25 مايو 2025

مشاهد الحصار.. ما لا تُظهره الصور عن طولكرم

مشاهد الحصار.. ما لا تُظهره الصور عن طولكرم

منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية بطولكرم في 27 كانون الثاني/ يناير 2025، لم تطأ قدماي المدينة إلّا بعد شهر. الطريق إلى البيت كان أقسى وأشد تعقيدا بعد إغلاق الاحتلال "حاجز عنّاب"، المدخل الرئيس للمدينة، وقد اتخذه الناس طريقاً بديلاً  عبر "جبارة"، البوّابة التي قد تُغلق في أيّ لحظة.

نزح كثير من الجيران، وتحوّلت بعض منازلهم إلى ثكنات عسكرية، كمنزل ناصر شناعة قرب مخيم طولكرم. آنذاك، مررت بشارع نابلس - طولكرم الذي كان يعجُّ بالناس وأبواق السيارات؛ صار صامتاً، لا يُسمع فيه سوى صراخ الجنود وقنابلهم. الصور التي رأيتها خلال غيابي لا تشبه الواقع؛ "السمع مش زيّ الشوف" فعلًا. ربما اليوم عاد بعض من الحياة إلى الشارع، ولكنه لم يعد لعهده بعد، فقد تمكنت بعض المحال من فتح أبوابها رغم التهديد، وإجبارها المتكرر على الإغلاق. 

في هذا المقال، أوثّق مشاهد من المدينة ومخيّميها؛ نور شمس وطولكرم، حيث تغيّرت حياة الناس تحت القصف والاقتحام والتهجير والهدم والحصار. سياسة تنكيل إسرائيليّة ممنهجة، لا تسعى لـ "اجتثاث المقاومين" فحسب، بل لإعادة تشكيل مدينة على مقاس الاحتلال.

المشهد الأوّل: مدينة مُقطّعة

في الثامن من آذار/ مارس، فوجئ أحمد عسّاف (31 عاماً)، أحد سكان ضاحية ذنابة، بحاجز عسكري لم يكن موجوداً على طريقه المعتاد إلى وسط طولكرم، سيارة "سوبارو" قديمة متوقفة وسط الشارع، ظنّ أحمد أن ثمة مشكلة ما، فتابع طريقه، ليخرج الجنود من العتمة ويأمروه بالنزول من سيارته، ويجبروه على الجلوس أرضاً، لتفتيشه.

بعدما انتهوا، لم يسمحوا له بالمرور، عاد أدراجه، بلا سبب، سوى أنه مرّ بجنود يستلذّون بالتنكيل.

أحد جنود الاحتلال يتمركز عند حاجز عسكري بالقرب من مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، في 9 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: زين جعفر/ وكالة فرانس برس)
أحد جنود الاحتلال يتمركز عند حاجز عسكري بالقرب من مخيم نور شمس في مدينة طولكرم، في 9 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: زين جعفر/ وكالة فرانس برس)

قصّة أحمد تتكرّر يومياً مع مئات السكان، فالحواجز الإسرائيلية لا تُنصب عند المداخل المعروفة فقط، بل قد تظهر فجأة في قلب الأحياء السكنية. زيارة عائلية، قد تتحوّل إلى مأساة.

تتمركز تلك الحواجز خصوصاً عند الحي الشمالي قرب مخيم طولكرم، وفي شرق ذنابة واكتابا المجاورتين لمخيم نور شمس، كما تنتشر عند دوار السلام وشويكة. لا تقتصر مهمة الجنود على التفتيش، بل تُستخدم الحواجز كمائن لاعتقال الشبان، أو تعذيبهم، ولمنع النّازحين من العودة إلى منازلهم أو استعادة أمتعتهم. 

المشهد الثاني: الجنود لا يفتّشون فحسب، بل يسرقون

في 22 آذار/ مارس، عاد معن ياسين (59 عاماً) إلى منزله في "ذنابة"، فوجد قوة إسرائيلية قرب بابه، انتظر حتى ابتعد الجنود، ثم دخل البيت. لم تمر دقائق حتى سمع صوتًا قوّيًا عند الباب، فتحه، فاندفع الجنود إلى الداخل.

صرخوا على الأطفال، فتّشوا الغرف، قلّبوا محتويات المنزل بعنف وهم يبحثون عن مال يملأ جيوبهم.

اقرؤوا المزيد: مقاتلو طولكرم الجدد.. حديث خاصّ لـ"متراس"

أحدهم وجد صورة "أبو عبيدة" المتحدث باسم كتائب القسام، منشورة في إحدى قنوات "تلغرام" على هاتفٍ حُفظت عليه الصورة تلقائيًا، جُنّ جنونهم، هشّموا محتويات المنزل، وأوسعوه دمارًا.

سرقوا أربعة آلاف دينار أردني، وعشرات الشواكل، ثم غادروا، تاركين وراءهم أبواباً محطّمة، وأطفالاً مذعورين، وأثاثاً مُكسّراً.

الاقتحامات لم تعد فقط بحثًا عن "مطلوبين"، آلاف المنازل فُتحت عنوة، نُهب بعضها، سرقة الأموال والمقتنيات، وتكسير الأثاث، وترويع الأطفال، باتت جزءاً من طقوس الجنود.

المشهد الثالث: "اخرجوا خلال 10 دقائق"

كان حسام عسّاف (28 عاماً) يعمل في مصنع بقرية كفر صور جنوب طولكرم، حين اتّصل به والده: الجيش اقتحم البيت، وأمرنا بالإخلاء فوراً، قال الضابط الإسرائيلي: أمامكم عشر دقائق للخروج.

كانت العائلة مستعدة لهذا الاحتمال، عشرات الجيران نزحوا فعلاً من دون أوامر مسبقة، هرباً من الضرب والسرقة والتنكيل. حاول والد حسام طلب مهلة إضافية لجمع ما تبقى من حاجيّات، لكن الضابط رفض بإصرار: عليكم الإخلاء الآن، هذه منطقة عسكرية مغلقة.

جنود الاحتلال يتخذون أحد المنازل الفلسطينية ثكنة عسكرية في مدينة طولكرم، في 5 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: زين جعفر/ وكالة فرانس برس)
جنود الاحتلال يتخذون أحد المنازل الفلسطينية ثكنة عسكرية في مدينة طولكرم، في 5 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: زين جعفر/ وكالة فرانس برس)

أسرع حسام إلى المنزل، لكنه لم يستطع الوصول، الجنود كانوا يملؤون الشوارع، عرف لاحقًا أن عائلته نزحت إلى بيت قريب لأحد أقربائهم شرق المدينة.

صار حسام يزور منزله خفية عبر الأراضي الزراعية، في زيارته الأخيرة، وجد الشارع المؤدي إلى منزله مغلقاً بسواتر ترابية تمنع مرور المركبات.

لم تكن عائلة حسام وحدها، نحو 4200 عائلة من مخيمي طولكرم ونور شمس نزحت قسرًا، أي أكثر من 25 ألف إنسان، يُشكّلون ما يزيد على 90% من سكان المخيمين، توزّعوا بين مراكز الإيواء، أو استأجروا، أو لجؤوا إلى أقاربهم.

اقرؤوا المزيد: كتيبة ومخيّمان.. ما الذي يجري في طولكرم؟

المشهد الرابع: الجرافات تعيد رسم ملامح المخيّم

حاولتُ خلال زيارتي لطولكرم دخول المخيّم، لكن كلّ المداخل كانت مغلقة بسواتر ترابية، الجنود منعوا الأهالي من الدخول أو الاقتراب، كما في مخيّم نور شمس. وجدتُ طريقاً جانبياً، ودخلت، ما رأيته لم يشبه المخيّم الذي أعرفه، الشارع الرئيس بات حفرة ممتدّة.

دمّر الاحتلال في المخيّمين أكثر من 400 منزل بالكامل، وطال الدمار الجزئي أكثر من 2570 منزلاً. البداية كانت بهدم منازل الشهداء، كمنزل القائد "أبو شجاع" من "كتيبة طولكرم" التّابعة لـ "سرايا القدس"، ثم امتدّ التدمير إلى ما تبقّى.

جرافة عسكرية لجيش الاحتلال تتعمد تقطع الأشجار في طرق مدينة طولكرم، وتدمر البنية التحتية، في 29 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: عصام الريماوي/وكالة الأناضول)
جرافة عسكرية لجيش الاحتلال تتعمد تقطع الأشجار في طرق مدينة طولكرم، وتدمر البنية التحتية، في 29 كانون الثاني/ يناير 2025. (تصوير: عصام الريماوي/وكالة الأناضول)

الهدف يبدو واضحاً: تغيير شكل المخيم كما عرفناه، من أزقّة ضيّقة وحارات متداخلة، إلى أحياء مفتوحة، يسهل على الجيش اجتياحها ومراقبتها. تجربة "كتيبة طولكرم" أثبتت أن الأزقة سلاح، لذلك وجب محوها.

في الأول من أيار/ مايو، أعلن جيش الاحتلال نيّته هدم 106 منازل ومبان إضافيّة في مخيمي طولكرم ونور شمس "لفتح طرق جديدة". تركّزت عمليّات الهدم في حارات: المنشية، المسلخ، الجامع، العيادة، والشهداء. حاول الأهالي الدّخول إلى المخيّم لإنقاذ ما تبقى من مقتنياتهم، لكن الجيش واجههم بالقنابل والرصاص.

تذكّر: أنت تحت السيطرة!

كل بضعة أيام، ينفّذ جيش الاحتلال مسيراً عسكرياً يمتد من حاجز "نتساني عوز" مروراً بدوار شويكة وشارع نابلس حتى أطراف مخيم نور شمس. تُمنع السيارات من الاقتراب، ويُطلق الجنود النار لمجرّد الاشتباه. إحدى السيدات كادت تُقتل لأنها لم تنتبه للموكب.

النظر إلى الجنود بات تهمة، أحد الأصدقاء ضُرب لأنّه تجرأ على التحديق فحسب.

قوة مشاة في جيش الاحتلال تتجه إلى مخيم طولكرم، وسط انتشار مكثف في المدينة، في 6 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: وهاج بني مفلح/ وكالة فرانس برس)
قوة مشاة في جيش الاحتلال تتجه إلى مخيم طولكرم، وسط انتشار مكثف في المدينة، في 6 شباط/ فبراير 2025. (تصوير: وهاج بني مفلح/ وكالة فرانس برس)

يسعى الجيش الإسرائيلي إلى جعل وجوده في طولكرم طبيعياً، أي طريق تسلكه قد يواجهك فيه جنود مشاة، أو حاجز مفاجئ، أو تمر فيه مركبة عسكرية تحاول دهسك، المشهد كله مُصممٌ لتذكيرك بأنّك تحت السيطرة.

لا أحد يعرف إن كان سيبقى في منزله أم يُهجّر، ولا النازحون يعرفون إن كانوا سيعودون، أو ما إذا كانت بيوتهم ستظلّ قائمة أصلاً، ما يحدث في طولكرم ليس اجتياحاً عسكرياً فحسب، بل تفكيكٌ ممنهج لما تبقّى من الحياة.



21 مايو 2021
ف ل س ط ي ن : ستجتمع قريباً

ليلة الجمعة خرج علينا المُلثّم الناطق باسم آمالنا من النّهر إلى البحر، ليُعلِن انتصارَ المقاومة في هذه الجولة، وفوقه كتب:…