يحكي بشّار الكرمي عن حنينٍ يعود 27 عاماً في الزمن. كان الكرمي شاباً يبلغ من العمر 18 عاماً حين كان جالساً في زنزانته في سجن طولكرم المركزيّ، بعد تحقيقٍ استمرّ 35 يوماً إثر نشاطه في الانتفاضة الأولى. يومها، دخل ضبّاط المخابرات الإسرائيليّة وسألوه: "بشّار، هل سافرت في حياتك إلى الخارج؟". "لا، لم أسافر، لماذا؟" أجابهم. "ستعرف لماذا بعد نصف ساعة". بعد نصف ساعةٍ استُدعي بشّار إلى غرفةٍ تعج بضبّاط برتبٍ عسكريّةٍ مرموقة، ليتأكّدوا من معلوماته الشخصيّة بشكلٍ مريب.
لم يعرف بشّار السّببَ وراء اكتظاظ السجن بالمعتقلين في تلك الأيّام. كانت "إسرائيل" قد اعتقلت 1,200 فلسطينيّ من كوادر حركتيّ "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وذلك إثر عمليّةٍ لم يكن خبرها قد وصل بعد إلى مسمع الشّاب القابع في زنزانته: عمليّة خطف وقتل ضابط حرس الحدود الإسرائيليّ نيسيم طوليدانو التي نفّذها عناصر من كتائب القسّام يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 1992.
رحلةٌ إلى المجهول
بدأت حيرة بشّار الكرمي تتفاقم ليلة 16 ديسمبر/كانون الأول، حين أُخرج مئات المعتقلين من زنازينهم ووزِّعوا على 22 حافلة من حافلات "إيجد" الإسرائيليّة. لم يسبق للمعتقلين أن نُقلوا في هذا النوع من الحافلات، كما لم يسبق لإجراءات نقل المعتقلين أن تبدأ في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل. وهو ما أزاح احتمالية بأنّ الإسرائيليين ينوون نقلهم إلى سجنٍ آخر. ماذا يحدث إذاً؟ بعد انطلاقها، ظلّت الحافلات تتوقّف بين الفينة والأخرى، ويصعد ضبّاط إليها ليتأكدوا من المعلومات الشخصيّة للمعتقلين، ويتم تصويرهم مرةً تلو الأخرى، معصوبي العينين ومكبّلي اليدين.
استمرّت "الرحلة" 36 ساعة دون أن يعرف المعتقلون وجهتَهم، وسط تيهٍ وخوفٍ من مصيرٍ مجهول. يقول بشّار الكرمي: "حطوا لكل واحد في حضنه شيء. رفعت العصبة إلا أنا لقيت سترة جيشيّة. لأنه إنت بتعرفش وين رايح، بتصير تتخيل كل السيناريوهات المخيفة حاضرة أمامك. صرت أتخيل إنه بدهم يفلتونا بمنطقة، يلبسونا الأواعي العسكرية، ويطلقوا علينا النار، ويقولوا إنه إحنا هربنا من السجن. تخيّل تكون إنت وصلت لهاد السيناريو، هاد بدلّك على مدى المتاهة؛ إنه إحنا مش عارفين وين رايحن… وبراسك تهديد ضابط المخابرات".
وصلتْ الحافلات إلى منطقة المطلّة في أقصى شمال شرق فلسطين السّاعة الرابعة والنصف فجراً، وانتظرت في مواقعها انتظاراً طويلاً حتّى السّاعة السابعة مساءً من يوم 17 ديسمبر/كانون الأول. في تلك السّاعة صدر قرارُ المحكمة الإسرائيليّة العليا الذي أعطى الضّوءَ الأخضر للعمليّة التي لا تزال مجهولة لدى المعتقلين. في التاسعة مساءً وصلت الحافلات إلى معبر زمريّا، وهي آخر نقطة لجيش الاحتلال الإسرائيليّ داخل الأراضي اللبنانيّة المُحتلة في ذلك الوقت. هناك، ساعد جنودُ "جيش لحد" الجنود الإسرائيليّين في إنزال المعتقلين من الحافلات. وفي تلك اللحظة، كانت المرّة الأولى التي يُعلن فيها ضابطٌ إسرائيليٌّ أمام المعتقلين بأنّهم صاروا الآن مُبعدين إلى لبنان.
قرار اللحظة الأولى
عوّلت "إسرائيل" على دخول المبعدين إلى لبنان -أي إلى الأراضي اللبنانية التي لا تقع تحت سيطرتها وسيطرة جيش لحد، وبالتالي عدم عودتهم إلى فلسطين نهائيّاً. لكنّ القرار الذي صدر في اللحظات الأولى من الإبعاد فوّت على "إسرائيل" ذلك: بعد إنزال المعتقلين المُبعدين من الحافلات الإسرائيليّة، وصلت ستُ شاحنات لبنانيّة، لتنقل المبعدين إلى داخل لبنان. انطلقت الشّاحنات فجر الجمعة، 18 ديسمبر/كانون الأوّل 1992، وعند الوصول إلى حاجزٍ للجيش اللبنانيّ، طلب عبد العزيز الرنتيسي من الضّابط اللبنانيّ عدم السماح لأيّ مبعد بدخول الأراضي اللبنانيّة، وهو ما كان يتوافق مع القرار اللبنانيّ الرافض لدخول المبعدين إلى لبنان.
عادت الشّاحنات محمّلةً بالمبعدين إلى حاجز زمريّا الإسرائيليّ. عندما وصلوا، أمهلهم جيش لحد خمس دقائق لينسحبوا إلى داخل الأراضي اللبنانيّة، وإلا أُطلقت النار عليهم. عندما بدأ الانسحاب مشياً على الأقدام في طقس وتضاريس صعبة، فتح "جيش لحد" النار فوق رؤوسهم.
ظّل المبعدون يسيرون باتجاهٍ يجهلونه، وعن ذلك يروي الدكتور عبد العزيز الرنتيسي: "كنت في مقدمة المسيرة ونحن نسير في تلك الليلة لا ندري ما هي وجهتنا فإذا بأحد المبعدين يصرخ أين عبد العزيز الرنتيسي؟ فأجبته، فقال: إن الشيوخ بالمؤخرة تداولوا الأمر فيما بينهم واختاروك وخمسة آخرين من إخوانك، وأذكر منهم الشهيد جمال منصور، لتقود المسيرة حتى يستقر بنا الحال. فإذا بضابط لبناني جاء في سيارة مدنية وأخذ يصرخ علينا، فاقتربت منه وقلت له هوّن عليك فلن ندخل لبنان، فقال: إذاً توقفوا هنا، وفعلاً طلبت من الأخوة أن يتوقفوا بالمكان إلى أن ينبلج الصباح".1حميدات، رمضان. مرج الزهور، صمود ومقاومة. برنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة، جامعة بيرزيت (2014).
توقّف السير، وحينها كان المبعدون قد أُنهِكوا. كان بشّار الكرمي، كما صديقه المقرّب أيمن أبو هين، من الشبّان الأصغر من بين المبعدين. بعد 35 يوماً من التحقيق في سجن طولكرم الذي كان يُسمّى "مسلخاً"، وبعد "رحلة" قلقٍ وخوفٍ استمرّت يومين، غطّ بشّار في نومٍ عميق. وعندما استيقظ من نومه، وجد نفسَه في المكان الذي صار اسمه "مخيّم مرج الزهور".
حياة المخيّم
يُؤرّخ لإبعاد "مرج الزهور" من تاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 1992 وحتّى 17 ديسمبر/كانون الأول 1993. وهي العملية التي أبعدت فيها "إسرائيل" 415 معتقلاً فلسطينيّاً من حركتي "حماس" و"الجهاد" إلى الأراضي اللبنانيّة. العمليّة الإسرائيليّة التي هدفت إلى التخلّص من النشاط النضاليّ للحركتين، انقلبتْ على السّاحر، إذ تحوّلت فرصةً لصياغة قيادةٍ وتنظيمٍ لعب ويلعب دوراً محوريّاً في مقاومة "إسرائيل".
وكانت هذه التجربة حدثاً مفصليّاً في تشكيل حركتيّ "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ"، إذ سمحت بترتيب الصفوف الداخليّة، وتجميع القيادات والمنتمين للحركات الإسلاميّة من مختلف المناطق الفلسطينيّة والأعمار والطبقات الاجتماعيّة في مكانٍ واحدٍ - وهو ما كان متعذراً في فلسطين. وهي التجربة التي قال عنها موسى أبو مرزوق، الذي كان في حينها رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس": "إن حركة حماس ستبقى تستفيد من حدث الإبعاد إلى ما بعد عشرين سنة قادمة".2القرعاوي، فتحي. بعد 25 عاما، مرج الزهور معركة المبعدين الإعلامية (2017)..
منذ اليوم الأوّل للإبعاد، بدأ المبعدون بتنظيم وترتيب أمور حياتهم، وعُيّنت للمخيم قيادة من 40 شخص تقريباً. وبعد مرور بضعة أشهر، أصبح في المخيم 50 خيّمة، عشر خيم منها كان لتقديم الخدمات والباقي للنوم.3حميدات، رمضان. مرج الزهور، صمود ومقاومة. برنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة، جامعة بيرزيت (2014).وكان المبعدون موزّعين فيها حسب المناطق القادمين منها.
بعد ما يُقارب الأسبوعين دخلت المخيّم الأقلام والأوراق. وبعدها وزّع قادةُ المخيّم استبانات على المبعدين ترصد الحالة الشخصيّة للمبعد، والمهنة التي يمتهنها، والكفاءات الموجودة. وبناء على مسح الموارد هذا، بالإضافة لاحتياجات المخيّم، شُكّلت العديد من اللجان: اللجنة الإعلاميّة، ولجنة الساحة، ولجنة صناعة الحدث، واللجنة الفنيّة، واللجنة الهندسيّة، وغيرها من اللجان. كذلك، أُجريت انتخابات لتشكيل قيادة منتخبة، بعد أن كانت الأولى بالتزكية، وكان فيها 17 شخصاً يُمثّلون جميع المناطق.
كان من أبرز القيادات الفلسطينيّة الموجودة في المخيّم: عبد العزيز الرنتيسي، محمود الزهار، حامد البيتاوي، عزيز الدويك، عبد الفتّاح دُخّان، محمود أبو هنود، وآخرون كُثر. وبرز دور الرنتيسي في اللجنة الإعلاميّة، إذ كان الناطق الرسمّي للمخيّم، وكان الدويك الناطق باللغة الإنجليزيّة، وشكّلت هذه اللجنة حالةً استثنائيّةً في المشهد الفلسطينيّ، استطاعت استقطاب مختلف وسائل الإعلام والجهات المعنية.
كذلك نُظّمت العديد من المسيرات والتظاهرات أيضاً، كـ"مسيرة العودة إلى الوطن"، وجنازة مجلس الأمن، ومسيرة المرضى، ومسيرة الأكفان. بالإضافة إلى ذلك، تأسست جامعة ابن تيميّة للمبعدين، والتي تخرّج منها 200 مُبعد، تلقّوا التعليم من قبل أساتذة متخصّصين في الشريعة الإسلاميّة والإدارة والعلوم السياسيّة والجغرافيا والطب واللغات والعلوم الإحيائية. ومن خلالها كانت تجري مؤتمرات ومسابقات ثقافيّة ومناظرات شعريّة، ودورات تدريبيّة، مثل الكارتيه. وأقيم فيها معرضٌ للحيوانات والنباتات والصّخور. وكان هذا التجديد وتلك القدرة على الحياة، من شأنها أن تُبقي قضيّة المبعدين قضيّة رأي عامّ ومحط اهتمام الصحافة العربيّة والدوليّة.
إصرارٌ يكسر "إسرائيل"
إثر الاهتمام الإعلاميّ الدوليّ العريض الذي استطاعت القيادة في المخيم أن تنتجه، تحقّق المنجز السياسيّ الذي تمسّك به المبعدون: العودة إلى فلسطين. إثر الضغوطات، أدان مجلس الأمن في بيانٍ له إبعاد "إسرائيل" للفلسطينيين، وضجّ المجتمع الدولي إثر هذه الخطوة. وغطّى الإعلام العالمي والعربي وقائع الإبعاد، الذي بدا للعالم غير إنساني. واشتغل المبعدون على ذلك، من خلال إلقاء الضوء على خلفيّاتهم المهنيّة والعلميّة، إذ كانوا يتنوّعون بين طبيب ومهندس وأكاديمي ومهني وطالب... وكذلك من خلال تنظيمهم المسيرات والمؤتمرات الصحافيّة ووضع الخطط لصدّ حملات التشويه التي قادتها "إسرائيل". أُحرِجت "إسرائيل"، وبات جلّ تفكيرها في كيفيّة الخروج من هذا المأزق، وبدأت بعرض الصفقات على المبعدين، تجلّت إحداها بأن عرضت عليهم مبلغاً ماليّاً قدره 25 ألف دولار لكلّ شخص، وترحيلهم إلى دول مثل النرويج، أو الذهاب للحج في السعوديّة.
طرحت "إسرائيل" كذلك صفقةً عُرِفت بـصفقة "101"، إذ نصّت على عودة 101 مُبعد بعد سنتين، فيما يُنظر في قضية المُتبقين منهم كلّ واحدٍ على حدة، ويُقرّر بشأنهم لاحقاً. رفض المبعدون هذا التقسيم، "لا زلتُ أذكر سيارة المارسيدس"، يقول بشّار الكرمي، "أجا واحد من معبر زمريّا كان محسوب على جماعة "لحد" في ذلك الوقت. أجا يسلّمها للمخيم، حكولوا لف وأرجع، ماستلموش حتى القائمة إلي فيها أسماء الـ101. إسرائيل إلي اختارتها، بس لليوم ما بعرف مين همي، لانه ما استلمنا الورقة". بعد ذلك عُرضت صفقة أميركيّة تقضي بإرجاع دفعة أولى بعد ستة أشهر من تاريخ عقد الصفقة، فيما تُبحث ملفّات الباقين لاحقاً، وهذه كذلك كان مصيرها الرفض من المبعدين. وكان الرنتيسي يُكرّر في كلّ مناسبة تقريباً، أنّ "المبعدين الـ415 قَدِموا سويّةً، ولن نقبل إلا أن يعودوا مع بعضهم، لا تفرقة ولا تجزئة للحلّ".
في نهاية هذه المسيرة من الإصرار، وافقت "إسرائيل" على إرجاع جميع المبعدين إلى فلسطين، على دفعتين؛ عاد النصف الأوّل في الأوّل من سبتمبر/أيلول 1993، فيما عاد النصف الثاني في شهر ديسمبر/كانون الأول، أي بعد عامٍ كاملٍ من الإبعاد. في سبتمبر اصطف المبعدون في صفّين؛ صفٌّ سيعود وصفُّ سيقضي ثلاثة شهور إضافيّة. كان اسم بشّار مشمولاً في الدفعة الأولى... إنّها "لحظة الحقيقة" كما وصفها.
فكفكة الخيام
شعر بشّار بالاكتئاب والانفصام؛ بين رغبته الفعليّة بالعودة إلى بلده طولكرم، وبين رغبته بالبقاء مع أصدقائه الذين يعرف أنه لن يلتقي بهم مرّة أخرى. من بين من فقدَ الاتصالَ بهم كليّاً بعد العودة كان صديقه أيمن أبو هين. غابت أخباره سنوات، إلى أن سمع بشّار خبر استشهاده هو وأخوته في حيّ الشجاعيّة خلال الانتفاضة الثانية.
"بكاد أجزم إني الي علاقاتي مع الـ415،" يقول بشّار، "طيب هاي سهل إنك تتركها وتغادر وإنت عارف إنّك مش رح تتلاقى معهم بعد هيك، إلا بسجن أو إبعاد؟! مستحيل، إنت شو بده يدخلك غزة، كيف بدك تلتقي بأيمن أبو هين؟ كيف؟ بيوسف؟ محمود؟ محمد؟ الزهار؟ الرنتيسي؟ عزيز؟ وين بدك تشوفهم هدول؟ وين؟"... بعد كثير من التأتأة، توقّف عن الحديث لمدّة 20 ثانية. وكانت يدا أصغر مُبعدٍ من مبعدي مرج الزهور تستمر بالخربشة على الورقة التي أمامه، كأنّه يحاول ألا يتذكّر.
كان الإسرائيليون يحاولون لآخر رمق أن يثنوا المبعدين عن العودة. حين كان بشّار يستعد لعبور البوابة نحو فلسطين، التقاه الضابط الإسرائيليّ قائد الجبهة الشماليّة مهدداً: "بتعرف وين إنت راجع؟ بدك ترجع عالتحقيق، أحسنلك لفّ وارجع". لكنّ المبعدين عبّروا خلال فترة إبعادهم عن إرادة سياسيّة؛ أنّ العودة إلى فلسطين ولو على سجن أهون من أن يطردك أحدهم من أرضك. يقول بشّار وصوت ضربات يديه على الطاولة ترتفع: "لما بقيت أشعر إنه مش رح أرجع على هاي البلاد، طولكرم تحديداً، أكاد أصاب بالجنون".
عاد بشار فعلاً إلى التحقيق الذي لم ينتهِ في سجن طولكرم المركزيّ، واستكمله في سجن الفارعة. هذه المرّة لم تكن فقط عن نشاط بشّار السياسيّ في الانتفاضة الأولى، وإنّما شملت كذلك التحقيق عن وقائع تجربة ندمت "إسرائيل" على خلق ظروفها؛ عن مخيّم مرج الزهور.