جاءت الانتفاضة الثانية تصويباً لمجرى التاريخ. انتفاضةٌ على مسار "أوسلو"، وعلى مسار التسوية بعد أن تبيّن زيف وعد الدولة. منحت المواجهة العسكريّة فيها أملاً للناس، ليحلموا مجدّداً بفلسطين من نهرها إلى بحرها. إلّا أنّ حدثاً بهذه المفصليّة والضخامة والأثر على خريطة الفعل السياسيّ الفلسطينيّ، لم يلقَ ما يستحقّه من كتابة وتمعّن فكريّ. كأنّ الخطاب الثقافيّ أحجم عن هذه الانتفاضة، هلعاً من فرط عنفها ودمويّتها.
في ذكراها الـ18، يبدأ "متراس" نشرَ ملفّه السنويّ المفتوح عن "الانتفاضة الثانية". يسعى هذا الملفّ إلى بناء معرفيّ تدريجيّ حول الحدث؛ من تأريخٍ وكتابات نقديّة تتبنّى خطّاً سياسياً يرى أنّ مقاومة الناس، وفعلهم التاريخيّ هي الحالة الطبيعيّة، التي يتوجّب إعادة إنتاجها باستمرار، بما يزيدها فاعليّة.
قلبُ الانتفاضة
لم يكن اقتحام اريئيل شارون للمسجد الأقصى، سوى عود الكبريت الذي اشتعل في قشّ مشاعر الناس المتحفزّة لمواجهة الاحتلال. إذ يحمل المسجد الأقصى تكثيفاً في الوعي الجمعيّ الفلسطيني، يجعله باستمرار، المكانَ الذي يُمكنّهم من الشعور بأنفسهم مُجدّداً وهم يدافعون عنه. انطلقت العديد من العمليات الفدائيّة، وأصبح الإسرائيليون يعدّون قتلاهم، فيما ارتقى في المقابل عددٌ من الشهداء الفلسطينيين.
اجتاحت "إسرائيل" الضفّة الغربيّة، وانسحبت من غزّة، وبنت الجدار الأمنيّ، واغتالت العديد من القيادات، ووضعت الآلاف في السجون، وهاجمت المؤسّسات الخيريّة والاجتماعية وأغلقتها، وحطّمت مقرّات السلطة، وأعادت هيكلة مؤسسات السلطة كاملةً، وبحثت عن قيادة فلسطينية جديدة مُقَلّمَةَ الأظافر، ووجدتها. قيادةٌ تفرض، نيابةً عن "إسرائيل"، فكرة "القضاء على الانتفاضة"، وترفعُ شعار "القضاء على عسكرة الانتفاضة".
عمّ نبحث؟
سيحاول الملف جاهداً تغطية عدد من المحاور العامّة ما أمكنه ذلك. بدءاً من تأريخ العمل العسكري إبّان الانتفاضة الثانية، كيف بدأ وتطوّر؟ ماذا حقّق وأين أخفق؟ ثمّ إسقاطات الانتفاضة الثانية على العمل السياسيّ والخارطة السياسيّة الفلسطينيّة. بالإضافة إلى البُعد الاجتماعيّ في مشاركة الناس في الانتفاضة، وكيف تشكّلت الرواية والذاكرة بصددها.
كما سيحاول الملف فهم تأثير الانتفاضة الثانية في "إسرائيل"، وفي استراتيجيّاتها السياسيّة والعسكريّة، وما تكبّدته من خسائر، وكيف تغيّرت وما ترتّب عن الانتفاضة من تبعات مُستدامة. كما سيحاول الملف إعادة قراءة موقع وتفاعل وتأثير الانتفاضة الثانية على الساحة العربيّة والدوليّة.
انتهت الانتفاضة الثانية دون أن يُعلن أحدٌ عن ذلك، ودون أن نعرف نهايتها. لكنّ هذا الملف سيبذل جهده لتتبّع جذور الانتفاضة ومسارها، كما البحث عن جذور القضاء عليها. تلك الجذور التي امتدّت من الظروف السياسيّة والاجتماعيّة الداخليّة للانتفاضة ذاتها، إلى تلك التي جرى العمل عليها لفرضها من الخارج.