت".
انهمر الطوفان، فأين جموع الطلبة؟
لم يكن الانخراط الجماهيريّ في الضفّة منذ بداية الطوفان بالمستوى المأمول، وقد ضيّق الاحتلال الخناق على الضفّة مباشرةً، وشنَّ حملات اعتقالات واسعة شملت الفاعلين السياسيين الحالين والسابقين، حتى وصل عدد الأسرى إلى 10 آلاف أسير، كما أحكم الاحتلال إغلاق الضفّة بالحواجز المنتشرة على أبواب القرى والمدن. وبطبيعة الحال لم يكن الطلبة منفصلين عن هذا الواقع، فقد ارتفعت الاعتقالات في صفوفهم، وقد زادت أعداد المعتقلين عن 150 طالباً وطالبة في الفترة التي تلت اندلاع المعركة في كلّ من جامعتي بيرزيت والنجاح، واعتقل الاحتلال 3 رؤساء لمجلس طلبة جامعة بيرزيت، والذين تعاقبوا على نفس الدورة لعام 2023-2024، كما اعتقل كل أعضائه من الطلاب وطالبتين كلهم تعاقبوا على سكرتاريا اللجان التي حصدتها الكتلة الإسلامية والقطب الطلابي خلال دورته الأخيرة، كما تكررت حالات الاستدعاء بحق الطلبة واتسع نطاقها2يزيد عدد الطلبة الأسرى في جامعة بيرزيت عن 140 أسيراً وأسيرة، وما يزيد عن 70 منهم تم اعتقالهم بعد الحرب حسب حملة الحق في التعليم في جامعة بيرزيت بتاريخ 17/4/2024. أما جامعة النجاح فبلغ عدد الأسرى المعتقلين من الكتلة الإسلامية 100 طالب وطالبة، 80 منهم اعتقلوا بعد طوفان الأقصى حسب ممثل الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح من بينهم 30 طالباً وطالبة من أعضاء مجلس الطلبة ومؤتمر مجلس الطلبة، ورئيسين لمجلس الطلبة (مقابلة خاصة لموقع متراس).
هذا إلى جانب انشغال الأجهزة الأمنية الفلسطينية في ملاحقة الطلبة باعتقالهم وتعريضهم للتعذيب الجسدي الشديد، بالإضافة لبثّ الخوف في نفوس أهالي الطالبات على وجه الخصوص، وذلك بالاتصال على أولياء أمورهن، واستدعائهن للمقابلة في مقرات الأجهزة الأمنية، والطلب منهم كفّ بناتهن عن ممارسة نشاطهم الطلابي، بما في ذلك التفاعل على مجموعات الطلبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والنشاط في نطاق الحركة الطلابية داخل أروقة الجامعة، وتهديدهم بعدم السماح لبناتهم بإكمال جامعاتهم في حال استمرّين في نشاطهن الطلابيّ3بناءً على مقابلة مع طالبة في جامعة بيرزيت استُدعي والدها للمقابلة في أحد مقرات الأجهزة الأمنية للضغط عليها ومنعها من التعليق والنشر ومشاركة المنشورات التي تتعلق بالحركة الطلابية ونشاطها الوطني على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بطلبة الجامعة، وكذلك تهديده من مشاركتها في النشاطات التي تتعلق بنشاطات الحركة الطلابية داخل أروقة الجامعة. (المقابلة خاصة لموقع متراس.
وقد استفادت إدارات الجامعات من الدوام الإلكترونيّ الذي أصبح رائجاً خلال جائحة "كورونا"، فسارعت لاستخدامه مع انطلاق الطوفان، فتحول الدوام في معظم الجامعات إلى دوام إلكترونيّ، بحجة انتشار الحواجز وإغلاق الطرق وضيق الحالة الاقتصاديّة، وبالتالي صعوبة وصول الطلبة والأساتذة إلى الجامعات، وهو ما أبعد الطلبة عن ميدان تحركهم الأساسي.
هذه الممارسات ليست جديدة على الحركة الطلابيّة، وإن تصاعدت وتيرتُها منذ بداية الطوفان مكلِّفةً الحركة الطلابيّة في الجامعات خسارةَ صفّها الأول وكوادرها النشيطين وذوي الخبرة في السجون، إلا أنّها لم تكن لتكون بهذا التأثير، لولا أنّ مجتمع الطلبة لم ينشغل بشكلٍ جماعيّ وسريع لصالح الانخراط في الطوفان.
هذا المجتمع الطلابيّ هو في غالبه المجتمع القادم من مدارس تشرف عليها السلطة الفلسطينيّة، أو تُقيّدها وتُضيق على أي محتوى ذي طابع مقاوم قد يُقدّم فيها، غير مدخرة أي جهد لعزل الطلاب في كل فرصةٍ عن همومهم الوطنيّة، وقاصرةً "الخطاب الوطنيّ" على كل ما هو رمزيّ من تراث وإحياءٍ رمزي لبعض المناسبات الوطنية. كما حيّدت هذه السلطة دور العديد من المراكز المجتمعيّة كالمساجد والمراكز الثقافيّة ذات التوجهات الواضحة في بناء جيلٍ مسيّس.
في ظل هذا السياق، لم يعد غريباً أن يظهر في أوساط الطلبة الجامعيين إقبالٌ واسع على الملتقيات الدينيّة والثقافيّة التي تعزل نشاطَها الدينيّ أو الثقافيّ عن السياسيّ، وتفضّل أن تضع مسافة بينها وبين الحركات الطلابيّة السياسيّة داخل أسوار الجامعة.
اقرؤوا المزيد: "التجربة التي أُجهضت: الحركات الطلابيّة في مدارس الضفّة".
لا ينعزل ذلك عن حالة مجتمع الضفة الغربية المُغرق بهمومه المادية نتيجة السياسات الاقتصاديّة التي حاولت هندسته خلال سنواتٍ مضت، وعزّزت قيم الفردانية فيه، فحسب أحد كوادر الحركة الطلابيّة في جامعة بيرزيت في مقابلة خاصة لـ"متراس"، فإنّ أعداد الطلبة الذين يتوجهون إلى الحركة الطلابية في بداية الفصل لحلّ مشاكلهم المتعلقة بالأقساط -على سبيل المثال- لا يُمكن مقارنته بعدد الطلبة الذين يتوافدون لوقفة تدعو لها الحركة الطلابية على دوار المنارة في رام الله ولا تتجاوز أعداد الهاتفين فيها العشرات. أما سنوات الجامعة فهي في الغالب سنوات للعبور إلى السلم الوظيفيّ في الضفّة التي تعيش استنزافاً اقتصاديّاً واضحاً.
الحفر في الصخر
منذ بداية الطوفان تدعو الحركة الطلابيّة في جامعة بيرزيت لوقفات يوميّة وأسبوعيّة ومسيرات داخل أروقة الجامعة، وكذلك على دوار المنارة في رام الله، كما أنّها وجهّت عدة مرات حافلاتها إلى مدخل البيرة الشمالي في دعوة للمواجهات. وأيضاً دعت الحركة الطلابية في بيرزيت لمظاهرة أمام القنصلية الكنديّة في رام الله للاحتجاج على دعم كندا للاحتلال، كما توافد عشرات الطلبة في نيسان/ أبريل الماضي إلى مبنى المتحف الفلسطينيّ القريب من مباني الجامعة لطرد رئيس ممثلية ألمانيا في السلطة الفلسطينية، الذي كان يعقد هناك اجتماعاً مع عدد من السفراء والممثلين من دول الاتحاد الأوروبي، ورشقوه بالحجارة.
وقد دعت جامعات أخرى إلى وقفات متواضعة داخل أروقة الجامعات مثل جامعة النجاح وجامعة بيت لحم. لكن زخم هذه التظاهرات والوقفات إذا ما قورن بمشاركة طلبة الجامعات وكوادر الحركة الطلابيّة في الانتفاضة الأولى، التي أمّ فيها الطلبة مظاهرات وتحدّوا الحواجز للوصول إلى جامعاتهم وتغلّبوا على إغلاقها، والانتفاضة الثانية التي قادها أبناء الحركة الطلابية، أو حتى بهبّة القدس عام 2015 (هبة السكاكين) التي فجّرها أبناء الحركة الطلابية؛ سنجدها أقلّ حضوراً وفاعلية من حيث انخراط الطلبة في الطوفان، وكذلك أثرهم.
رغم ذلك، لم يكف الطلبة عن المحاولة. خالد المحتسب، تامر فقها، أيسر صافي، من قيادات وكوادر الحركة الطلابيّة في جامعات بيت لحم- النجاح- بيرزيت على التوالي، ارتقوا خلال الطوفان. نفّذ الشهيد المحتسب عمليةً في القدس، أما فقها فقد طارده الاحتلال وخليته في طولكرم بعد تنفيذهم عملية بيت ليد، أما صافي فقد استشهد أثناء إلقائه الحجارة في مواجهات دعت لها الحركة الطلابية في ذكرى النكبة. وفي تموز/ يوليو الماضي، أعلن جهاز المخابرات الإسرائيلي اعتقال خلية عسكرية تضم 5 طلبة ينتمون للكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، وزعم بعد مصادرته أموال وسلاح كان بحوزتهم نيتهم تنفيذ عملية.
هؤلاء الشهداء الثلاثة يمثّلون النموذج الذي يمكن من خلاله فهم طبيعة الحركة الطلابيّة اليوم في الضفّة، التي قدّمت بأبنائها نموذجاً مقاوماً، لكنها عجزت عن تقديم حالة طلابية جماهيرية واسعة تخرج من أسوار الجامعة وتصل إلى الشارع.
سعت هذه المقالة لرصد واقع الحركة الطلابية في الضفة الغربية، وإن كانت قد ركزت على التحديات التي تواجهها والتقييدات التي تُمارس بحقها، فإن ذلك يأتي في إطار محاولة فهم ركودها اليوم وانحسار مشاركتها في معركة طوفان الأقصى.