مساء 22 حزيران/ يونيو 2025، سقط رأس حربي لصاروخ باليستي أُطلق من إيران، يزن مئات الكيلومترات من المتفجرات في مدينة حيفا المحتلة، من دون تفعيل صفارات الإنذار في المدينة، ودون أن تطلق منظومة الدفاعات الجوي صواريخها الاعتراضية. ادّعى آنذاك تحقيق مشترك للجبهة الداخلية الإسرائيلية وسلاح الجو الإسرائيلي أن خللاً أصاب المنظومة، ما تسبب في سقوط الصاروخ من دون اعتراضه، إلا أن ذلك تكرر في السقوط المستمر للصواريخ الإيرانية على "إسرائيل"، أخطرها الذي استهدف مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي.
خلال الحرب بين "إسرائيل" وإيران والتي امتدت 12 يوماً (13 - 24 حزيران/ يونيو 2025)، انخفضت قدرة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية المكونة من عدة طبقات دفاعية متطورة، في اعتراض الصواريخ الباليستية والفرط صوتية الإيرانية من 90% إلى 65% في اليوم، وذلك حسب ما صرح به أحد مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلية لوسائل إعلام أمريكية.
من جهة ثانية، لوحت مراراً مصادر أمريكية وأخرى إسرائيلية - غير رسمية - باقتراب نفاد مخزون الصواريخ الاعتراضية لدى "إسرائيل". فجاء في مقال لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أن "إسرائيل" تستهلك صواريخ الاعتراض بمعدل أسرع من قدرة مصانع السلاح على إنتاجها. وعلق القائد السابق لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية ران كوخاف، للصحيفة بأن "صواريخ الاعتراض ليست حبّات أرز". ذلك ما أكده أيضاً مسؤول أمريكي في البنتاغون من أن "إسرائيل" تواجه خطر استنزاف سريع للصواريخ الاعتراضية المتقدمة "آرو-3″، المصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
يُثير ذلك العديد من الأسئلة: فما الإمكانات الحقيقية لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية وقدرتها على اعتراض معظم الصواريخ؟ وما مدى قدرتها على الصمود لزمن طويل في اعتراض الصواريخ المتواصلة؟ والسؤال الأبرز والأهم الذي يتقدم اليوم: هل طلبت "إسرائيل" إيقاف الحرب تحت ضغط تراجع منظومتها الدفاعية عن اعتراض الصواريخ الإيرانية فائقة السرعة؟ يُجيبنا مقال نُشر على الموقع الإلكتروني المتخصص "الأمن الدفاعي في آسيا" ( DEFENCE SECURITY ASIA)، وقد ارتأينا ترجمته وتحريره.
إليكم المقال:
لطالما اعتُبرت منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية نموذجاً للحماية الجوية التي تتكون من طبقات صاروخية دفاعية متعددة، إلا أنها لم تعد كذلك أمام عشرات الصواريخ الباليستية والفرط صوتية والمسيّرات التي أطلقتها إيران نحو "إسرائيل"، إذ شهد معدل اعتراضها انخفاضاً حاداً بلغ نحو 25% خلال 24 ساعة، ما أثار قلق "إسرائيل"، حسبما ينقل الإعلام الأمريكي عن مسؤول استخباراتي إسرائيلي كبير - لم يُسمِّه - والذي يعزو ذلك إلى تطور الصواريخ الإيرانية التي تُطلق من مقذوفات أسرع وأكثر قدرة على المناورة، مما قلص وقت الإنذار الصاروخي الاعتراضي الإسرائيلي من 10 إلى 6 دقائق فقط.
الصواريخ الإيرانية من الجيل الجديد، مُجهزة بتوجيه دقيق في المرحلة النهائية، مما يزيد دقة إصابتها، كما جرى في استهداف مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي في بئر السبع، والذي أثبت تزايد ضعف الدرع الصاروخي الإسرائيلي في مواجهة الصواريخ عالية السرعة. وعلق على ذلك المسؤول، "لدى الإيرانيين نظام ملاحة للمرحلة الأخيرة من الهجوم يُساعدهم على تحرّي الدقة الشديدة ومهاجمة الأهداف التي يرغبون فيها بالضبط".
صاروخ "خيبر شكن"، أحد الصواريخ الإيرانية المتطورة - الذي يُشير إليه حديث المسؤول الإسرائيلي - والذي كشف عن التطور النوعي في دقة التوجيه وتقنيات المناورة، جرى تصميمه بهيكل خفيف يتيح له تخطي أنظمة الدفاع الجوي عبر تنفيذ مسارات طيران منحنية معقدة. ويعتمد نظام ملاحة داخليا ومحصنا ضد التشويش، مع قدرة على تحديث المسار خلال الطيران، مما يزيد فاعلية تجاوزه للصواريخ الاعتراضية بمرونة عالية، ويزيد من قدرته على ضرب الأهداف.
هذه المميزات التطويرية في الصواريخ الإيرانية فاقمت التحدي، إذ يؤكد جيش الاحتلال الإسرائيلي، أن إيران أدخلت أنظمة صواريخ متعددة الرؤوس الحربية، ما شكل قفزة استراتيجية في إطلاقها، إذ تسقط هذه الرؤوس دفعة واحدة ما يجعلها تتغلب على منظومة الاعتراض. ونقلت إذاعة جيش الاحتلال عن مصادر أمنية إسرائيلية، أن أحد هذه الصواريخ استهدف "غوش دان" بالقرب من تل أبيب، وقد أطلق عدة رؤوس حربية في أثناء تحليقه، مستغلاً نقاطاً خفية في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وقد تجاوز كل الطبقات الدفاعية.
اقرؤوا المزيد: المُسيّرات.. لِمَن سماء البلاد؟
وجاء استمرار القصف الإيراني وتصاعده، رغم ما تعرضت له طهران من عمليات عسكرية إسرائيلية اغتالت خلالها عدداً من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني. ورأى المسؤولون الإسرائيليون أن رد إيران هو تنفيذ "الصبر الاستراتيجي"، أي الاستعداد لاستيعاب الخسائر مع الاستفادة من تكنولوجيا الصواريخ المتفوقة لإضعاف دفاعات "إسرائيل" بشكل مطرد. ووفقاً للمسؤول، "فإن إطلاق الصواريخ الإيرانية بسرعة أكبر في اليوم الأخير قلّص الزمن المعتاد أمام "إسرائيل" للاستعداد قبل اقتراب المقذوفات من أهدافها المقصودة"، ما صعّد من تهديد هذه الصواريخ وخطورتها على "إسرائيل".
بإشادة عسكرية عالمية واسعة حظي نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي متعدد الطبقات منذ إقامته، إذ يتكون هذا النظام من: القبة الحديدية للتهديدات قصيرة المدى، ومقلاع داود للصواريخ متوسطة المدى، وآرو-2 وآرو-3 للاعتراض بعيد المدى وخارج الغلاف الجوي، إلى جانب بطاريات ثاد الأمريكية.
إلا أن هذا النظام كاملاً أصبح مختبراً في مواجهة الصواريخ الإيرانية، ليس الباليستية والطائرات المسيرة فحسب، وإنما الأسلحة الفرط صوتية أيضا مثل صاروخي: فتاح-1، وسجيل، إذ إن كليهما قادر على تنفيذ مناوَرات مراوغة بسرعات قصوى.
ولا يزداد تهديد الصواريخ الإيرانية الفرط صوتية لسرعتها فقط، بل لصعوبة اكتشافها وتتبعها واعتراضها أيضا، مما يُحيّد بفاعليةٍ الخوارزميات التنبؤية لأنظمة الرادار، والتحكم في إطلاق الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية. ورغم انخفاض إطلاق هذه الصواريخ من 150 قذيفة في البداية إلى نحو 30 قذيفة يومياً، فإن كفاءتها في اختراق منظومة الاعتراض الإسرائيلية ارتفع بشكل حاد.
اقرؤوا المزيد: أسياد في الأرض: تكنولوجيا المقاومة التوحيدية
وتُشير تقييمات الدفاع الإسرائيلية إلى أن 10% من القذائف الإيرانية اخترقت الدفاعات الإسرائيلية في المرحلة المبكرة، وقد ارتفع ذلك إلى 35% فيما بعد، ما يدل على إعادة تقييم إيران التكتيكي المستمر استناداً إلى بيانات ساحة المعركة.
ويتطلب كل اعتراض ناجح إطلاق عدة صواريخ اعتراضية، خاصة عند مواجهة التهديدات المتقدمة التي تتضمن صواريخ برؤوس حربية متعددة أو صواريخ وهمية، مما يضع ضغطاً مضاعفاً على مخزونات "إسرائيل" من الصواريخ الاعتراضية، وبطاريات الإطلاق. وتُفيد التقارير أن حالات الاعتراض تتطلب إطلاق ما يصل إلى عشرة صواريخ اعتراضية لكل صاروخ قادم، وهو معدل إنفاق غير مستدام لأي حملة طويلة الأمد.
أما مالياً، فقد شكل ذلك ضغطاً آخر على "إسرائيل"، إذ تضاعفت التكلفة المالية لمنظومة الدفاع الجوي، فوفقاً لصحيفة "ذا ماركر"، تنفق "إسرائيل" ما يقارب 285 مليون دولار كل ليلة للحفاظ على جهودها في اعتراض الصواريخ، مدفوعةً بشكل كبير بتكلفة صواريخ آرو الاعتراضية، والتي تُباع بسعر أعلى قدره 3 ملايين دولار.
وفي ظل ذلك، بدأت "إسرائيل" تعاني من أزمة جديدة تتمثل في نقص الصواريخ الاعتراضية وتراجع مخزونها، خاصة نظام "حيتس"، وهو خط الدفاع الأخير لـ "إسرائيل" ضد الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وعالية الارتفاع، وقد أصبح يقترب من مرحلة الاستنزاف الحرج.
اقرؤوا المزيد: الدولة القلقة.. سيناريوهات التهديد الوجودي لـ "إسرائيل"
وكشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن "إسرائيل" ربما لم يبقَ بحوزتها من صواريخ آرو والأنظمة الاعتراضية الأخرى للحفاظ على وتيرة إطلاقها الحالية سوى ما يكفي لمدة 10 إلى 12 يوماً، مما أثر على التخطيط العسكري الإسرائيلي، فأصبحت "إسرائيل" تُقنّن جهود الاعتراض الصاروخي، إذ قررت عدم اعتراض الصواريخ التي تسقط في التضاريس المفتوحة، وتركيز عملية الاعتراض بالقرب من المرافق النووية والقواعد العسكرية والمراكز الحضرية الكبرى، مع إعطاء الأولوية لاعتراض الصواريخ التي تُشكل خطر اختراق عميق أو استراتيجي.
شكل ذلك ضغطاً على أمريكا للتحرك السريع في تقديم مساعدات الدفاع الصاروخي لـ "إسرائيل"، بما في ذلك تقاسم المخزونات الطارئة. إذ تواجه أمريكا ضغطاً لوجستياً في ظل محاولتها التوفيق بين ذلك وبين التزاماتها المتعلقة بالصواريخ الاعتراضية لأوكرانيا وتايوان، مما يزيد من احتمالية تفاقم ضغوط سلسلة التوريد عبر برامج الدفاع الصاروخي الغربية.
وضعت إيران الدفاع الجوي الإسرائيلي أمام ضغوط عملياتية ومالية متزايدة، كما كشفت القدرات الإيرانية تهديدها لما هو أبعد من حدود "إسرائيل"، أي القواعد الأمريكية أيضاً في الشرق الأوسط. وقد تحولت هذه الحرب إلى مختبر حيّ للدفاع الصاروخي الحديث في عصر الصواريخ الفرط صوتية، إذ تُؤدي السرعة والغموض الاستراتيجي إلى إفشال عقيدة الاعتراض التقليدية بسرعة.
فإذا لم يُعزَّز وضع "إسرائيل" الدفاعي المتدهور بشكل عاجل بدعم من أمريكا أو بابتكار تكنولوجي جديد فقد يُمثل ذلك نقطة تحول استراتيجية خطيرة في ميزان القوى في جميع أنحاء الشرق الأوسط.