كانت ليلة السابع من تموز/ يوليو 2025 هادئة في قرية الدواية الكبيرة ضمن ريف القنيطرة الجنوبي، حتى اقتحم جيش الاحتلال القرية، وداهم منزل الشاب أحمد الكريان ثم اعتقله وسط صراخ زوجته وابنته الوحيدة نورسين، التي لم يُمضِ معها سوى ثمانية أشهر متفرقة، اثنان منها قبل أن يُغيّب في سجن صيدنايا لخمس سنوات بتهمة الإرهاب، وستة أشهر قبل اعتقاله من قبل قوات الاحتلال.
انشق أحمد الكريان عن صفوف الأمن العسكري مع اندلاع الثورة السورية والتحق بركب الثوار، لكن بعد سنوات، مع عودة سيطرة النظام السابق على محافظة القنيطرة عام 2018، آثر البقاء وإجراء التسوية على التهجير، وعاد إلى عمله السابق في الأمن العسكري، لتبدأ مأساته.
تروي زوجة الكريان أن ضابط يُدعى ريبال، المسؤول عن زوجها بعد عودته إلى الأمن العسكري، كان على دراية كاملة بماضيه الثوري. فبعد إجازة قصيرة لم تكن إلا وداعاً لعائلته، استدعاه ريبال لتصفية حساب قديم، ليجد أحمد نفسه أمام قائمة من الاتهامات على رأسها الانضمام إلى صفوف "الإرهابيين". دخل على إثرها في دوامة الأفرع الأمنية، قبل أن ينتهي به المطاف في سجن صيدنايا.

بعد عام وشهرين من البحث المرير عثرت عائلة كريان على نجلها أحمد، وكان بإمكانها زيارته مرة واحدة كل شهرين مقابل 800 ألف ليرة سورية (ما يعادل 225 دولاراً) لأحد السجانين. حتى جاء صباح الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، عندما اندفعت عائلته مع آلاف السوريين الباحثين عن أبنائهم المفقودين في السجن، ليجدوه أخيراً، وهو على وشك أن ينفذ به حكم الإعدام.
ستة أشهر فقط هي كل فترة تحرر أحمد الكريان، قبل أن يعتقله جيش الاحتلال الإسرائيلي مع شقيقه وخمسة شبان من القرى المجاورة، بتهمة الانضمام إلى "فيلق القدس" الإيراني.
"انسوهم!"
بعد سقوط نظام الأسد، ومع توغل جيش الاحتلال في المنطقة العازلة جنوب غربي سوريا، بدأ تنفيذ حملات اعتقال في ريفي القنيطرة ودرعا. أولاها كانت في ريف القنيطرة الأوسط، حيث توغلت القوات الإسرائيلية فجر 21 كانون الأول/ ديسمبر في قريتي جبا والصمدانية، واعتقلت شابين من دون توجيه أي تهمة لهما، أو إصدار بيان من جيش الاحتلال.
اقرؤوا المزيد: الجنوب السوري: "عم نطرق جدران الخزان، هل من أحد؟"
تقول محاسن الأحمد، والدة نائل مشعل، أحد المعتقلين: "اختطفوا ابني مني ومن عائلته وطفليه وجامعته التي لم ينهها. من دون تهمة أُلقي ابني في سجون الاحتلال وبلا ذنب".
بعد أربعة أشهر، اعتقلت قوات الاحتلال قيادياً سابقاً في غرفة عمليات الجنوب من منزله في قرية الدواية بريف القنيطرة الجنوبي. وبحسب مصادر خاصة، اقتادت القوة الإسرائيلية القيادي السابق إلى الأراضي المحتلة بعد أن قامت بضربه، وأخبرت ذويه أنه لن يتم الإفراج عنه.

لم تقتصر حملات الاعتقال على ريف القنيطرة، بل امتدت في 12 حزيران/ يونيو إلى بيت جن الواقعة في جبل الشيخ وتتبع إدارياً ريف دمشق، حيث أسفرت الحملة عن استشهاد شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، واعتقال سبعة شبان، منهم شقيقان، واثنان آخران عادا أخيراً من رحلة لجوء في لبنان. كلهم يعملون في الزراعة والرعي. حينها، برر الاحتلال حملته بأن المعتقلين ينتمون إلى حركة حماس وكانوا يحاولون ترويج مخططات ضد "إسرائيل"، وهو ما نفته عدة مصادر من أهالي البلدة وذوي المعتقلين.
وعاد جيش الاحتلال ليعتقل بعد أسبوع واحد ثلاثة شبان من قرية طرنجة في ريف القنيطرة الشمالي. ومرة أخرى زعم أن المعتقلين "من المشتبه بهم في تنفيذ نشاطات إرهابية، ونُقلوا إلى الأراضي المحتلة لاستكمال التحقيق". هذا الادعاء ينفيه ذوو المعتقلين، فيؤكد خالد ليلا، شقيق أحد المعتقلين، أن شقيقه مزارع ولا يعمل في أي مكان سوى أرضه. ويقول: "أخبرَنا جنود الاحتلال أن ننسى أخي. هل في هذا عدل؟ تحرر السوريون من أعتى السجون إلا سكان القنيطرة وقعوا تحت احتلال جديد وزُجّوا في سجون جديدة".
كذبة الجيش الوحيدة
وشهد تموز/ يوليو اعتقالات في ريف القنيطرة الجنوبي، طالت فتى (17 عاماً) من قرية عين الزيتون، وهو ابن شقيق معتقل في سجون الاحتلال منذ نيسان/ أبريل، وثلاثة شبان من قرية سويسة، وشابّين من قرية عين زيوان. أُطلق سراح أحدهما وظل الآخر قيد الاحتجاز.
وسُجل في هذه الحملة إطلاق نار في الهواء وترويعٌ للنساء والأطفال وتوجيه إهانات للأهالي. وفي بيان رسمي، برر جيش الاحتلال حملته بأنه اعتقل خلية يشغّلها "فيلق القدس" الإيراني.
وفي ليلة 11 آب/ أغسطس، داهم جيش الاحتلال قرية طرنجة مرة أخرى بزعم البحث عن مطلوبَين، واعتقل أحدهما بينما لم يجد الآخر. هذه المرة حمل بيان الاحتلال رواية جديدة بعيدة عن تهم "الإرهاب" و"الانضمام لمجموعات تتبع إيران"، وهي أن المعتقل "تاجر أسلحة".
هذه الادعاءات الإسرائيلية المتكررة لتبرير الاعتقالات تبيَّنَ كذبها، وأنها تُلقى جُزافاً. ففي بداية شهر تموز/ يوليو، اقتحم جيش الاحتلال قريتي البصالي وأم اللوقس في ريف القنيطرة الجنوبي واعتقل ثلاثة شبان، ثم أصدر بياناً رسمياً زعم فيه أنهم شكلوا "خلية إيرانية"، غير أنه أفرج عنهم بعد ساعات قليلة.
وفي ريف القنيطرة الأوسط، توغلت دورية إسرائيلية في قرية الصمدانية الشرقية، واعتقلت شاباً من أمام منزله دون إصدار أي بيان أو توضيح لأسباب الاعتقال. وكانت قد أفادت زوجته أنه مدني يعمل سائقاً على سيارة تابعة لمصنع ألبان وأجبان، وليست له صلة بأي نشاط عسكري.
أما في ريف درعا الغربي، فُسجلت حالتا اعتقال: الأولى في 29 حزيران/ يونيو، عندما اعتقل جيش الاحتلال شابين بعد إطلاق النار عليهما وإصابتهما في قرية معرية بريف درعا الغربي في أثناء مرورهما بالقرب من ثكنة الجزيرة، وهي نقطة عسكرية استولت عليها قوات الاحتلال عقب سقوط النظام. أما الحالة الثانية فكانت في 12 آب/ أغسطس، حين اعتقل الاحتلال شابين من قرية العارضة في ريف درعا الغربي أيضاً، ولم يصدر جيش الاحتلال أي بيان بشأن هذه الاعتقالات.
مصير مجهول
ويقبع في سجون الاحتلال حالياً نحو 32 معتقلاً سورياً - حسبما تمكنَّا من رصده وتوثيقه - خمسة منهم اعتقلوا قبل سقوط نظام الأسد، والبقية بعد سقوطه. ويوضح محامون على دراية بملف المعتقلين السوريين في سجون الاحتلال أن محاكمات صورية تُعقد للمعتقلين السوريين كل ستة أشهر، يجري خلالها تمديد اعتقالهم لستة أشهر جديدة من دون محاكمة وبلا لوائح اتهام.
ويؤكد المحامون أن المعتقلين السوريين محتجزون على أساس قانون "مقاتل غير شرعي"، وهو ذاته القانون الذي يعتقل الاحتلال الإسرائيلي على أساسه الفلسطينيين من قطاع غزة.
وبحسب مؤسسات الأسرى الفلسطينية، فقد أدخل الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً تعديلات على قانون "المقاتل غير الشرعي"، ومدد العمل به حتى نهاية العام الحالي. وتتيح هذه التعديلات للجيش وأجهزة الأمن في "إسرائيل" صلاحية احتجاز المعتقلين لفترات غير محدودة، من دون توجيه تهم أو ضمانات لمحاكمات عادلة.
وأكدت أن التعديلات منحت القضاة الإسرائيليين صلاحيات بتمديد منع لقاء المعتقل لمحاميه لمدة 30 يوماً كحد أقصى، تُضاف إلى 45 يوماً يملكها ضباط الاحتلال، ليصل مجموع المدة التي يمكن فيها حرمان المعتقلين من لقاء محاميهم إلى 75 يوماً متواصلة، وفقاً لما ورد في بيان مؤسسات الأسرى.
ويُعد ملف المعتقلين السوريين في سجون الاحتلال من الملفات المهملة على جميع المستويات؛ فمن جهة يقتصر توثيق الاعتقالات على محاولات فردية من ناشطين في محافظتي درعا والقنيطرة، ومن جهة أخرى غاب هذا الملف بشكل شبه تام عن أجندة الإعلام الحكومي وغير الحكومي، باستثناء أخبار قصيرة في لحظة وقوع الحدث. حتى إن بعض الأخبار لم تُنقل في وسائل الإعلام.
أما على المستوى الحقوقي، فلم نجد سوى محاولات خجولة لحقوقيين سوريين مغتربين، اصطدموا بقلة المعطيات عن المعتقلين. وإلى جانب ذلك كله، يقتصر دور المنظمات الدولية مثل الهيئات التابعة للأمم المتحدة والصليب الأحمر على دور الوسيط الشكلي الذي ينقل الشكاوى ليأتيه الرد الإسرائيلي المكرر: "قيد التحقيق".
إفراغ الجنوب السوري
وتشكل حملات الاعتقال الإسرائيلية أداة استراتيجية لفرض واقع أمني لصالح الاحتلال، بحيث يجري ترهيب السكان المحليين وتفريغ المنطقة من نواة أي تشكيل قد يثير شكوك الاحتلال مستقبلاً، حتى لو كانت تلك الشكوك خاطئة.
اقرؤوا المزيد: كيف بدأت "إسرائيل" تقسيم سوريا؟
أما الإصرار على إلصاق تهمة الارتباط بإيران بمعظم المعتقلين، فيهدف إلى نزع الشرعية عنهم وتجريدهم من أي تعاطف شعبي سوري. وفي الوقت نفسه، يبعث رسالة إلى الداخل الإسرائيلي ودول العالم أيضاً بأن الوجود العسكري في سوريا ما يزال ضرورياً ومرتبطاً بالحرب مع إيران.
كل ذلك يخلف وراءه مأساة إنسانية صامتة تطال عشرات العائلات التي تُركت وحيدة لمواجهة مصير أبنائها المجهول، وسط غياب شبه تام للاهتمام الدولي والإعلامي.