ممسكاً برشّاشه ومبتسماً للكاميرا، يقف "يوفال فاجداني" أمام أنقاض منزل في قطاع غزة؛ منزل كان قائماً قبل دقائق، إلى أن زرع فاجداني ورفاقه المتفجّرات تحته، وعدّوا تنازلياً، ثم هلّلوا لانفجاره الكبير، متوعّدين بتسوية غزة بالأرض حتى آخر رمق فيها.
صورة سريالية توحي بأنها آتية من عصر بدائيٍّ مظلم، عصرٌ ينام فيه المجرم ملء جفنيه ويقضي عطلته على الشواطئ البعيدة مطمئناً إلى الحصانة. لكنّها في الواقع صورة حديثة لمجنّد إسرائيلي وجد نفسه، على غير توقُّع، محاصراً في البرازيل، تفصله دقائق عن الاعتقال والتحويل إلى المحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب، قبل أن يفرّ عائداً إلى الكيان.
"الوقت من دم"، تعبير يلخّص الإحباط من التلكؤ الدولي، وعلى رأسه القضاء، في ملاحقة مرتكبي أكبر إبادة جماعيّة معاصرة. بعد 18 شهراً من الحرب المستمرّة، كفر كثيرون بما يسمى "النظام العالمي"، وبمؤسساته وقيمه المزعومة المبنية على حقوق الإنسان. لكن، وسط هذا الإحباط، بدأت مع نهاية 2024 تحرّكات قانونية جديدة، تُطلق بصيص أمل بمحاصرة الجنود الإسرائيليين المشاركين في حرب الإبادة، وكسر حالة الإفلات من العقاب التي لطالما تمتّع بها الكيان منذ نشأته.
فما قصّة القضايا التي تجري ملاحقة جنود الاحتلال الإسرائيلي بها في الخارج؟ وما الأساس القانوني الذي تقوم عليه؟ وهل يمكن أن تُشكّل بداية حقيقية لتحقيق العدالة للضحايا؟ هذا ما يسعى المقال إلى تفكيكه.
هند رجب: عندما يطارد الضحايا جلّاديهم
مع تصاعد الإبادة الجماعية في غزة، تحرّكت الشعوب والمؤسسات الحقوقيّة لكسر جدار الصمت الدولي، في ظل فشل النظام العالمي وأدواته. وبمطلع العام 2025، كانت هناك قرابة 100 قضية قانونية على جنود الاحتلال الإسرائيلي، موزّعة على دول أبرزها ألمانيا، فرنسا، هولندا، جنوب إفريقيا، والبرازيل.
في طليعة هذا الحراك برز اسم "مؤسسة هند رجب"، التي تأسست عام 2024 باسم الطفلة الغزّية التي قضت تحت نيران المدفعية رغم النّداءات لإنقاذها. هدفُ المؤسسة: إنهاء إفلات "إسرائيل" من العقاب. 1أسس كل من الناشطين البلجيكيين من أصل لبناني: دياب أبو جهجه وكريم حسون مؤسسة هند رجب في أيلول/ سبتمبر 2024، واتخذوا من بروكسيل مقراً للمؤسسة التي تنتشر أنشطتها الفرعية في كثير من البلدان الأوروبية واللاتينية، وذلك بمشاركة النشطاء الحقوقيين والمحاميين العرب والأجانب
وثّقت المؤسسة نحو 8 آلاف دليل على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، استناداً إلى منشورات الجنود الإسرائيليين على حساباتهم في إنستغرام وتيك توك ويوتيوب. ظهرت في هذه المواد المصوّرة مشاهد توثّق عمليات تفجير للمباني السكنية، قتل للمدنيين، تعذيب للأسرى، والعبث بمنازل الغزيين ومحتوياتها، بما يشمل حرق المكتبات ومراكز الإيواء.
هذه الأدلة دعّمت مئات الشكاوى القانونية، أمام سلطات قضائية في الدول المختلفة، مستندة إلى قوانين محلية واتفاقيات دولية، ولو اختلف التوصيف بين جرائم حرب أو إبادة جماعية.
ملفات ساخنة من البرازيل إلى نيبال
تصدّرت البرازيل واجهة القضايا القضائية، حين حرّكت مؤسسة هند رجب شكوى على المجنّد الإسرائيلي يوفال فاجداني، الذي قصد البلاد للسياحة. وأرفقت الشكوى بمقطع مصور له وهو يزرع المتفجرات تحت منازل مدينة في غزة، ويضحك بينما يتوعّد بتفجيرها حتى "النخاع". استجاب قاضٍ فيدرالي بإصدار أمر تحقيق وتحفّظ على الجنديّ.
قبلها بشهرين، كانت المؤسسة قد تقدّمت بشكوى مماثلة في قبرص على جندي إسرائيلي آخر كان يقضي إجازته هناك، وأرفقت بها صورًا ومقاطع التقطها الجندي ونشرها على حساباته الشخصية. ورغم أنّ المدعي العام القبرصي تحرّك وفتح تحقيقاً، فإنّ الجندي فرّ من البلاد بمساعدة وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي دقّت الحادثة لديها جرس إنذار استدعى "إجراءات احترازية". تكرّر الأمر في رومانيا مع المجند أورويل بنياش، وفي نيبال مع المجند أميت نشمية.
اقرؤوا المزيد: خطاب حقوق الإنسان: نهاية وأي نهاية!
لم تقتصر تحرّكات "مؤسسة هند رجب" على ملاحقة الجنود الإسرائيليين وحدهم، بل شملت داعمين دوليين، متورطين في تقديم الدعم العسكري أو المالي أو اللوجستي لجيش الاحتلال فقد قُدّمت شكاوى في هولندا على منظمة "مسيحيون من أجل إسرائيل"، ومسؤولين حكوميين سهلوا تصدير الأسلحة. كما لاحقت المؤسسة محرّضين بارزين، مثل الوزير الإسرائيلي عميحاي شيكلي، الذي ألغى زيارة لبلجيكا خشية الاعتقال، بعد أن حرّض على الاعتداء على مؤسسة "هند رجب" ورئيسها، دياب أبو جهجه.
أيضاً، طالت الشكاوى محرّضين آخرين من بعيد، من بينهم مُشجّعو نادي "مكابي تل أبيب" الذين أثاروا أعمال عنف في أمستردام، ما دفع الشرطة لفتح تحقيق رسمي، على خلفية الأحداث التي وقعت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
كيف فشل القضاء الدولي؟
رغم حجم الجرائم المرتكبة في غزة، لم تفلح المحاكم الدولية في وقف المجزرة أو محاسبة مرتكبيها. فمحكمة العدل الدولية، التي تنظر في دعوى الإبادة المقدمة من جنوب إفريقيا، لا تختصُّ بمحاكمة الأفراد، وتعاني من بيروقراطية قاتلة.
أمّا محكمة الجنايات الدولية، فقد تأخرت شهوراً قبل أن تتحدّث عن مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وظلّت عاجزة عن تنفيذها من دون تعاون الدول الموقِّعة على اتفاق روما.
في ظل هذا العجز، برز مبدأ "الاختصاص العالمي"، الذي يسمح للدول بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية الكبرى بغضّ النظر عن جنسية الفاعل أو مكان الجريمة، استناداً إلى اتّفاقيات مثل اتفاقية جنيف الرابعة. وقد استخدمته ألمانيا لإدانة مسؤولين من النظام السوري المخلوع، كما استخدمته "إسرائيل" نفسها حين اختطفت وحاكمت النازي أدولف آيخمان، المُتّهم بارتكاب جرائم ضد اليهود في أوروبا.
على صعيد القضيّة الفلسطينية، تعددت محاولات التّقاضي بالاتكاء على هذا المبدأ. ففي 2009، أصدرت محكمة بريطانيّة مذكرة اعتقال بحق وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، لكنها أفلتت من الاعتقال بالبقاء في الطائرة. أدّت الحادثة إلى أزمة دبلوماسية بين بريطانيا و"إسرائيل"، وتعديل القانون البريطاني، وربط تحريك القضايا بموافقة المدعي العام، ما أجهض فعلياً مبدأ الاختصاص العالمي في البلاد.
طرق متعددة.. الهدف واحد
لم تقتصر الجهود القانونية على مبدأ الاختصاص العالمي، بل تنوّعت لتشمل مسارات أخرى؛ أبرزها الاختصاص القضائي المباشر، إذ تملك الدول صلاحية محاكمة رعاياها في حال تورّطهم في جرائم دولية، خاصة أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة وخدموا في الجيش الإسرائيلي، وشاركوا في الجرائم بغزة.
اقرؤوا المزيد: قاضي أميركا.. جلّاد يحاكم فلسطين
في هذا السياق، قاد "الاتحاد العالمي لحقوق الإنسان – فدا"، بالشراكة مع مؤسسات فلسطينية، تحرّكاً قانونياً في فرنسا نهاية 2024. قُدّمت بموجبه شكوى على المجنّد يوئيل أوه، حامل الجنسية المزدوجة (فرنسية/ إسرائيلية)، استناداً إلى مقاطع مصوّرة يظهر فيها وهو يُعذّب أسرى فلسطينيين.
ووفق توثيقات الاتحاد، شارك قرابة 4000 فرنسي في العمليات العسكرية بغزة منذ 7 أكتوبر، من دون أن يفتح القضاء الفرنسيّ أي تحقيق رسمي حتى الآن، في احتماليّة تورطهم بارتكاب جرائم دولية.
ولم تكن المنظمات وحدها من قادت تحركات الملاحقة القانونيّة، ففي بريطانيا، قدّمت مكاتب محاماة خاصة شكوى على 10 مجنّدين بريطانيين شاركوا في حرب غزة، استناداً إلى ملف يضم 240 صفحة من الأدلة البصرية وشهادات الشهود، والمصادر المفتوحة، تشمل استهداف المدنيين وعمال الإغاثة وهدم المباني السكنية، وهي أدلّة كافية وفق القانون البريطاني لفتح تحقيق رسمي بحق بريطانيين متورطين في جرائم بالخارج.
ابتسم للكاميرا.. أنت مجرم
في زمن الشاشات المفتوحة والكاميرات التي لا تنام، لم يعد إخفاء الجريمة سهلاً، ولم تعد المحاسبة بعيدة. فمع دخول عصر التوثيق الرقمي، بات تحديد هوية مرتكبي الجرائم أسهل من أي وقت مضى، وأصبحت الصور والمقاطع المصورة أدلة أوليّة تُستخدم في تحريك القضايا وتثبيت الوقائع.
لكن، على الرغم من وضوح هذه الأدلة، فإن الإدانة القضائية لا تُبنى على الصورة وحدها. فوفقاً للخبيرة القانونية ريبيكا هاملتون، أستاذة القانون الدولي في الجامعة الأميركية والمحامية السابقة لدى محكمة الجنايات الدولية، لا تكفي الصور والفيديوهات وحدها لإثبات الإدانة، لأنها تفتقر أحياناً إلى إثبات النيّة الجنائية، والسياق، والعلاقة السببية بين الجاني والضحية.
اقرؤوا المزيد: اتزان غزّة واختلال العالم
ومع ذلك، تبقى هذه الوسائط مرجعاً جوهرياً يُعتمد عليه في تحريك الدعاوى وفتح التحقيقات. فقد استخدمتها محكمة الجنايات الدولية في أكثر من قضية، أبرزها قضية أحمد الفقي في مالي، حيث أُدين بارتكاب جرائم حرب بعد استخدام فيديو مصوّر دليلاً على قيادته لهجوم استهدف مواقع أثرية تابعة لـ "اليونسكو"، وحُكم عليه بالسّجن 9 سنوات.
كما استُخدمت الوسائط ذاتها من قبل "الأمم المتحدة" وجهات دولية أخرى لإثبات جرائم مثل الهجوم الكيميائي في الغوطة السورية (2013)، ومجزرة بوتشا في أوكرانيا (2022).
وبناءً عليه، فإن ما توثّقه المؤسسات الحقوقية من مقاطع وصور لجريمة الإبادة الجارية في غزة لا يمثّل أرشيف ذاكرة فحسب، بل يشكل حجر الأساس لأيّ محاكمة قادمة، ويسهم في بناء ملف قانوني قد يُدين القتلة يومًا ما.
المقصلة لم تسقط بعد، ولكن..
رغم كثافة التحرّكات القضائية، لم تُسجّل حتى الآن حالات اعتقال فعليّة لجنود الاحتلال، إذ تمكّن معظمهم من الهرب بمساعدة السفارات الإسرائيلية قبل القبض عليهم. ومع ذلك، فإن تلك القضايا لم تمرّ بلا أثر؛ فقد فجّرت أزمات دبلوماسية، وأثارت جدلاً واسعاً في الإعلام والرأي العام، ووضعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحت ضغط غير مسبوق.
دفعت هذه المخاوف الجيش الإسرائيلي إلى التحفّظ على هويات جنوده ووجوههم في المواد المصوّرة المنشورة. وبعد قضية "فاجداني" في البرازيل، أصدر الجيش قراراً يقضي بتعتيم وتشويش وجوه المجنّدين، والاكتفاء بذكر الحرف الأول من أسمائهم، مع منعهم من الظهور الإعلامي بغير إذن صريح من وحدة القانون الدولي في الجيش.
اقرؤوا المزيد: "طوفان الأقصى" ولوبي يشمّر عن ساعديه
كما شكّلت الحكومة الإسرائيلية لجنة داخلية ضمّت المدّعي العام الجنائي، وممثلين عن وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، وجهاز "الشاباك"، لفحص مخاطر تنقّلات الجنود إلى الخارج، وتقديم الاستشارات القانونية بشأنها. وعمّمت وزارة الخارجية تحذيرات تطالب الجنود بتوخي الحذر في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لما قد تحمله منشوراتهم من أدلة قانونيّة ضدّهم.
وعلى الجهة الإعلامية، أصدرت منصات إسرائيلية كتيّباً إرشادياً بعنوان: "كيف تتصرف إذا تم اعتقالك في الخارج، وماذا عليك أن تفعل قبل السفر؟" صاغه محامي الدفاع في محكمة الجنايات الدولية نيك كوفمان، واحتوى نصائح قانونية لتجنّب المساءلة في أثناء السفر، وعلى رأسها: الامتناع عن النشر العلني، وتفحّص سياسات الدول تجاه جرائم الحرب.
مع بداية العام الجاري، وتزايد عدد الشكاوى، عمّم الجيش الإسرائيلي تحذيراً على عناصره من مغبّة السفر، حتى إلى دول حليفة، خشية التوقيف أو الاستدعاء للتحقيق.
ورغم العقبات، من حصانات دبلوماسية وتوازنات دولية، فإنّ هذه الملاحقات القانونية كشفت هشاشة "الطمأنينة الإسرائيلية"، وزرعت الرعب في قلوب الجنود العائدين من الجبهة. صحيحٌ أن المقصلة لم تسقط بعد، لكنها باتت معلّقة فوق رؤوسهم، تحوم في كل مطار، وتترصّدهم في كل رحلة.
للقتلة وجوهٌ وأسماء
"نحن الآن نعرف قاتل الطفلة هند رجب، وسنأخذه إلى المحكمة". بهذه العبارة استهلّت مؤسسة "هند رجب" بيانها في الثالث من أيار/ مايو 2025، في اليوم الذي كان يُفترض أن تطفئ فيه هند شمعتها السابعة.
بعد عام كامل من التحقيقات، كشفت المؤسسة الحقوقيّة عن توصّلها إلى هوية الضابط الإسرائيلي المسؤول عن مقتل هند رجب وعائلتها، وفريق الإنقاذ الذي حاول الوصول إليها. إنّه المقدّم بني أهارون، قائد اللواء المدرّع 401 في جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي قاد فرقته في حي تل الهوى يوم 29 أيار/ مايو 2024، يوم المذبحة، وستُقدَّم ضدّه شكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جريمة حرب.
القاتل ليس فرداً واحداً، وإنما منظومة استعمارية وإبادية بأكملها تدعى "إسرائيل"، لكن خطوة ملاحقة الجنود الأفراد تظل مهمة على المستوى القانوني والدولي، فهكذا صار للقتلة وجوهٌ وأسماء، خطوةٌ تقرّبنا من العدالة والمحاسبة، خطوةٌ لها ما بعدها.