من على هضبةٍ ما بين حِشمة شراكسة قرية الريحانية (قضاء صفد) غرباً، ومجون مغاربة قرية ماروس شرقاً، كانت قريةُ علما تتوسط حنق القريتين نهاراً، فيما يؤدّي السكون بعثَ صوت بدر الدين المسحّر ليلاً، ليدوّي إلى حيث بحرة الحولة وما حولها شمالاً. إلى الجنوب، كان كلُّ من في قرية الراس الأحمر وضيّعة دلّاته، يعرف أنّ في علما مسحّراً لصوته نبرةٌ ملائكيةٌ تُوقِفُ ساري الليل. لا طبلة لديه ولا طبل، غير سراج زيتٍ وعصا في يمينه لا تُخطئ بابَ أيٍّ من بيوتها. الأغرب من كلّ هذا أنّه أعمى؛ "ما بشوف ولا طسة" على حد علم العلماويين وقولهم، فعُرِف بـ"أعمى علما".
لكن، كيف لأعمى أن يُسَحِّرَ في الناس؟ ظلّ يسأل الناسُ متندرين مرةً، ومسحورين به مراراً، فالعمى وطوف أزقة القرية ليلاً، أطفى على بدر الدين هالةً فاق سحرُها هالةَ سحور رمضان. كان بدر الدين يُقيم نيام الليل مارّاً بين حيٍّ وآخر طوال شهر رمضان دون أن يخدشه لوحُ صبّار أو يتعثرَ بحجر.
لم يولد بدر الدين محمد بدر الدين أعمى، هذا ما أجمع عليه أهلُ عَلْمَا، إذ يذكرونه صبياً يشتلُ الماءَ على ظهر الجحش من نهر عوبـا إلى البساتين، وله نظرات كانت "تأخذ حقّها من الحَجَر" كما يقولون. إلا أن العلماويين اختلفوا في كيف ابتلاه العمى، فمنهم من قال إنّ بدر الدين فقد بصرَه بعد دهنه عينيه بسمّ الفئران عمداً، كعمى مؤقت في زمن تركيا، تحايلاً منه وهروباً بنفسه من "السفر برلك" حين ألزمت الدولة العلية الشبابَ التطوّع في الحرب. دهنُ العينين بسمّ الفئران، طريقةٌ ابتكرها فلّاحو مصر كتشويهٍ مؤقت، تهرّباً من التجنيد الإجباريّ في زمن حكم محمد علي، وحملها المصريون إلى فلسطين مع حملة إبراهيم باشا على بلاد الشّام.1كل رجال الباشا، محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، خالد فهمي، إصدار: دار الشروق، الطبعة الثامنة 2018..
بينما يقول آخرون إنّ بدرَ الدين فَقَدَ بصرَهُ فجأةً أثناء حضوره حلقةَ ذكرٍ في زاوية الشيخ سعيد الرفاعيّ في القرية، إذ ضربه حـالٌ في أوج الحضرة، رأى فيه نورَ النبيّ فسَرَقَ النورُ منه النظرَ. هذه الروايةُ الأحبُّ إلى قلب مُسَحِّرِنا، فشتان ما بين سمَ الفئران ونور النبيّ. نورٌ أفقده بصرَ العين ومَنَحَهُ بصيرةَ القلب، وأحوالٌ من عمر المكان والسّكان فيه، استطاع أن يُبصرَها دون أن يراها.
عاش بدرُ الدين مسحِّرَاً ومُفَسِّراً للمنام. ومن فضل الله عليه كان عارفاً وكاشفاً للأسرار على ذمة أهل القرية التي كانت موطن الحكايات ومخبأها لأنها بلدةٌ كَفريةٌ (أثريّة). فعلما يقولُ أهلُها إنّ اسمَها يعودُ إلى لفظٍ أراميٍّ ويعني "المخبأ"، وأكثر ما حيّر الناسَ فيها "خَسْفُ الهُوتي" موقعٌ يقع عند واد الحنداج شرقيّ القرية، على شكل حفرةٍ تَغُور في الأرض بدت مخسوفةً. في كعب الخسف جدرانٌ صخريّةٌ حُفِرَ عليها صورٌ لموكب عروسٍ باقٍ إلى يومنا.
الذي يعرفُه الناسُ أنّ الله قد خسف الأرضَ بالموكب غضباً عليه دون أن يُفسِّر أحدٌ السّبب، إلا بدر الدين الذي بقي يقول للناس إنّ الموكب حين مرّ من تلك المنطقة كان من بينه امرأة تحمل رضيعها، ولما وسّخ الطفل على نفسه، قامت أمُّه ومسحت مؤخرته برغيف خبزٍ والعياذ بالله، فخسف الله بالموكب كلّه الأرض. ولمّا سألوه: "كيف شفتهن؟"، "شفتهن بالمنام"، قال بدر الدين.
من عادته في اليوم الذي يسبق حلول شهر رمضان، أن يجمع ثلاثين حبةً من الحصى، يَعقِدُ عليها بمنديلٍ، وكل يوم يمضي من الشهر الفضيل، يُخرج بدر الدين واحدةً من حبات الحصى مُحصياً بذلك المارق من الشهر والباقي منه. لا يرمي بدر الدين الحصى، بل يتركها تذكاراً في البيت الذي قُدِّرَ له الإفطارُ فيه، فمن عادة أهل علما ترك أبواب بيوتهم مفتوحة وقت الإفطار. أبوابٌ مشرّعةٌ للضيف ولِعابرِ السّبيل ولبدر الدين، فليس من بيتٍ في كلّ علما، إلا ودقَّ أعماها على بابه بالعصا، وترك فيه حبةً من الحصى، كما يذكر أهلُ القرية.
تحت سِتر كُحل الليل، كان يهمُّ بدر الدين مهلِّلاً وموحداً الله، ومنادياً النيامَ من عباده بصوتٍ تختلط فيه نبرةُ المُسَحِّرِ بِبحة المُخَبِّر، ما كان يجعل السّامع المستقيظ يسرحُ في هموم الدين والدنيا. من زقاق دار عجاويّ إلى مسارب دار هجاج إلى الطعّان من أهل علما وهكذا، يطوف بدر الدين القرية مرددِّاً "قوموا يلي ما بدوموا"، إلى أن يقترب من بيت فلان، فينادي عليه باسمه وبلكنةٍ مسجوعةٍ: "قوم يابو حسين، العمر مش مرتين". عند عتبة الأرملة نجمة الهَجَاج -"داية" القرية- يُثقل بدر الدين مشيته ويخفت صوته قائلاً: "إلي ما لو رب إلو رب"، مُذكِّراً إياها بموت ربّ بيتها، فيما ربُّ العباد حيٌّ لا يموت.
لم تكن نجمةُ الهَجَاج ترتاح لأعمى علما، فقد رحلت عن وجه الدنيا مشكّكةً به، وتقسم اليمين بكتاب الله أنّ بدر الدين مفتح العينين ويرى أفضل مما ترى. أما دليلها، فحين كان يقتربُ المسحّر من عتبة بيتها ليلاً، كان نباح الكلاب الجعارية يملأ الزقاق من كلّ فجٍّ عميقٍ، إلى أن تسمع نعصة كلب ولّى هارباً بفعل رمية حجر. تقول "الداية": "كيف يُمكِنُ لأعمى أنْ يعرف موقعَ الكلب ويقذفه بحجر دون أن يُخطئه في عزّ دين عتمة الليل؟". ليست "الداية" وحدها من شكّك بعمى بدر الدين، بل كثيرون غيرها.
في واحدة من ليالي رمضان مع حظر التجول الذي فرضه الإنجليز على إثر الثورة أواخر الثلاثينيات في قضاء صفد، داهمت دوريّةٌ إنجليزيّةٌ من عسكر الزنار الأحمر قرية علما، وذلك بعد أن انتبه عساكرها إلى ضوء سراج مسحّرها متحركاً بين أزقتها. مسحّرٌ بلا طبّالة وأعمى ويحمل سراجاً!! حالة أثارت شكوك العسكر، ولولا فزعة خطيب الجامع وبعض الأهل لسحب العساكر المسحِّرَ واحتجزوه.
مع قدوم المختار تحلّقت نصف القرية حول الدوريّة المحيطة ببدر الدين. حاول المختار والخطيب أن يقنعا عساكرَ الدوريّة أنّ بدر الدين أعمى وأنّه مسحّر القرية. استغرب العساكر؛ مُسَحِّرٌ أعمى؟ "وين طبالته؟" سأل واحدٌ منهم. "وبعدين، إذا كان أعمى لشو سراج الزيت؟"، "من شان يشوفني كل معمي على قلبو"، ردّ بدر الدين، "من شان ما تحوفوا2أي تهجم عليه..وحوش البريّة"، تَدَّخَل المختارُ مقاطعاً.
كانت علما فعلاً مُحاطة بتلال حُرجيّة ومغاور معروف ٌعن جَراحة وحوشها التي يتهيّبُها فلّاحو وصيّادو المنطقة. في هذا يُقال إنّ إبراهيم باشا حين قام بجمع سلاح فلّاحي فلسطين سنة 1837 بعد الثورة عليه، كانت علما القرية الوحيدة التي ترك لها سلاحَها لضراوة وحوشها. صاح عسكر الزنار الأحمر بعد طلقين بارود في الهواء: "الكل على دارو وانتعوا أعماكو معكو".3الحكم المصريّ في فلسطين، 1831-1840، خالد محمد صافي، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2010، ص131..
لا يتقاضى بدر الدين أجراً من أهله، إلا ما كانت تفيض به نفوسُهم عند نهاية الشهر الفضيل، من فطرة العيد والإكراميات. بعضهم يؤدّيها قروشاً، ومنهم من يقدِّمُها مَدين4مدين: من مَد، وهي وحدة قياس قديمة للقمح.. من القمح أو صاعين من الشعير، أو ما تيّسر من حوائج البيت، مثل الرز والسّكر والزيت. يَعرِفُ بدرُ الدين السّخيَّ من البخيل في أهل علما، والكريم يُكرمُه بصوته منادياً عليه باسمه عند السحور. بينما يكتفي بدبّ عصاه على باب ذلك الذي لم يتعود على فتح كفيه إلا عند سحجة زفة العريس، فمن الناس من يدخل المال إلى جيبه ومنهم إلى قلبه، يقول بدر الدين.
ظلّ أعمى علما مسحّرَ رمضان طوال سني الأربعينيات حتى سنة الهجيج. يتذكّر الحاج أحمد العجاوي آخر رمضان قضاه العلماويون في قريتهم علما. كان ذلك في تموز من سنة 1947، قبل عامٍ واحدٍ من عام الهجاج والرحيل، إذ حلّ رمضان حينها وقد غدوا لاجئين في بنت جبيل اللبنانية. يذكر الحاج عجاوي في رمضان الأخير من عمر القرية، كيف أصبح بدر الدين المسحّر ينادي الناس "قوموا نيّال إلى بصومو" كما لو أنه أحسّ الرحيل وتحسس الاقتلاع والترحيل.
"بماروس بطير روس وذبح صَلحة يوم الصُلحة"، نبوءة متعلقة بقريتي ماروس وصَلحة المجاورتين لعلما، بقي يرددها بدر الدين الأعمى ذلك العام، إذ اختلطت عليه التهاليل بالموثبات والتمائم بالنبوءات. في العام التالي من أيار سنة الـ48 هاجمت عصابات اليهود بعد سقوط صفد قرية ماروس وجزت رؤوس بعض أهلها. وفي تموز من نفس العام حين أصرّ نصف أهل صَلحة على البقاء والتصالح مع قوات الهاغانا على تسليم القرية، طلب منهم ضابط الـ"هاغاناه" تسليم 120 بندقية فدية لبقائهم. قدّم أهلُ صَلحة 24 بندقية، تبيّن أن واحدة منها تعود إلى ضابط يهوديّ قُتل في معركة المالكية ضد جيش الإنقاذ. حينها صدرت الأوامر بإلغاء الصلح والتخلص من كلّ الباقين من أهل صَلحة، فذُبح 51 منهم.
حين فجّت الزغاريد والغناء من عند شراكسة الريحانية، عرف أهل علما أن اليهود وصلوا وحان دورهم. هججت العصابات أهل القرية باستثناء بعض الختاير والعجائز بمن فيهم بدر الدين المسحّر. لم يعرف أهل علما مصير من تركوا وراءهم إلى أن تسلل أحدُهم إلى القرية، فدلّته رائحةُ اللحم المتعفن إلى هوية الباقين ومصيرهم، والذين تكلّف شراكسة الريحانية بدفنهم، بأمر من ضباط الـ"هاغاناه" اليهود. لم يغادر أعمى علما القرية كما لم يغادر قلوب أهلها، لتبقى حكاية بدر الدين عالقةً في ذاكرة أهله إلى يوم الدين.