7 سبتمبر 2021

بدون شبكات صرف صحيّ: كيف يتدبَّر الفلسطينيون أمرهم؟

بدون شبكات صرف صحيّ: كيف يتدبَّر الفلسطينيون أمرهم؟

أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، في قرية دير العسل الفوقا التابعة لمدينة دورا جنوب الخليل، طلب الخمسيني فوزي شوامرة" وهو أبٌ لخمسة، من ابنه محمد ابن الستة عشر عاماً مساعدته لتوسيع حفرة تجميع المياه العادمة القريبة من منزلهم وإنشاءِ حفرةٍ جديدة، ولم يكن على درايةٍ بأنها ستودي بحياتهما مع حياة 4 رجال آخرين من عائلتهم.

خلال عملهما على إنشاء حفرةٍ جديدةٍ تلاصق القديمة، وبعدما وصل الأب وابنه لعمقٍ معينٍ انفجرت هذه الحفرةُ المليئة بالمياه العادمة والغازات السّامة مندفعةً باتجاههم فغرقوا بداخلها. استغاثت زوجة فوزي شوامرة بهلعٍ بإخوتها الثلاثة وابن عمتها فور سماعها صوت الانفجار الهائل من قوّة انهيار الحفرة بما فيها. اندفعوا لإنقاذ صهرهم وابنه دون تفكير، وما أن نزلوا لإنقاذهما حتى فقدوا الوعيَ تباعاً خلال ثوانٍ من سميّة الغازات المنبعثة داخل الحفرة، وفقدوا جميعاً حياتهم.

كانت حصيلة تلك الفاجعة 6 ضحايا من ذات العائلة، و13 طفلاً يتيماً، و5 أرامل وعائلات فجعت بفقدان أبنائها، والسبب: حاجتهم الطبيعيّة  للتخلص من مياه الصّرف الصحيّ.

أكثرُ من نصف الضفَّة بدون شبكة صرفٍ صحيّ

تغطي شبكاتُ الصّرف الصحيّ العاملة ما نسبته 33% فقط من أراضي الضفة الغربيّة بما فيها المناطق المصنّفة "ج" بحسب الدكتور عبد الرحمن التميمي، مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين لتطوير مصادر المياه. تقع معظم هذه الشبكات في المدن الكبيرة كرام الله والبيرة ونابلس، وفي بعض المدن تنتشر بشكلٍ جزئيّ وفي أحياء محدّدة. يرتبط هذا الوضع بأسبابٍ كثيرة؛ بعضها يعود للاحتلال وملحقات اتفاقية أوسلو الثانية التي تشترطُ موافقة اللجنة الفلسطينيّة الإسرائيليّة المشتركة على أيّ مشروعٍ يتعلق بالمياه والصرف الصحيّ في الضفة الغربيّة، وبعضها يتعلقُ بعمل السّلطة الفلسطينيّة والبلديات وارتفاع تكاليف إنشاء تلك الشبكات. 

في ظلّ هذا النقص، يضطر 67% من الفلسطينيين في الضفة الغربية في بقية البلدات والقرى والتجمعات بحسب التميمي، للتخلص من المياه العادمة بأنفسهم، إمّا بطريقة الحفر الصمّاء أو الحفر الامتصاصيّة. والحفرة الصمّاء هي حفرةٌ مهمتها تجميعُ المياه العادمة بداخلها دون أن تسمح بتسرّبها إلى التربة أو المياه الجوفيّة. يتمّ بناؤها بمواصفاتٍ خاصّة، كأن تكون جدرانها مغطاةً بالأسمنت غير النفّاذ، وبمعايير فنيّة تتعلق بالتحلل وتقليل كمية الغازات السّامة المنبعثة من الفضلات التي تتجمع بداخلها، وبما يضمنُ وجود إغلاقٍ محكمٍ لها.

يحتاجُ الفلسطيني رخصةً من قبل البلدية أو الحكم المحليّ لإنشاءِ حفرةٍ صمّاء على حسابه ليتخلص من مياه الصرف الصحيّ. كما أنها إحدى شروط رخص البناء التي تُمنح للفلسطينيين في المناطق التي تسيطر عليها السّلطة ولا توجد فيها شبكات صرف صحيّ عاملة. ولكنّها ذات تكلفةٍ عالية لا يقدر الجميع على تحمّلها. 

وعدا عن تكلفة بنائها، هناك تكلفةٌ شهريّة يتكبّدها صاحبُ المنزل قد تصل إلى 700 شيكلٍ لتفريغ الحفرة من محتوياتها، عبر شركاتٍ خاصّة تملك صهاريج ومعداتٍ تقوم بسحب المياه العادمة من الحفرة، وترميها غالباً في الأودية مُسبِّبة تلوثاً بيئياً. أما اجتماعيّاً، فكثيرٌ من الخلافات والنزاعات بين العائلات كانت تنشبُ بسبب هذه الحفر الصمّاء وما ينتج عنها من روائح كريهة تزعج كلًّ المنطقة خلال عملية التفريغ والنَّقل. 

إذاً، هناك تكلفةٌ شهريّة ومشاكل اجتماعيّة، وفوق ذلك استصدار رخصةٌ لا يستطيع سكان مناطق "ج" مثلاً الحصول عليها، هذه كلها أسبابٌ دفعت العدد الأكبر من الفلسطينيين لاستبعاد الحفر الصمّاء من خياراتهم للتخلص من المياه العادمة، وهكذا لا يبقى أمامهم سوى حلٍّ أخير: الحفر الامتصاصيّة.

الحفر الامتصاصيّة: الأرض قنبلةٌ موقوتة

الحفرة الامتصاصيّة هي الحفرة التي تسمح بتسريب المياه العادمة إلى التربة، أي أنّها لا تستوفي شروط الحفرة الصمّاء، كأن لا تكون كلُّ جدرانها مغطاةً بالأسمنت، أو توجد فراغات مقصودة في جدرانها تسمح بعبور المياه العادمة عبر طبقات التربة للتخلّص منها وتفريغ الحفرة باستمرار، ولهذا يُطلق عليها أيضاً "حفر التسريب". 

لا تحتاجُ هذه الحفر إلى مساحةٍ واسعة، ويمكن إنشاؤها من موادّ محليّة يسهلُ الحصول عليها، ولا يضطرُّ صاحبها إلى دفع تكاليف ماليّة باهظة، وهو ما يدفع العددَ الأكبر من النّاس إلى اللجوء إليها لعدم وجودٍ أي حلٍّ آخر يلوح في الأفق. وهكذا، يضطر ما يزيدُ عن 66% من الفلسطينيّين "ما لا يزيد عن 1% يحفرون حفر صمّاء"1عبد الرحمن التميمي، مدير عام جمعية الهيدرولوجيين الفلسطينيين لتطوير مصادر المياه. في الضفّة الغربيّة لإنشاء هذه الحفر الامتصاصيّة بجانب منازلهم ومنشآتهم. ويلجأ لذلك حتى من استصدرَ رخصةَ بناءٍ مع حفرةٍ صمّاء، إذ بعضهم يحفرها وعند التنفيذ يحوّلها إلى امتصاصيّة. 

يتعايشُ الفلسطينيون مكرهين مع كثيرٍ من التّبعات والظواهر التي نشأت مع هذه الحفر الامتصاصيّة، وباتت تؤثّر في نواحٍ اجتماعيّة واقتصاديّة وصحيّة خطيرة، وتطالُ آثارها البيئة والبشر والشجر وحتى الحيوانات. وكلّما كانت هذه الحفرة أعمق كلما زادت خطورة تلويثها للمياه الجوفيّة، ولو كان عمقها قليلاً ستزيد من فرصة تلويث المياة السطحيّة والأراضي الزراعيّة. 

تزداد داخل هذه الحفر عملية التخمرّ بفعل البكتيريا الموجودة في فضلات الإنسان، والتي ينبعثُ منها عددٌ من الغازات السّامة، بالإضافة لبقايا بعض المواد الكيميائيّة والمعادن الثقيلة المُستعملة في التنظيف وصالونات التجميل وغيرها، ومن هذه الغازات الميثان والأمونيا. ويؤدي عدم مرور الهواء داخل هذه الحفر إلى زيادة تركيز هذه الغازات، وبالتالي زيادة سميّتها، والتي قد تودي بحياة أيّ إنسانٍ إذا استنشقها بكميةٍ كبيرةٍ خلال دقائق، وهو ما حصلَ مع أفراد عائلة الشوامرة الستة في دير العسل، إذ فقدوا الوعي اختناقاً وتسمّماً فور نزولهم الحفرة.

كما أنّ الحفر الامتصاصيّة، بما تحوي من كمياتٍ ضخمة من هذه المياه العادمة معرّضةٌ للانفجار، وخصوصاً في الشتاء، مما يُعرّض البشر لخطر الموت. في محافظة الخليل مثلاً، والتي توجد فيها ما يزيد عن 100 ألف حفرة امتصاصيّة، انفجرت خلال الأعوام السّابقة أكثر من 20 حفرة، راح ضحيتها 6 أشخاص. فيما سجّلت عدة إصابات خطيرة جراء الوقوع في حفر مكشوفةٍ، وهو ما حصل مع الطفل يامن مطور (7 أعوام) الذي أفاق بعد 4 أيامٍ من غيبوبته بعدما سقط في إحدى هذه الحفر المكشوفة في منطقة بيتونيا غرب رام الله.

 هكذا نلوّث ينابيعنا

ولأنّ هذه الحفر غير صمّاء، فإنّها لا تمنع المياهَ العادمة من الوصول للينابيع والعيون في القرى والأرياف. وهكذا يفقد الفلسطينيونَ مصدراً ومورداً آخر من الموارد القليلة المتبقية لهم للحصول على المياه، فعدا عن أنّ الاحتلال يسيطر على ما يزيد من 85% من المياه الفلسطينيّة، يواجه ما تبقى (15%) خطرَ التلوّث وعدمَ الصلاحية للاستخدام الآدميّ. حسب تقرير البنك الدوليّ لعام 2018، تنتج الضفّة الغربيّة سنويّاً ما يزيد عن 69 مليون متر مكعبٍ من المياه العادمة. يتم تجميع 30% منها فقط في شبكات الصرف الصحيّ أي ما يقارب 21 مليون متر مكعب فقط. من الـ21 مليون متر مكعب تجري معالجة 9.5 مليون متر مكعب فقط، بينما يتمُّ التخلص من بقية هذه المياه العادمة (25 مليون متر مكعب) في البيئة الفلسطينيّة لتلقي بأضرارها وملوثاتها إلى باطن الأرض.

مزارع فلسطيني من قرية دير استيا بالضفة الغربية يرعى ماشيته في 18 يوليو / تموز 2010 بالقرب من بركة مياه مختلطة بمياه الصرف الصحي من مستوطنة "ياكير" القريبة، مما يتسبب في تلويث المياه المستخدمة للشرب والزراعة والصرف الصحي.

يضعُ هذا الوضع أهالي الضفة الغربيّة أمام اضطرار شراء المياه من شركاتٍ إسرائيلية لسدّ احتياجاتهم، كشركة ميكوروت الإسرائيليّة التي بلغت نسبة المياه المشتراة منها عام 2018 للاستخدام المنزلي 22% من المياه التي يستخدمها الفلسطينيون. ففي محافظة الخليل مثلاً مرة أخرى، اعتمد المواطنون مائياً على مدار عقود على 380 عين ماء لديهم، لكنَّ أكثر من 90% من هذه العيون تلوثت بفعل مياه الصرف الصحيّ. 

وتشير تصريحات من سلطة المياه الفلسطينية بأنَّ ما يقارب 19% من مصادر المياه باتت ملوثةً بالبكتيريا البرازية والقولونية، التي قد تسبّب إسهالاً أو نزيفاً معويّاً لدى الإنسان. ورغم عدم وجود أي دراسةٍ بحثيّة حديثة توضح حجم الأضرار المائية والتلوث فيها إلا أنّ المستشفيات تستقبل دوماً حالات إسهالٍ وتسمّمٍ سببها استعمالُ مياه ملوثة. كما حصل في بلدة إذنا غرب الخليل عام 2018 حين تسرّبت مياه المجاري بين الأحياء السكنيّة ووصلت إلى مياه الشرب، وتلوّث أكثر من 200 منزل، وأصيب عدة أشخاص بينهم أطفال بإسهالٍ وطفح جلديّ، استدعى نقل بعضهم للمشافي. ومثلما حدث في قرية مردا شمال سلفيت عام 2019 حينما تسمّم ما يزيد عن 1000 شخصٍ بسبب وصول المياه العادمة لمياه شرب القرية.

ولهذا الوضع آثاره على جودة البيئة ونمط حياة النّاس، إذ باتت تنتشرُ في الأودية الملوثة الروائحُ الكريهة والحشراتُ الضّارة، وباتت تؤرّق قاطني المنطقة وتبعدُ الزوّار عنها. تعاني بيت عور غرب رام الله مثلاً، من وصول مياه المجاري من مدينة رام الله والمستوطنات القريبة عليها، مما أدّى لانتشار الكلاب والخنازير هناك، واكتشاف أنواعٍ جديدة من الحشرات القارصة المؤذية. عدا عن خوف الأهالي من خروج أطفالهم للعب أو التنزّه حتى، وتضرّر جزء كبيرٍ من التربة والأراضي الزراعيّة، التي تحتاج عدة أعوام حتى تعوّض ما فقدته من معادن في التربة.

كما أنَّ لهذه الحفر مخاطرُ أخرى تتعلّق بتهديد أساسات المنازل الملاصقة لها، وهو ما يدفعُ البعض لزراعة أشجار الكينا بجانب الحفر لقدرتها العالية على الامتصاص، ولتجنّب مصيبة أخرى قد تؤدي لانهيار المنزل أو أجزاء منه.

 ضربة قاصمة للزراعة

أما اقتصادياً، تأثّر معظم المزارعين بالأوضاع المأساوية المتعلّقة بضعف شبكات الصرف الصحي. برزَ ذلك على عدة مستويات، أهمّها تراجعُ أسعار الأراضي وعزوفُ الناس عن شرائها بسبب قربها من أوديةٍ ملوّثة أو حفرٍ امتصاصيّة كثيرة. كما تأثّرت طبيعةُ المحاصيل التي يستطيعون زراعتها في المناطق الملوّثة بمياه المجاري. فعدا عن أشجار التين والزيتون، لا تصمدُ معظم المحاصيل كالبصل والفول وغيرها أمام هذا التلوث، مما اضطرهم في حالاتٍ كثيرةٍ لتغيير نوعية المحاصيل التي اعتادوا على زراعتها أو بيعها.

ويزيد من خطورة تسرّب المياه العادمة للمحاصيل الزراعيّة أنّ معظم هذه المحاصيل التي تباع من أراضٍ زراعيّة صغيرة لا تخضع لأيّ رقابةٍ أو فحصٍ لمدى تلوّثها قبل البيع، ولا توجد أيّ دراسةٍ علمية واضحة تختصُّ بفحص محاصيل الأراضي القريبة من الحفر الامتصاصيّة.

مزارع فلسطيني يتفقد شجرة زيتونه الجافة نتيجة مياه الصرف الصحي من مستوطنة ألون موريه المجاورة التي غمرت حقلًا في قرية دير الحطب بالقرب من مدينة نابلس بالضفة الغربية في 14 أكتوبر / تشرين الأول 2008. تصوير: جعفر اشتية \ AFP

رائحة أوسلو لا تزال تفوح

اليوم وبعد مرور أكثرَ من 26 عاماً على تأسيس السّلطة الفلسطينيّة التي صوّرت نفسها صاحبةَ السّيادة على أراضي الضفّة الغربيّة، لا يزالُ أكثر من نصف الفلسطينيّين هناك مجبرين على إيجادِ طرقٍ للتخلص من المياه العادمة بأنفسهم. وبينما يكلّفهم هذا عبئاً وثمناً يحصدونه في مختلف نواحي الحياة، يعكسِ هذا أيضاً مؤشراً مريراً على واقعِ ضعف السّلطة وترهّل مؤسساتها وعدم قدرتها على توفير حقٍ أساسّي يضاف إلى حقوق أخرى يحتاجها الفلسطيني كي يعيش بالحدّ الأدنى من الكرامة وصون جودة الحياة. وهكذا، يتحمَّلُ النّاس بأنفسهم مسؤولية تصريف المياه العادمة دون أن تتوّفر لهم أية حلولٍ أو بدائل آمنة.

كما تفوحُ من هذا الوضع القائم رائحةٌ لا تقلّ نتانةً عن المياه العادمة تدلُّ على سيطرة "إسرائيل" وهيمنتها على كلّ مفاصل حياة الفلسطينيّ حتى فيما يخصّ إنشاء شبكات الصّرف الصحيّ. ليس فقط في مناطق "ج" بل حتى في المناطق التي من المفترض أن تكون "خاضعةً  للسلطة". وهذه السّيطرة هي إحدى مخرجات اتفاقية أوسلو التي تدفع كلُّ عائلة فلسطينية ثمناً لها حتى اليوم.

ومع كلّ يومٍ جديد يمرّ تزداد فيه خسائر البيئة الفلسطينيّة، ويلّوث الفلسطيني مجبراً باطن أرضه التي قضى عمره في صراعٍ عليها وفي سبيل حمايتها. الأرض ذاتها التي بذل الفلسطينيون من أجلها الدماء والشهداء بات جوفها يحمل مجبراً هذا الكمّ من القذارة والمخلّفات.

  • يُنشر هذا المقال ضمن برنامج زمالة الكاتبات والصحافيات الذي بدأه "متراس" في يناير/ كانون الثاني 2021.