إذا كانت الانتفاضة الأولى هي القابلة التي استقبلت ميلاد حركة "حماس" بعد إرهاصاتٍ طويلةٍ تبلوّرت في النهاية في صورة هذه الحركة، فإنّه يمكن القول إنّ الانتفاضة الثانيّة مثّلت الحاضنة التي تبلور فيها ميلادٌ ثانٍ للحركة، تستمدُ منه الحركة اليوم كلّ الفضل المتحصل لها.
أخذت "حماس" صورتها من الانتفاضة الأولى، وصاغت نفسها بالشّكل الذي يؤهلها للمشاركة في كفاح الفلسطينيين، إلا أن توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السّلطة الفلسطينيّة، سدّد ضربةً لآمالها، أدخلتها في حيرة امتدّت إلى حين انفجار الانتفاضة الثانيّة. وهكذا، بعد مرحلةٍ مريرةٍ من المعاناة امتُحنت فيها الحركة وتعرضت فيها لضرباتٍ أمنيّةٍ جذريّةٍ؛ وجدتْ في الانتفاضة الثانيّة متنفسَها، وفرصَ عودتها إلى الحياة.
بيد أنّ هذه المفصلية التي مثّلتها الانتفاضة الثانيّة في تاريخ "حماس" ومسارها، بدا حضور الحركة فيها، في أوّل الأمر، مرتبكاً، وبالقدر الذي عرّضها لانتقاداتٍ كثيرةٍ من منافسيها الحزبيين، بما فيهم حركة "فتح" التي تساءلت عن غياب عمليات الحركة الاستشهاديّة في بداية الانتفاضة. كما طَرَحَت الجماهير الفلسطينيّة التساؤلَ ذاته، وهتفتْ في مظاهراتها تدعو كتائب القسام للتفجير في تل أبيب (يا محمد ضيف يا حبيب فجر فجر تل أبيب)، (الانتقام الانتقام يا كتائب القسام)، فهل تأخّرت "حماس" فعلاً عن الالتحاق بالانتفاضة الثانيّة؟
المشاركة في المظاهرات وتنظيمها
بدأت الانتفاضة الثانيّة بمظاهرات تقليدية غير مسلّحة تقصد حواجز الاحتلال، تحتج على اقتحام شارون للمسجد الأقصى، وتُعبّر في عمقها عن الموقف الجماهيريّ من مسيرة التسوية التي تأكّد فشلها في مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك. في هذه الحدود كانت "حماس" حاضرة في قلب تلك المظاهرات، بالرغم من أن العديد من كوادرها وعناصرها كانوا ما زالوا داخل سجون السّلطة الفلسطينيّة.
ومع هذه الحقيقة التي تكشف عن الأوضاع الخاصّة التي فرضتها السّلطة على "حماس"، فإنّ هذه الأخيرة لم تقتصر فاعليتها على مجرد المشاركة في المظاهرات، وإنما كانت فاعليتها في تنظيمها. وهذا ما يتضحّ حين ملاحظة أنّ المظاهرات قادتها وحافظت على فاعليتها أول الأمر مجالسُ طلبة الجامعات في الضّفة الغربيّة، التي كانت تُهيمن الكتلة الإسلاميّة على أكثرها، بما فيها جامعة بيرزيت التي قاد مجلس طلبتها مظاهرة حاشدة إلى حاجز قلنديا يوم اقتحام أريئيل شارون للمسجد الأقصى. منذ ذلك الوقت لم تنقطع المظاهرات من الجامعات، ولا من المساجد التي صارت منطلقاً لكل المظاهرات فيما بعد.
ما كان يدعو للتساؤل عن عمليات الجناح العسكريّ لـ"حماس" هو القتل الواسع الذي استقبل به الاحتلال الإسرائيلي مظاهرات الفلسطينيين على حواجزه. بات الانتقام مطلباً شعبيّاً، ولم يكن من جهة أخرى منفكّاً عن دواعي المناكفة بين الفصائل الفلسطينية، ولكنه كان، برأيي، يضمر قصوراً في إدراك الظروف الخاصّة التي كانت تكابدها "حماس" في السّنتين اللتين سبقتا انتفاضة الأقصى.
حركة مُنهكة بتوالي الضربات الأمنيّة
قادت السّلطة الفلسطينية بعد دخولها قطاع غزة في العام 1994 عمليةً واسعةً وعميقةً لإقصاء حركة "حماس"، فبعد ستة شهور فقط على دخول قوات السّلطة الفلسطينية قطاع غزّة، اصطدمت تلك القوات بجماهير حركة "حماس" في مسيرة نظمتها الأخيرة، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد سبعة عشر مصلّياً كانوا خارجين من مسجد فلسطين فيما عُرف بـ "مجزرة مسجد فلسطين".
كان هذا الصدام مركّباً من جملة دوافع، منها المنافسة التاريخية بين الفصيلين، وإرادة السّلطة الحاسمة في فرض حضورها، وتثبيت مشروعها وقطع الطريق على خصومه الذين تأتي "حماس" في طليعتهم.
بعد فترة وجيزة من دخول السّلطة الفلسطينيّة مدينة رام الله، اغتال الاحتلال الإسرائيلي الشّهيد يحيى عياش في يناير/كانون الثاني 1996. على إثر ذلك، نظّم ما تبقى من الجهاز العسكريّ لحركة "حماس"، في عمل ممتد من قطاع غزّة إلى الضّفة الغربيّة، سلسلة عمليات ثأراً للمهندس عياش. عزّز ذلك من مخاوف السّلطة تجاه موقف "حماس" من مشروعها، ودفعها لاستثمار تلك العمليات في حملة تشويه دعائيّ مركز مصحوبة بإجراءات أمنيّة قاسية انتقلت من غزّة إلى الضّفة الغربيّة.
ومع أن "حماس" تمكّنت من تنفيذ سلسلة عمليات فيما بعد في أعوام 1997 و1998 من داخل الضّفة الغربيّة، ومع أنّها لم تكن قد بلغت الانهيار التنظيمي الذي وصلته في قطاع غزّة، فإنّها تعرّضت لحملة اجتثاث مزدوجة ضخمة من السّلطة والاحتلال في العام 1998 شلّت الحركة تماماً، باستثناء حركتها الطّلابيّة في الجامعات.
تمكّن الاحتلال في العام 1998 من تفكيك الجهاز العسكريّ للحركة، والإمساك بأرشيفه ومراسلاته وشيفراته، وقتل قادته محيي الدين الشّريف وعادل عوض الله، ومن اكتشاف البنية التنظيمية الإداريّة للحركة في كامل الضّفة الغربيّة. ويمكن أن نذكّر هنا بالشّهيد إبراهيم بني عودة، أحد كوادر "حماس" الذي عاد من خارج الأرض المحتلة لتنظيم خلايا "حماس" المسلحة، واعتقلته السّلطة الفلسطينيّة في العام 1998، واغتاله الاحتلال بعد أقل من شهرين على انفجار الانتفاضة الثانيّة.
إذن، حين دخلتْ الانتفاضة الثانيّة، كانت الحركة منهكة، ومفكّكة، وغير قادرة على المباشرة بالفعل المسلّح السريع، فهي من الناحية الفعلية لم تكن تملك جهازاً عسكريّاً مستعدّاً، وإنما بقايا من جهازها العسكريّ، وبعضاً من الكوادر القديمة تعمل على إعادة بناء هذا الجهاز. وتلك عملية لا بدّ أن تأخذ وقتاً، ولم يكن يخلو الأمر من مخاوف خاصّة تتسم بانعدام الثقة فيما يُـبـيته عرفات من السّماح بتلك المظاهرات، ومن أن تدفع الحركة لاحقاً ثمن سياسات عرفات التحريكية.
العودة للعمل العسكريّ بعد محاولات التفكيك
وقبل أن تعلن "حماس" فيما بعد عن سلسلة من العمليات العسكريّة باسمها الصّريح، نفذ عدد من كوادرها عمليات مبكرة في بدايات انتفاضة الأقصى، مثل عملية الشّهيد حمدي عرفات انصيو البحريّة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2000، والتي أعلنت عنها كتائب القسام بعد شهر على تنفيذها. بالإضافة إلى سلسلة العمليات التي نفّذها الشّهيد عوض سلمي منذ بداية انتفاضة الأقصى وحتى استشهاده في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2000، ولم تعلن عنها "حماس" رسميّاً إلا لاحقاً، والعمليات التفجيرية التي أعدّها إبراهيم بني عودة قبل استشهاده في نوفمبر/تشرين الثاني 2000.
كان يخفي إضمار "حماس" علاقتها بتلك العمليات خشيتها من نوايا السّلطة الفلسطينيّة، واعتبارات داخليّة تتعلق بإعادة بناء الجهاز العسكريّ، وبالنقاشات الدائرة داخل الحركة حول توجّهاتها القادمة ومستويات تفعيل العمل العسكريّ.
وعلى أي حال فإنّه ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2000، لم يخل شهر من عملية لحركة "حماس"، وقد أخذت الحركة منذ ذلك الشّهر تعلن عن عملياتها المنطلقة من الضّفة الغربيّة، كعملية الخضيرة في 22 نوفمبر/تشرين الثاني، وعملية الاستشهادي هاشم النجار في 22 ديسمبر/كانون الأول 2000، وعملية الاستشهادي حامد أبو حجلة في 1 يناير/ كانون الثاني 2001.
شكّل إعلانُ الحركة مسؤوليتها عن عملياتها التي أخذت تتصاعد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2000، إعلاناً في الحقيقة عن نضوج خلاياها في الضّفة الغربيّة، وعن توّجهاتها القادمة لاستثمار الحالة الجماهيريّة العارمة التي تنادي بالانتقام للضحايا الفلسطينيين.
وإذا كان عمل الحركة المسلّح المنظّم قد بدأ بالظهور الرسميّ في نوفمبر/ تشرين الثاني بعد أقل من شهرين على الانتفاضة، فهذا يعني أن الحركة فعليّاً لم تتأخّر عن الالتحاق العسكريّ بتلك الانتفاضة. في المقابل، يبدو أنّ إلحاح الجماهير وتساؤلات الفصائل المنافسة كَشَفَ عن غياب الوعي بحجم الضرر الذي تعرضت له بنى "حماس" العسكريّة والمدنيّة بفعل الهجمة المزدوجة التي مورست عليها منذ العام 1994، وبلغت أوج نجاحاتها في العام 1998، وهو ما يعكس انحصار الإدراك الدقيق بحقائق الأوضاع السياسيّة والنضاليّة في كوادر الفصائل التي تكابد تلك الأضرار.
الانتفاضة مؤسسةً لما بعدها..
لم تُخرج الانتفاضة الثانية "حماس" من حيرتها فحسب، ولا هي عادت بها إلى فاعلية مؤقتة، ولكنها أعادت تشكيل موازين القوى الفلسطينيّة، بالشكل الذي فرض "حماس" منافساً مركزيّاً لحركة "فتح" لا يمكن تجاوزه، وبالشكل الذي وفّر أرضية مناسبة لتأسيس جديد للفعل المقاوم في قطاع غزّة شكلاً ومضموناً. وقد انعكس ذلك في استكمال الاحتلال انسحابه الفيزيائي من قطاع غزّة، وبالتالي قدرة المقاومة على تطوير نفسها وتعظيم قدراتها ومراكمة خبراتها، والاحتفاظ بنموذج مقاوم يقدّم فعلاً وخطاباً مناقضين لما تقدّمه السّلطة الفلسطينيّة وتعمل القوى الدوليّة المهيمنة على فرضه وإنفاذه.
وبهذا تكرّس توازن آخر في السّاحة الداخليّة الفلسطينيّة لا على مستوى المنافسة الحزبيّة فحسب، ولكن على مستوى الخيارات والمنهج والسياسات والخطابات، ولم يكن منفصلاً عن ذلك فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعيّة التي كانت من ضمن النتائج المترتبة على انتفاضة الأقصى، والأسباب التي ساهمت في التمكين لـ"حماس" والحفاظ عليها بما هي مولود جديد في الانتفاضة الثانية.
تفيد هذه التجربة في فهم أوضاع المقاومة في الضّفة الغربيّة في هذه الفترة الزمنيّة من بعد الانقسام الفلسطينيّ، فسياسات هندسة المجتمع الفلسطينيّ التي مارستها السّلطة أفضت إلى حالة عامّة من تجريف الوعي الوطنيّ وإعاقة الفاعلية النضاليّة. هذا بالإضافة إلى أن هجمات الاجتثاث الأمنيّ المزدوجة التي تمارس في بيئة جغرافية ضيقة كالضّفة الغربيّة، وضمن عمليات تحييد الجماهير، تُعطِّل فصائل المقاومة تعطيلاً كاملاً في ظلّ عجزها عن استيعاب الضّربات الأمنية الواسعة والمكثفة والمفتوحة بلا توقف، والتي يعزّز من فاعليتها ضيق دائرة المنتسبين للفصائل، وهي واحدة من أزمات المقاومة التاريخيّة في الضفة، إلا أن التّجربة كذلك تثبت أن توّفر الشروط الموضوعية كافٍ لإعادة بناء المقاومة في وقت سريع.