فيلم الجزيرة "في سبع سنين" أَكدّ أنّنا ما زلنا نُقِارِبُ حدث الثورات العربيّة بنفس الرؤية التّي سبقته. لم نمسك بعد بعمق التّحولات التي ضربت في الجذور النفسيّة لشبابها، الذين وجدوا أنفسهم أمام حقيقةٍ موحشةٍ بأنّ النظام قبل أن يسقط ويُعيدَ التقاط أنفاسه قد أَسقط خلال ذلك كلَّ المرجعيات الممكنة لتصوّرٍ بديلٍ عنه. سقط النظام ومعارضته، ثمّ عاد واقفاً وحده دون أن يترك أحداً على قدميه أمامه، وكلُّ الجهد الذي نبذله اليوم في فهم ما حدث، هو نفخٌ في تصوّرات قديمة، إنّه خمرنا القديم وقد قُدِّم بأوانٍ جديدةٍ (أعتذر عن الاستعارة المكررة أيضاً).
إن تخلّصنا من عمرو خالد كواعظٍ فنحن قادرون على إعادة إنتاجه كمذيع، وإن استسهلنا "التلطيش" بأداء "الإخوان المسلمين" فإنّنا نعيد التّأكيد على مقولاتهم الأساسية، التّي -ويا للمفارقة- أوصلت لهذا الأداء السّياسيّ الذي نستاءُ منه. كان وما زال "الإخوانُ" مصنعاً نفسيّاً وقيميّاً لإنتاج الحلول الوسط، تسوية ما بين خيارين؛ هكذا عرضوا أنفسّهم، أنّهم بعد "واقعة الجمل" وقبل "محمد محمود"، بدا "الإخوان" خلال الثورات الكيانَ الذي حاول تطمين النظام القديم، ولم يجرؤ على صنع الجديد، وحين وجد نفسه خارج اللعبة الخشنة بفعل الانقلاب الذي شقّ طريقه بثبات للإطاحة بكل التجربة، قذف "الإخوان" بشبابهم كقُربانٍ على مقصلة السّلمية دون توجّهٍ يحميهم من الذبح.
هذه الصّدمة هي التّي حاول أن يعبّر عنها الفيلم بإعادة طرح الإسلام السّياسيّ من الشّباك، بعد أن طُرد من الباب، بوصفه وسطاً بين خيارين "ضالين": "الإلحاد" و"الإرهاب". ومن خلال إفزاع المجتمع من البدائل عنك تكتسبُ جدارتَك في الوجود! هذه الفكرة هي بالذات ما أعاد الفيلم التعبير عنه بشكلٍ حرفيٍّ دون إبداعٍ يُذكر، ومن ظَنَّ أنّه كان فيلماً جريئاً لم ينتبه إلى أنّ الجرأة هي ما كانت تنقصه.
بقي الإسلام السّياسيّ بحدّ ذاته بعيداً عن المسّ بجوهره، وذلك لأنه تعرّض لتجارب "زعل" أكثر منها تجارب تنقض جذورَه الذهنيّة، لم يُمس من جذوره بوصفه شكلاً مُشوّهاً من الوساطة بين الخيارين، وكأنّ الفيلم على طريقة أبو الحسن الندويّ يريد أن يقول "ماذا خسر العالم بانحطاط الإخوان المسلمين؟".
وفق الفيلم كانت لحظة "رابعة" مُفترقاً مركزيّاً في مسارات الأشخاص نحو "انحرافيْن"، واحد باتجاه "الإلحاد"، والآخر باتجاه "الجهاديّة"، إذ أصبح "الله" و"السّلمية" محلّ شك. شكّلت "رابعة" وكثافة العنف فيها لحظةَ تَحوّل في معظم شخصيات الفيلم، والحدث رهيبٌ بالفعل، كفيلٌ بأن يحوّل أيّ شيء لأيّ شيء آخر غريبٍ عنه تماماً. ولكن ماذا يعني هذا؟ ولماذا يكون انحرافاً؟ الانحراف هو ألاّ يُحوّلك عنفٌ بهذا الجنون، أنْ يتركَكَ خلفه في بَلادةٍ قانعةٍ على ما كنتَ عليه قبله؛ هذا هو الانحراف بعينه. ولذلك فإن الفيلم فرّغ هذه المجزرة من قدرتها المهولة على محاكمة ما سبقها من خلال حشرها برؤيته الخاصّة بالانحرافات.
يستبطن الفيلم في لاوعيه صوابية ما انحرفت شخصيات الفيلم عنه، صوابية أن تكون مؤدّباً تجاه العقائد والدّول ووسطاً بين تغولهما على بعضهما البعض، وتغولهما عليك أيضاً. وفي المقابل، ينظر الفيلم -كعادة الرؤية التي تحكمه- إلى الإلحاد بطريقة سطحيّة بوصفه محض ارتباك نفسيّ، وقد عبّرت الشخصيات التي اختارها عن ذلك بوضوح، ليسهل على الفيلم إدراجهم ضمن رؤيته الكبرى، ويسهل بذلك اقتناصهم من قبل مُحاور واعظ ومشفق على هذا "الضياع". بالكاد ظهر ضيوف الفيلم كملحدين، لأنّ ردتهم لم تكن عن الإسلام ولم يكن الله هو المُطالب بإنجاز "تحوّلنا الديمقراطي". كانت الردّة فعلياً عن الإسلام السّياسيّ، ولا يكون الله محلّ مساءلة إلا بقدر ما كانت تُمَثِلُه الجماعةُ من طريقةٍ وحيدةٍ للتواصل معه.
هكذا يظهر أنّ العمل محكومٌ برؤيةٍ تبسيطيّةٍ حرصت على أن تكون "الدراما" ضميرها المرجعيّ وليس قالبها. ولهذا السّبب يبدأ المذيع بطلبٍ من الفتاة أن تكتبَ رسالة إلى الله، ويختتم الفيلم بضربه لرأسه في الجدار حزناً على مصائر "المساكين" الذين قابلهم، وكأنّ كونك صحفي يشكل خلاصاً أشد جدارة!.
"الإكس إسلام سياسي"
لم يكن الفيلم عن الإسلام والردّة عنه؛ بل عن الردّة عن الإسلام السّياسيّ، بوصفه الإسلام الوحيد الذي يتخيله الفيلم، ولم يكن عن شباب الثورات بل عن الجزء الأقلّ منهم. صحيح أن شباب الإخوان يشكّلون السّواد الأعظم من الكتلة البشريّة التي مدّت حراك الشّارع بزخمها، لكن تبعثرها لم يكن بالشّكل السّهل الذي عرضه الفيلم، بل توزّعت وتبعثرت وفق خيارات وأشكال ما زالت عصيّة عن الإمساك بها لأنّها في طور التّشكل، تنويعات عدّة تمتدّ بين "الإسلام الليبرال" و"إسلام اللايف ستايل" وخلافه. وهم يملؤون المواقع ومنصات الإنتاج اليوم، بالإضافة لنماذج أقلّ انتشاراً أخذت على نفسها مراجعات جديّة أكثر عمقاً للمسار كله.
المهم أنّ هذا السّواد الأعظم من "الإكس إسلام سياسي" الذي لم يذهب للإلحاد أو الجهاديّة -لو فرضنا أن الفيلم عن الإخوان المسلمين-، لم يجرِ التّطرق له، والسّبب أنه كان سيُشوش على رؤية الفيلم ولا يخدمها، وهي رؤية لم تلتقط أنّ الردة الأكبر التي حدثت بعد الثورات العربيّة كانت عن السّياسيّ والأمل من ممارسته، وليس عن الله. وبلغة رينيه ريلكه فإن "الله هو الذي يمسك كل هذا السّقوط الذي لا ينتهي في يديه"، والتساؤل الدائم عن غيابه واحدة من وسائل المقهورين في توحيده.
وعلى سبيل إضافة المقولة العلميّة على جهده، بدأ الفيلم بعرض دراسةٍ كميّة لمعهد غالوب Gallup، وانتهى بأخرى لمعهد الجزيرة (لم أجدها على موقعهم). وفي ظنّي أنّ كثيراً من الدراسات الكميّة تنتمي لـ"junk studies"، وهي بحاجة دائمة للفحص النقديّ، تحديداً تلك التي تعالج الظواهر المركّبة التي يصعب قياسها مثل التّدين، (يمكن التسامح مع الدراسات الكميّة التي تُعدِدُ من يفضّلون النسكافيه عن القهوة).
لقد ولّى العهد الذي يمكن لأحد فيه أن يُخوّفنا بدراسة قادمة من أميركا، دراسة "جالوب" التي بدأ بها الفيلم تفتقد لأيّ جديّة تُذكر. العينة المصريّة التي أخذتها الدراسة كانت ألف شخصٍ، في حين شملت العينة من أميركا 355,334 شخصاً، هذا فضلاً عن صيغة السّؤال المُراوغة، التي تقول "هل يلعب الدين دوراً مهماً في حياتك؟". في الواقع كلّ الناس لديها سببٌ منطقيٌّ لتُجيبَ أنّ الدّين مهمٌ جداً دون أن تكون متدينة. فضلاً على أنّ العينة كانت تشمل كلّ البالغين، فيما إحصاءات "الجزيرة" التي وضعها الفيلم كطريقة لإثبات التّحول تحدّدت بالأجيال ما بين 18-35 عاماً، وهو ما يعني أنّه منهجياً لا يُمكن استنتاجُ أيّ شيء.
في الجهة الثانية، وضع الفيلم الجهاديين في سلةٍ واحدةٍ، نحنُ لم نعرف إلى أيّ الفصائل ينتمون؟ وكأنّه يكفي أن ترخي لحيتك وتحمل سلاحاً لتكون "داعش" بالعموم.
وعلى طريقة أن الأشرار لا يتقنون الغناء، طلب المذيع من الجهاديين أن يذكروا له أغانٍ كانوا يستمعون إليها قبل تحوّلهم للمسار الجهاديّ. والشّهادة الوحيدة التي استمتعتُ فيها هي شهادة الجهاديّ الذي يرتدي النظارات، وتحديداً النقطة التي تحدّث فيها عن جزعه من احتفاء المجتمع بحرق النّاس في "رابعة"، وغربته الكليّة عن هذا المجتمع المتوحش هي من أعظم ما ورد في الفيلم. مع ذلك، تبقى مسألة أنّه عدّل لثامه أكثر من سبع مرات خلال الفيلم تثير فيّ القلق حول خبرته الجهاديّة.
ثمّ جاء "تلزيق" المسيحيّ في نهاية الفيلم بدون أيّة ملامح تُذكر لتجربته، فأمعن في إقصائها بدلاً من إشراكها، مع أنّه كان يملك الخيار في عدم التطرق لها نهائياً، لكنه مجدداً حاول تمرير أنّ حديثه يتعلق بالأديان عموماً.
لقد كان فيلماً طموحاً وبادعاءات كبيرة بدءاً من العنوان وحتى طريقة السّرد دون أن يستند على رؤية تُسعف هذا الحجم من تصوّره عن نفسه. وربما تكون فضيلتُه الوحيدة أنّه يساعد في إطلاق النقاش ودفعه، ولا أعرف إن كانت هذه المهمة تحتاج لفيلم استغرق إعدادُه سنوات.