3 يناير 2019

قناة "مكان"

الأسرلة بجودة HD

الأسرلة بجودة HD

"مكان" هو اسم القناة والإذاعة الرسميّة الإسرائيليّة الناطقة بالعربيّة. تبثّ القناة بموجب قانون البثّ العام في "إسرائيل"، وأهدافها خاضعة لأهداف "شركة البثّ العام" كما يحدّدها القانون: "تعكس وتوثّق كون دولة إسرائيل دولة يهوديّة وديمقراطيّة، وتمثّل قيم دولة إسرائيل وموروثها [...] وتعمل على تطوير الثقافة والإبداع الإسرائيليّ الأصليّ، والموسيقى الإسرائيليّة [...] وتُعنى باللغة العبريّة وتطوّرها".

"شركة البثّ العام" هذه هي طورٌ جديد من البثّ الإسرائيليّ الرسميّ، قامت بموجب قانون سنّه البرلمان الإسرائيليّ عام 2014، ليستبدل "سلطة البث الإسرائيليّة" التي تأسست عام 1948، والتي تآكلت وهُمّشت كليّاً. أمرٌ يجعل من قناة "مكان" وإذاعتها الإسرائيليّتين الناطقتين باللغة العربيّة، امتداداً للتلفزيون الإسرائيليّ الناطق بالعربيّة ولإذاعة "صوت إسرائيل". إلّا أنّ هذه النسخة الجديدة من البث الإسرائيليّ بالعربيّة تبدو، للوهلة الأولى، أكثر حيويّةً؛ برامج كوميديا (إن صحّ تسمية هذا الشيء بالكوميديا)، وبرامج غناء (إن صحّ تسمية هذا الشيء بالغناء)، وبرامج طبخ (ومن حظّنا أن التلفزيون لا ينقل الأطعمة بعد)، وبرامج أخرى تطرح قضايا واجتماعيّة. إنها تمثّل قفزةً، إن أمكننا القول، مقارنة بطبيعة البث الإسرائيليّ بالعربيّة كما كنّا نعرفه في العقود السابقة.

تمثّل التغيّرات في البثّ الإسرائيليّ العام بكّل اللغات، تحوّلات جذريّة على مستويات متعدّدة ومتشابكة في "إسرائيل"؛ تحوّلاتٌ في الاقتصاد والمجتمع والسياسة، تربط بين الخصخصة وتحرير السوق من جهة، وإضعاف البثّ العام لصالح البثّ التجاريّ من جهة أخرى. وهي تغيّرات ترتبط بتحطّم "حزب العمل الإسرائيليّ" الذي شكّل، تاريخياً، هيمنةً على السلطة السياسيّة لم تنكسر حتّى نهاية السبعينيّات.

امتدّت هذه الهيمنة إلى جميع مؤسسات الكيان، لا سيما الإعلاميّة منها. ويأتي تأسيس "البث العام" الجديد كخطوة حديثة لإنقاذ البث العام من فشله في مواجهة التلفزيونات التجاريّة. هنا تظهر أسئلة من قبيل: ما الذي تعنيه هذه التحوّلات في البثّ العام بالنسبة للفلسطينيين في الداخل الفلسطينيّ؟ وكيف تُعبّر قناة وإذاعة "مكان" الجديدة عن نمط جديد من الأسرلة؟ وكيف يُمكن أن نرى اندماج البعض داخل الجهاز الدعائيّ الرسميّ لـ"إسرائيل" اليوم؟

العرب والإعلام الإسرائيليّ: ليست مجرّد حالة حرب

قام البثّ الإسرائيليّ الناطق بالعربيّة منذ الخمسينيّات على مبدأ نشر الدعاية الصهيونيّة وبثّها إلى الوطن العربيّ، في محاولةٍ (عن طريق الإذاعة تحديداً) لتجاوز وسائل الإعلام العربيّة. وأُنتجت المضامين الإعلاميّة باللغة العربيّة من قبل الصهاينة الشرقيين ممّن هاجروا إلى فلسطين من البلدان العربيّة. وبقي وجود فلسطينيي الداخل في هذه الأجهزة الإعلاميّة هامشياً ونادراً إلى حدٍّ بعيد، وحين بدأ عمل بعض الفلسطينيين في هذه الأجهزة خلال الثمانينيّات، كان ذلك بموافقة جهاز المخابرات الإسرائيليّ وتدخّله المباشر.

كان جهاز المخابرات -خلافاً لتعامله مع باقي وسائل الإعلام الإسرائيليّة- يعمل منذ الخمسينيّات على إملاء كافة المضامين التي تُبثّ باللغة العربيّة، بما يتلائم مع رسائل "إسرائيل" اتّجاه العرب، في إطار حالة "الحرب النفسيّة" والإعلاميّة مع الدول العربيّة. كذلك، شغل البث الإسرائيليّ وظيفة قمعيّة اتّجاه الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلّة.

لكنّ هذا التعامل العدوانيّ مع الفلسطينيين لم يكن مجرّد جزء من حالة الحرب السائدة، بل أدّى دوراً أيديولوجياً صهيونيّاً هامّاً اتجاه "إسرائيل" ذاتها؛ إذ اِلتَمَسَت الأيديولوجيا الصهيونيّة منذ بداية استعمار فلسطين توحيد الهويّة الثقافيّة للمهاجرين المستعمرين الذين وصلوا إليها. وزادت هذه الحاجة إلحاحاً مع ازدياد أعداد المهاجرين من العراق والمغرب واليمن وسائر الدول العربيّة.

حاولت الصهيونيّة خلق هويّة "إسرائيليّة" موحّدة من خلال وكالات الدولة وعلى رأسها الجيش، ولعب البثّ العام دوراً مركزياً فيها. لم تتأسّس هذه الهويّة الأحاديّة المتجانسة على تكافئٍ وتفاعلٍ بين الهويّات المختلفة لليهود، بل طُمست جميع الهويّات الثقافيّة غير الأوروبيّة لصالح هويّة إسرائيليّة واحدة تحمل ميّزات فكريّة وثقافيّة أوروبيّة تتجانس مع الجوهر الاستعماريّ العنصريّ للصهيونيّة.

لكنّ هذه الهويّة المحّددة لم تتطلّب تجذير الميّزات الثقافيّة الأوروبيّة فقط، بل قامت أيضاً على نفي الميّزات العربيّة عن يهود الشرق. الوظيفة الأيديولوجيّة للبثّ الإسرائيليّ باللغة العربيّة تطلّبت أداءً يقزّم ويشوّه ويهمّش الهويّة الثقافيّة العربيّة، وينفي أي وجود اجتماعيّ لفلسطينيي الداخل عن الشاشة، ليقوّي حالة التنافي التامّ بين الفلسطينيين ويهود المشرق.

وداعاً للهويّة الواحدة... أهلاً "بالتعدّدية الثقافيّة"

شهد البثّ الإسرائيليّ العام تحوّلاً تامّاً، وهو تحوّلٌ مرتبط بمسألة المضامين الإعلاميّة ودورها في تشكيل الهويّة الإسرائيليّة، لكنه مرتبط أيضاً بتغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة جذريّة في "إسرائيل". الحضيض الذي وصلت إليه الإذاعات والتلفزيونات الإسرائيليّة الرسميّة (العبريّة كما العربيّة) كان سببه بالأساس صعودُ القنوات التجاريّة مثل القناة الثانية والقناة العاشرة، وغيرها من القنوات التي استطاعت أن تفسح المجال، نتيجة طابعها التجاريّ الذي لا يلتفت إلّا للوصول لأعلى نسب مشاهدة، لتقدّم مواد تحاكي شرائح مجتمعيّة مختلفة.

استطاعت هذه القنوات التجاريّة، بالتالي، أن تزعزع الهيمنة الأشكنازيّة التي حاول البثّ العام أن يحافظ عليها. وبدأ الإعلام يشهد حضوراً أقوى لميّزات ثقافيّة "إسرائيليّة" شرقيّة، خاصةً في مجال الترفيه، تماماً كما بدأ يستجيب لحملات ضغط تندّد بالهيمنة الأشكنازية على عالم الدعاية والإعلام.

لم يكن الإعلام وحده ما يتغيّر بهذا الاتجاه، إنما السياسة الإسرائيليّة برمّتها، منذ صعود حزب "الليكود" للحكم عام 1977، وحتّى تثبيت هيمنته التامّة على السياسة الإسرائيليّة اليوم. كان ذلك من خلال تحويل الهجوم على "اليسار الإسرائيلي" باعتباره هجوماً على النخبة الأشكنازيّة التي طمست واستضعفت الشرقيين. لم يرتبط ذلك بالهيمنة الثقافية فقط، إنما أيضاً بالهيمنة على الشركات الاقتصاديّة الحكوميّة الكبرى. وقد جاء فتح الأسواق وخصخصة الشركات ضمن الرزمة التي قدّمها حزب "الليكود" منذ صعوده، حيث ربط بين الطابع "الاشتراكي اليساريّ" والهيمنة الأشكنازيّة.

شهد هذا التغيير تصعيداً جذرياً خاصةً بعد أن ثبت نتنياهو في سدّة الحكم الإسرائيليّ. وشكّلت هذه التغييرات فهماً صهيونياً مختلفاً للمجتمع والدولة. انعدمت في هذا الفهم مركزيّة "فرن صهر" الهويّات في هويّة واحدة، وباتت السياسة تستفيد (بل وتتحرّك) من قوة سياسة الهويّات. وباتت "التعدّدية الثقافيّة" تُسوّق باعتبارها استعادةً للميّزات الشرقيّة عند الشرائح الاجتماعيّة المستضعفة في "إسرائيل".

في المقابل، ارتبطت واشتُرطت هذه التعدديّة بالتحرير المطلق للسوق، واندماج هذه الشرائح فيه، وتفريغ الهويّة الثقافيّة من أيّة شحنة سياسيّة تتعلّق بالقضايا الجذريّة التي تنقض الأيديولوجيا الصهيونيّة، وتشتبك مع المواطنة الإسرائيليّة أو مؤسسات الدولة. بكلمات أخرى: أن ينعدم من الهويّة الثقافيّة أي مضمون سياسيّ، وأن تصبح الثقافة كائناً شأنه الاحتفاء بميّزات الماضي، لا إنتاج المستقبل السياسيّ. أي أن تصبح الثقافة وتصبح قضايا المجتمع مسألةً فلكلوريّة، أو مسألة داخليّة، أو حتّى مسألة سياسيّة في إطار السياسة الداخليّة تحت مظلّة الأيديولوجيا الصهيونيّة.

الدولة الاستعماريّة القائمة على تجميع المهاجرين بغية استيطان وسرقة أراضي الشعوب المستعمَرة، تستطيع بهذه الطريقة أن تدير توازناتها الداخليّة وأن تمنع التجاذبات الهويّاتيّة من أن تتحوّل إلى صراعات حقيقيّة على السلطة.

"مكان" لعرب "إسرائيل"

هذه التحوّلات الإسرائيليّة لا تقتصر الشرائح الاجتماعيّة اليهوديّة، مثل الشرقيين والأثيوبيين والروس وغيرهم، إنما هي قادرة على احتواء فلسطينيي الداخل إلى حدٍ بعيد، في ظروف ارتباطهم المطلق بالسوق الإسرائيليّ، وارتهان حياتهم السياسيّة بالأطر القانونيّة الإسرائيليّة الخاضعة لدائرة المواطنة.

الرؤية الإسرائيليّة الجديدة للنظام السياسيّ والاجتماعيّ قادرة على استخدام "التعدّدية الثقافيّة" كوسيلة لرخي التوتّر، ورأب التنافر المعرفيّ بين الانتماء الهويّاتيّ لفلسطينيي الداخل من جهة، وبين التزامهم التام بدائرة المواطنة. "الهويّة الإسرائيليّة" لم تعد تحمل في حدّ ذاتها أهميّة، إنما السوق الإسرائيليّ هو وحده ما يشكّل ويضمن الارتباط والولاء للنظام السياسيّ. يمكن للثقافة والفلكلور، بهذا المفهوم، أن يتحوّلا إلى حالة استهلاكيّة وتجاريّة تفعّل المسارح والمهرجانات والفرق التراثيّة والبرامج الترفيهيّة، دون أن يتحوّل هذا المضمون الثقافيّ إلى قوّة تحرّك الفعل السياسيّ.

قناة "مكان" وإذاعتها تعبّر عن هذا التحوّل في الأيديولوجيا الإسرائيليّة: يُمكن للفلسطينيّ أن يمارس مطبخه وترفيهه، ويقدّم أغانيه ويحاور نجومه، ويناقش قضاياه الاجتماعيّة (وحتى السياسيّة!)، طالما ظلت مُلتزمة بدائرة المواطنة.

يُنتج هذا التوجّه شخصيّات إعلاميّة عربيّة فلسطينيّة ثقافياً، وإسرائيليّة من حيث ولائها والتزامها بالنظام السياسيّ. هذا جيلٌ جديد من الفلسطينيين الذين اختاروا أن يكونوا في صفّ المؤسسة الإسرائيليّة وتحت مظلّتها. لا يختلف هذا الجيل عن الجيل السابق وبلادة أصوات: "هنا صوت إسرائيل من أورشاليم القدس" وألوانهم الباهتة، إلّا من حيث جودة البث والتقدّم التقنيّ. والحقّ يُقال؛ إن اليهود الشرقيين ممن أنتجوا للجيل السابق من البث الصهيونيّ لم يخطئوا، على الأقل، في قواعد اللغة العربيّة.



4 أغسطس 2019
شخير اللاجئين في مسرحيّة أميركيّة

في مسرحيَّةٍ أميركيّةٍ عن اللُّجوء، كانت ممثّلةٌ تحكي قصَّةً بالغة الشعريَّة عن رحلة هجرة من أميركا الجنوبيَّة إلى حدود الولايات المتحدة…