21 أبريل 2019

الكتاب الأخضر

خارج بكائيات أفلام السود الأميركية

خارج بكائيات أفلام السود الأميركية

عام 1962 احتاج الموسيقي العالمي الأميركي من أًصول أفريقية دون تشرلي إلى سائق في رحلته بين الولايات الجنوبيّة ليعزف على البيانو. إلا أنّ من يبحث عنه ليس سائقاً فقط، بل يريده كذلك بمهمة حارسٍ شخصيٍّ، نظراً لما يمكن أن يواجِهَهُ من عدوانية مُحتملة خلال جولته، ففي تلك الفترة كان العنصرية ضدّ السود في أوجهها. في مواجهة تلك العنصرية، استخدم السّود "الدليل الأخضر"، الذي يحوي خرائط للطرق وعناوين النوادي والفنادق التي يمكن أن يرتادها ذوو الأصول الأفريقية دون أن يخشوا تعرضهم للأذى.

عَلِم بتلك الوظيفة الشاغرة الأميركيُّ من أصول إيطالية توني ليب، بعد أن أُقفل النادي الليلي الذي كان يعمل به لإجراء تصليحات فيه. وجد ليب الوظيفة فرصةً مُغريةً لتوفير مصاريف منزله الذي يضج دائماً بأفراد عائلته وعائلة زوجته في وقعٍ حميميّ وفكاهيّ يجذب المُشاهد.

هذه الحميمية تنتقل إلى العلاقة بين توني ومُشغِّلِه، على الرغم من عدم تقبل الأول في البداية أن يعمل لصالح رجلٍ أسود. ميوله العنصرية ليست عيبه الوحيد؛ فتوني أيضاً يستسهل سرقة الأشياء، ويأكل قطع الدجاج بيديه أثناء قيادة السيارة، ويثرثر كثيراً، وما تلك إلا نقيض صفات عازف البيانو؛ فدون يهوى العزلة والصمت، ويكره أن يأكل بيديه، بل يعتبر ذلك تصرفاً سوقياً. كما أجبر دون توني على التراجع عن عدة تصرفات سيئة؛ كرمي كوب بلاستيك من نافذة السيارة، وسرقة حجر جالب للحظ من إحدى المحال التي تعرض منتجاتها في الهواء الطلق.

تمتدّ رحلة الاثنين لأسابيع في السّيارة بإصرارٍ من العازف دون تشرلي الذي قام بدوره الممثل ماهر شالا علي، ليس من أجل المال، فشهرته تجعله يعزف في أيّ مكان يختاره، بل أراد تليين قلوب تلك الولايات التي تنضح بالعنصرية، وهذا يحتاج كثيراً من الشجاعة، ولكنها شجاعة كلفته عادات سيئة كشرب كميات كبيرة من الكحول، وتفضيل الوحدة.

يبدو أن دون لا ينجح في الوصول إلى قلوب أهالي تلك الولايات فقط، فهو يترك بصمته أيضاً على توني نفسه الذي يبدأ يلاحظ ما يتعرض له ربُّ عمله، ما يضطره إلى التدخل في عدد من المواقف كي ينقذه من فضائح محققة أو اعتداء مجانيّ لمجرد كونه أسوداً، أو التقليل من قيمته لأنه ليس مبدعاً أبيضاً. يناصره دون في أكثر من موقف ليس لأنه حارسه الشخصيّ فقط، بل لأنه لاحقاً يتبنى إبداعه وقضيته؛ إذ يتطهر على مهل من العنصرية التي جعلته في بداية الفيلم يرمي كأساً من الماء في القمامة لأن عاملاً من أصل أفريقيّ شرب منه.

يأتي هذا التغيير في الشخصيتين خلال منظومة إبداع يشترك بها المخرج والممثلون ومؤلفو السيناريو، دون أيّ خلل في السياق الدراميّ، بل في تصاعدٍ للمَشاهد توصل الفيلم إلى ذروته من الإمتاع والتعاطف.

يقع السائق توني في حبّ موسيقى ربّ عمله، ويشعر أنه يحمي عبقرياً فريداً من نوعه. لكن يبدو أنه ليس وحده من يُشفَى في الفيلم من علل الروح، فدون نفسه المتعالي المنعزل سرعان ما يجرب أكل الدجاج بيديه، ويثرثر ويبدأ يختلط بأبناء أمته الذين لم يكن يعرفهم بحقّ.

هذه الرحلة على طوال الفيلم، ليس هدفها ببساطّة أن يتقبل البيضُ مبدعاً شهيراً وغنياً أسوداً فقط، بل أراد لها المخرج بيتر فاريلي أن تذهب إلى بعدٍ موازٍ لهذا كلّه. لذلك نرى العازف البرجوازي يتعلمُ حبَّ أبناء جلدته ويتعرف على مشاكلهم وبيئتهم. كانت أولى مشاهد إحساسه بالغربة عنهم حين نزل من السيارة ليدخن بين الحقول الخضراء الممتدة، فيرى عشرات من وجوه السود المتعبة من العمل تحت الشمس في جمع المحاصيل تُحدِق به وبسيارته، الأمر الذي يجعله يبدو دخيلاً عليهم، بل إقطاعياً آخر ممن استعبدوهم، ليكون لون البشرة لحظتها أمرا هامشياً.

كما أن دون لم يُجرِّب يوماً أن يعزف في حانات السود الشعبيّة، عُشاق السكسفون، كأنّ العزف على البيانو درجة أعلى من موسيقاهم. لكن الأمور سرعان ما تتغير حين يأتي موعدُ عزفه الأخير على جدول رحلته في فندقٍ فاخرٍ، إذ ترفض إدارة ذلك الفندق أن يتناول دون -الذي يعزف عندهم- عشاءه في المطعم الرئيسي للفندق بين البيض، ما يجعله يرحل عنهم، متوجهاً إلى حانة من حانات أبناء جلدته. هناك المفاجأة مزدوجة؛ فهذا المهندم ببدلته الفاخرة يصدمهم بموسيقاه العبقرية، وهؤلاء البسطاء يثيرون فرحه بحماستهم الصاخبة منقطعة النظير.

بذلك يبتعد فيلم "الكتاب الأخضر" للكاتبين بريان كوري ونيك فاليلنجا، كما اشترك المخرج بالكتابة معهما، عن الكليشيه التاريخي إزاء البيض والسود الذي تقدمه غالبية أفلام هوليود، كأن يكون الأسود مستعبداً لدى الأبيض أو مظلوماً من قبله في مكانته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

من الأفلام التي ابتعدت كذلك عن هذا الكليشيه فيلم "ضوء القمر" - 2016 الذي مثّل فيه أيضا ماهر شالا علي، وحاز عنه على جائزة الأوسكار كـ"أفضل ممثل مساعد" لعام 2017. كما حصل فيلم "ضوء القمر" على جائزة أفضل فيلم بذات الحفل، وهي الجوائز نفسها التي حصل عليها "الكتاب الأخضر" في حفل الأوسكار الأخير في فبراير/ شباط الماضي. وعلى إثر ذلك عاد الفيلم ليتصدر شباك التذاكر في صالات السينما الأميركية في الدرجة الرابعة بعد أن كان قد خرج من السباق.

يعبّر فيلم "الكتاب الأخضر" عن أزمة هوية شاملة، إذ يتناول المخرج عدة مداخل للذات وتقبلها ولونها والنضال من أجلها بدقة واهتمام لا متناهي بالتفاصيل يشبع المُشاهد، كموضوع المثلية مثلاً الذي لم يكن قضيته الأولى كما فعل فيلم "ضوء القمر"، ومع ذلك جاء المشهد الذي تناولها قوياً.

كما لعب المخرج على الشجاعة والعناد والفكاهة والموسيقى الجيدة في مواجهة ثيمات مركّبة للعنصرية، وأعطانا بطلاً أسوداً يعاني من العيوب، وليس الضحية المثالية للعنصرية كما في أفلام أخرى مثل "12 عاماً من العبودية"، أو فيلم "اللون البنفسجي"، وغيرها.

الفيلم كتلة من المشاعر والمواقف العاطفية والعائلية، وقد أتقن  الممثل فيجو مورتينسون دوره ببراعة، ومن الصعب تخيل ممثل آخر يقوم بالدور بدلاً عنه بتلك اللكنة الايطالية، وجمعه لتناقضات الحنان والإهمال والبلطجة والعدالة. لكن رغم تلك البراعة لم يحصل على الأوسكار كأفضل ممثل في دور رئيسيّ في حفل 2019، وذهبت الجائزة إلى الممثل رامي مالك.

المخرج بيتر فاريلي صاحب البصمة الفكاهية الفاقعة في أفلامه، خاصة فيلم "الغبي والأغبى" بأجزائه الثلاثة، من الصعب وصف فيلمه هذا بالفكاهي لأن التراجيديا تغلب عليه، كما أنه أعمق من أن يكون خفيفاً كأفلام الطريق، بل قدّم توليفة معقدة من الفكاهة والعلاقات والحكايات والأزمات التي تجعلك في نهاية الفيلم، مع مشهد وصول السائق إلى عشاء عائلته خلال ليلة عيد الميلاد، تشعر بسعادة أبطاله وأهمية فهم مأساة الآخر.

ليس هذا الفيلم الوحيد الذي تجتاحك المشاعر في نهايته، بل معظم الأفلام التي تنافست على الأوسكار لعام 2019 تُصاحِبك في نهايتها مشاعر قوية؛ ففي فيلم First Man لا يتخلى عنك شعور الفخر والإنجاز، في حين تشعر بعظمة الموسيقى وأثرها في خاتمة فيلم Bohemian Rhapsody، وتقدّر أهمية دوافع الكراهية والحقد والغيرة كي يستمر الإنسان بنهاية فيلم The Favourite، لكن يبقى فيلم Green Book الأكثر ألفة إلى القلب، وشبهاً بخياراته، فهذا العالم يحتاج مزيداً من تليين قلوب قاسية لا تختفي بتقدم الزمن.