في 8 آب/ أغسطس 2022، أُلغيت القرارات بقانون التي كان قد أقرّها الرئيس محمود عباس في سبيل الاستفراد بمؤسسة القضاء وتجييرها لصالحه. وعلى الرغم من أنّ حراك المحامين نفّذ خطواتٍ احتجاجيّة لإلغاء هذه القرارات استمرّت شهرين، إلا أنّ أحداً من السلطة لم يعبأ بهم. فالحراك الذي عمّ الضفّة الغربيّة وشارك فيه المحامون بمختلف انتماءاتهم السياسيّة، أُنهيت فعاليّاته قبل أن يُنهي ما جاء لأجله.
بعد أن حقّق الحراك تفاعلاً كبيراً ومُهمّاً لإلغاء القرارات بقانون الكارثيّة، جاء أمين سرّ اللجنة المركزيّة لحركة "فتح" جبريل الرجوب وقطف الثمرة عبر تقديمه "مُبادرة" بصيغةٍ فضفاضة لم تتضمن أي وعودٍ جادّة لتلبية مطالب الحراك (كان الرئيس أبو مازن قد كلّف الرجوب برئاسة لجنة لمحاولة الوصول إلى "حلول" فيما يخصّ حراك المحامين). واستمراراً لهذه السرقة العلنيّة، صوّتت الكتلة التابعة لـ"فتح" داخل النقابة؛ "كتلة القدس"، لصالح هذه "المُبادرة" ووقف كافّة الفعاليّات الاحتجاجيّة، وإلغاء القرارات بقوانين.
بالطبع، لم يعتبر المحامون ذلك انتصاراً لحراكهم، إذ شعروا بالخذلان حين تحوّل نضالهم إلى مناسبةٍ تتصارع فيها تيّارات داخل "فتح" (أبرزها تيّار الرجوب وتيار توفيق الطيراوي)، كلّ منها يسعى لإلغاء الآخر وإثبات مدى نفوذه وتأثيره وتحكّمه بقطاعٍ هام كالقضاء. هكذا، التهمت صراعاتُ "فتح" الداخليّة حراكاً مطلبيّاً هامّاً، وقضت السلطة عليه بهراوةٍ ناعمةٍ على شكل "مُبادرة" بعدما أحسّت بأنّ جسماً يتوحّد المُحامون خلفه قد يتطوّر بما لا تحمد عقباه.
علامَ انتفضَ المُحامون؟
جاء هذا الحراك غير المسبوق للمحامين رفضاً لمجموعة من القرارات بقانون التي هدف أبو مازن من خلالها لإعادة بناء منظومة القضاء، ضمن سعيه القديم والمُستمر في إحكام القبضة الأمنيّة على المُجتمع وتغوّله فيه بما يضمن له بسط نفوذه ونفوذ زمرته.
صدرت أربع قرارات بقانون،1صدرت في نهاية كانون الثاني/ يناير من العام الحالي: قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية، وهو ينظر في الدعاوى والطلبات والدفوع والطعون المدنية والتجارية أمام المحاكم النظامية في فلسطين. وقانون الإجراءات الجزائية، وهو مجموعة من القواعد القانونية التي تحكم إجراءات البحث عن الجريمة وضبطها ووسائل إثباتها. وقانون البينات في المواد المدنية والتجارية، وهو ينظر في الدعاوى المتعلقة بالسندات والأوراق والوثائق المالية والتجارية. وقانون تشكيل المحاكم النظامية، وهو يُنظّم إقامة المحاكم النظامية بمختلف درجاتها وتعين دائرة اختصاصها. اندرجت تحتها تعديلات كثيرة تُهدّد العدالة ولا تُنصف الناس، كان منها: تحميل فريق الدفاع أدواراً هي في الأساس ضمن مهام النيابة. فبناءً على التعديلات الجديدة، بات على المُتهم أن يُحضِر بنفسه الشهود، وعدم قيامه بذلك يعني تنازلاً عن الحق بسماعه. كما شملت التعديلات جواز توقيف المتهم أو تمديد توقيفه دون حضوره إلى المحكمة إذا حالت دون ذلك "ظروف قاهرة"، مع عدم تحديد هذه الظروف التي قد يُترك البتّ فيها للأجهزة الأمنيّة. يطرح أحمد الأشقر، وهو قاض سابق أحالته السلطة إلى التقاعد المبكر هو وخمسة قضاة آخرون وسبق أن أُخضع لمحاكمات على خلفية مقالات رأي، مثالاً لكيف تُساق "الظروف القاهرة"، فمثلاً؛ ادعت الأجهزة الأمنية مؤخراً عدم وجود تنسيق أمنيّ لنقل أحد المُتهمين من مركز الاحتجاز إلى المحكمة، وليس عند القاضي إمكانيّة فحص مصداقية هذا الإدعاء.
ومن جملة التعديلات أيضاً إسقاطُ أي معاملة قانونية بعد مرور عامٍ كامل عليها دون استكمال كافة أركانها، ما يعني حرمان أطرافها من حقّهم القضائي؛ فإن كان المُتهم خارج حدود السُلطة تسقط القضية إذا مرّ عام عليها. وأيضاً سهولة إنكار الشخص توقيعه على أي معاملة ماليّة وقبول المحكمة بذلك، مثلَ الشيكات التي ساهمت السلطة بشكل أساسي في رواجها وتقييد السوق بها. كذلك، رفع رسوم الإجراءات والطعون والطلبات المُقدّمة أمام المحاكم الإدارية، لتتراوح بين 50 - 2000 دينار، بينما لم تكن تتجاوز العشرين ديناراً. ومنها أيضاً: إلغاء جلسات محاكم الاستئناف العلنية، بمعنى أنّ القاضي أصبح بإمكانه عقد جلسة استئناف مُغلقة للنظر في قضية ما دون أن تكون مفتوحة للحضور العلني.
أثارت هذه التعديلات المفاجئة أسئلةً كثيرة حول الهدف من إقرارها، خاصةً أنها تتعارض مع المصلحة العامة ولا تخدم إلا مصالح فئات محدّدة، فهي تُضعف من قدرة القضاء على ممارسة دوره في تنظيم المُجتمع وتضرب ثقة الفلسطينيّ بهذه المؤسسة أكثر وأكثر. وممّا ساهم في هذه الريبة، توقيت إقرار هذه التعديلات، إذ تزامنت مع نقاش خلافة أبو مازن وكثرة الاعتقالات والاعتداءات من قبل الأجهزة الأمنيّة.
اقرؤوا المزيد: تعديلاتٌ في القانون.. السّلطة تلتهم الجمعيّات الأهليّة
نُشرت القرارات بقانون في مارس/ آذار على جريدة "الوقائع الفلسطينيّة"، دون أن تمر بأي نقاشٍ مع جهات وأطراف الاختصاص. على ذلك، علّق أمين سر نقابة المحامين داود درعاوي بالقول: "القرارات بقانون أُعدت بالظلام دون نقاشها مع أطراف العدالة، ودخلت حيز التنفيذ الفوري دون النظر بالمواقف الرافضة".
بُرّرت التعديلات وقتها - حسبما نُشر على وكالة الأنباء الرسمية (وفا) - أنها تساهم في تسريع إدارة الدعاوي ما سينعكس إيجاباً على العمل القضائي، وذلك من خلال استخدام التكنولوجيا والتقنيات الحديثة لتقصير أمد التقاضي. غير أن السلطة لا يبدو من هذه القرارات بقانون أنّها كانت تسعى لبناء قضاء يحقّق العدالة، وإنما كانت تسعى لبناء قضاء يحقّق مصالح نخبتها، وخلال ذلك تتم إعادة تشكيل علاقة المجتمع بمنظومة قضائه. يقول درعاوي: "كلّ القرارات بقانون ستؤدي إلى نتيجة تقليص وصول القضايا إلى المحاكم، والمواطن الضعيف الذي لا يستطيع تحمّل تكاليف المحاكم سيلجأ لتحصيل حقّه بيده".
على إثرها، وفي حزيران/ يونيو، بدأت نقابة المحامين الفلسطينيين بخطواتٍ احتجاجيّة متصاعدة، كان منها: تعليقٌ للعمل في النيابات والمحاكم والدوائر الرسمية، وتنظيم اعتصامات شبه يومية بمشاركة مئات المحامين أمام عددٍ من المحاكم وفي أروقتها؛ أضخمها الذي نُفذ في 25 تموز/ يوليو أمام مجلس الوزراء، كما أعلنت النقابة نقل ملفات المحامين المزاولين البالغ عددهم نحو سبعة آلاف محامي بشكلٍ تطوعيّ إلى سجل غير المزاولين.
القرارات بقانون: ليست هذه المرّة الأولى
وإن أُلغيت القرارات بقانون الأخيرة في هذا الوقت، إلا أنّ التجربة والتاريخ يدفعاننا إلى توقّع إعادة إصدار مثلَ هذه القرارات، فمكرُ من في السلطة لا يؤتمن.
منذ عام 2007 أصدر محمود عباس نحو 400 قرار بقانون، تصاعدت وتيرتها منذ عام 2019، وكان منها ما طال بنية القضاء، كالصادرة عام 2020 والتي هدفت لتعديل قانون السلطة القضائية وتشكيل المحاكم. وحتى يُمرّر القوانين على مزاجه عطّل أبو مازن المجلس التشريعي نهاية عام 2018، ومهّد لهذه الخطوة عبر إصداره قرار بقانون عام 2016 رفع فيه الحصانة عن أعضاء المجلس التشريعي. كان الهدف من ذلك، استغلال مادة قانونيّة تعطيه صلاحية إصدار قرارات لها قوّة القانون في حال تعطّل التشريعي، وذلك في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأجيل. يقول ماجد العاروري، المختص في حقوق الإنسان والشأن القضائي، إنّ "المادة وحتى لو استخدمت بشكل استثنائي - كما هو منصوص - إلا أنها ستصبح قاعدة فيما بعد كحال الكثير من القرارات بقانون"، وهو ما حصل فعلاً.
اقرؤوا المزيد: القضاء الفلسطيني.. كيف يؤمّن عبّاس نفسه؟
بالنظر إلى القرارات بقانون التي أصدرها أبو مازن طيلة تلك السنوات، يبدو وكأنّه يتحيّن الفرصة لإيجاد مخارج قانونيّة تتماشى مع شبكة المصالح التي بناها له ولزُمرته، ويُرسّخ من خلالها تغوّله وهيمنته على كل مفاصل الحياة. يشير العاروري إلى أنّ بعض القرارات بقانون فُصّلت لتضمن وظائف ومناصب لأشخاص، كما حصل مثلاً في القرار بقانون الخاص بتشكيل "المجلس الأعلى للإعلام"، الذي وُجد ليلائم مصالح أشخاص مُتنفذين في السلطة، وقد أُلغي القرار بعد أشهر قليلة تحت الضغط المُجتمعي.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ تفسير القرارات بقانون كثيراً ما يقترن بالمرحلة القادمة لما بعد أبو مازن والتأسيس لها بما يضمن تفرّد نخبته بالسلطة. اللافت منذ عام 2019، بحسب العاروري، أنّ المرجعية القانونية للقرارات بقانون قد تغيّرت، ولم يعد القانون الأساسي أساساً لتشريعها، إنما صلاحيات أبو مازن بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيساً للسلطة الفلسطينيّة، "هذا يتيح الترتيبات لأي مرحلة سياسية قادمة بآليات ليست الانتخابات جزءاً منها".
كيف يضيع الحراك "بين الإجرين"؟
انطلق الحراك في فعاليّاته وفي ذهنه هذا الكمّ من القرارات بقانون، ودواعي استخدامها التي لا تتعلّق بتحقيق العدالة بين الناس. لذا كان صلباً في مواجهة السلطة بأجهزتها، ولم يستجب لكثيرٍ من الضغوطات التي عملت على ثنيه عن مَطلبه في إسقاط القرارات بقانون. ومع ذلك، فإنّ في داخل السلطة وحركة "فتح" تيّارات مُتناحرة تجدُ في الحراكات المطلبيّة والنقابات ميداناً للصراع، فتركب الموجة لتحقيق نفوذها وإثبات وجودها على الساحة السياسية والمجتمعية.
كان حراك المُحامين الذي قادته النقابة إحدى الميادين المُشتعلة، فلم تتوقف هذه التيّارات عن التراشق فيما بينها؛ منها من يسعى لشيطنة الحراك ومنها من يُدافع عنه، ولكنّ جميعها تُفشل الحراك إذ تُغرقه في مُناكفات ومُزايدات سياسيّة، وهو ما يؤكد عليه درعاوي بأن أشخاصاً متنفذين في السلطة قاموا بتغليف الحراك بادعاءات سياسية.
لقد كانت سيطرة جبريل الرجوب على مشهد الحراك وتقديمه "مُبادرة" حازت على النسبة الأعلى في التصويت، مؤشراً على هيمنة تيّاره مقابل تيّاراتٍ أخرى؛ أبرزها تيّار توفيق الطيراوي. إذ يبدو أنّ سحب أبو مازن الحراسة وصلاحيّات الكليّة الأمنيّة عن الطيراوي عنى تحييداً له بعد انتشار تسريباتٍ صوتيّة له يُهاجم فيها كلّ من حسين الشيخ والرجوب.
اقرؤوا المزيد: بيانات وانشقاقات و"طخطخة": ماذا فعلت الانتخابات بالفصائل؟
كان الطيراوي أيضاً قد هاجم في وقتٍ سابق رئيس مجلس القضاء الأعلى عيسى أبو شرار، ووصفه بالشخص الفاسد. فيما نقلت شبكة قدس عن مصادر خاصة، محاولات قام بها المستشار القانوني للرئيس الفلسطيني علي مهنا، هدفت لخلق انشقاق بين مَركِزي نقابة المحامين في القدس وغزّة، وذلك بمهاتفة أعضاء النقابة في غزّة والضغط عليهم لاتخاذ موقف مغاير للفعاليات الاحتجاجية التي نفّذها فرعُ النقابة في القدس.
القرارات بقانون: هذه ليست المرّة الأخيرة
انتهى حراك المحامين، أو أُنهي، دون أن يُحقّق انتصاراً يتناسب مع ما قدّمه طيلة الأيام الماضية من فعاليّات احتجاجيّة. فبعد أن استُغل الحراك كمسرحٍ نَقلت إليه "فتح" خلافات شخوصها ومصالحهم، استُغلّت كذلك القرارات بقانون لإلغائها على يد الرجوب. هكذا، تتغوّل نخبة السلطة على القضاء والقانون، وتحوّله لأداة تُطَوّع كيفما يشاء أبو مازن، فيُصدر تعديلات تمسّ بالقانون الأساسي، وفي الوقت نفسه يلغي هذه القرارات بناء على تدخل أطراف من حركة "فتح". ليصبح القضاء، كما القطاعات الأخرى، محكوماً بنفوذ ومصالح عبّاس وجماعته، وما يخدم تثبيتهم على كراسي السياسة، وفرضهم على المجتمع كقيادات تملك الحلول فتُقدّمها متى وكيف تراه مناسباً.
ما حصل في حراك المحامين لم يكن جديداً أو غريباً، بل هو متصلٌ بسياق تعامل السلطة مع الحراكات الاجتماعية التي تنشأ بشكل مُستمر في الضفة الغربية، رافضةً مُمارسات السلطة وتغوّلها في مجالات عدة. فالحراكات التي لم تُقمع مباشرةً كما قُمع حراك "ارفعوا العقوبات"، قُمعت عبر تسلّل شخوص "فتح" إلى داخلها ومحاولة تفتيها داخلياً واللعب على أوتار ضعفها واستخدامها كساحة لصراعات وخلافات شخصية. إذ أنّ السلطة تتخوّف من كل حراك يُولد فتأخذه على محمل الجدّ، وعلى ما في حراك المُحامين من سقف مطلبيّ يسعى لإصلاح السُلطة، فإنّ السُلطة لم تقبل به ولم تره إلا مُهدّداً لها.
لا يعني كلّ ذلك أنّ حراك المحامين لم يُحقق شيئاً، فالإجماع حوله الذي تمثّل بمشاركة آلاف المحامين، إضافةً للأجسام النقابية الأخرى، واستمراره كلّ هذه المدّة، يُعتبر إحدى الإنجازات المهمة التي يجب الاستثمار فيها والمراكمة عليها بغية تشكيل جسم قويّ يحمي الناس ويقف أمام تغوّل السلطة.
أُلغيت القرارات بقانون الأخيرة، ولكنّها لن تكون الأخيرة حقّاً. ممّا يعني أنّ نقابة المحامين ستبقى في مواجهة دائمة أمام استمرار استخدام القرارات بقانون، لذلك فإنّ بقاءها مُتيقظة ومستعدة للدخول في جولات قادمة من الحراك، هو الكفيلُ الوحيد بألا يضيع الجُهد الذي قُدّم من المُحامين، وألا يُنتزع الأمل فيما بينهم بالتغيير، والأهم من كلّ ذلك: بألا يُلدغ من جحرٍ واحدٍ مرّتين.