كانت أولُ مرةٍ أعرف فيها درويش حينما قررتُ أنْ أملأ وقتَ الطريق الطّويل بين قريتي النائية وبين الجامعة بالاستماع إلى القصائد التي يلقيها أصحابُها. َشغّلتُ "مديح الظلّ العالي" لِمحمود درويش بين "لا تُهاجر" لأحمد مطر و"في القدس" لتميم البرغوثي. لكني كنتُ أضغطُ زرَّ الانتقال للتالية لتجاوزها كلما بدأت، أقصد "مديح الظلّ العالي". أما هذه المرّة، فقبضتُ على نفسي مُتَلَبِساً بسماعها كاملةً. كان الزحامُ قد أوقف السّيارة بما يكفي لانتهاء القصيدة الطّويلة بينما أنا نائم.
للبدايات وهجها تماماً كالولادة، تَهِبُ الحياةَ في النهاية مهما كان المخاض عسيراً. كنتُ أسمعها ولا أفهم ما يقوله هذا الرجل. عادت وساوس الطفولة تنغز رأسي؛ هل الشّعر الحرّ شعر؟ وهل يعرف هذا الرجلُ حقاً معنى ما يقول؟ كان شيئاً واحداً يُثير استغرابي؛ صوت التصفيق الحادّ في بعض المواضع التي لا أفهمها! من هؤلاء الذين يفهمون هذا الكلام؟
كنتُ قد تعلمت من المقدمات التي تسبق قصائدَ المتنبي في ديوانه أنّ شرط فهم القصيدة معرفة تاريخها. يشبه ذلك ممارسة التحليل النفسيّ عند فرويد، حيث يكون ضرورياً لعلاج المريض معرفةُ طفولته. وإذا كان هؤلاء جميعاً يصفّقون، وهم ساسة كما عرفت من مقدمة التسجيل، فلا شك أنّهم كانوا يفهمونها لأنّها تتعلق بشيءٍ ما يخصّهم.
لا أستطيع أن أذكرَ تماماً متى كانت أول معرفتي بحصار بيروت- 1982، ولا أستطيع أن أؤكد اليوم: هل كانت شاعرية القصيدة هي ما حفر ذلك التّاريخ في قلبي، أم أنّ تراجيدية التّاريخ هي التي ألبستني القصيدة؟ ربما كان أول استماعي ذاك في أول 2013، ومنذ ذلك الوقت القصيدة صارت معلقتي الأثيرة. استمعتُ إليها مئاتَ المرات – بلا مبالغة. لم أكن أدري، إذا كان التّاريخ الذي حدّدتُه سليماً، أنَّ ثمانية أشهر فحسب كانت كافية لأشاهد القصيدة وأحيا معانيها، وليتعلق بها معي أصدقائي.
كان ثمّة سؤالٌ يؤرقني في تلك القصيدة، ما الذي يمكن أن يقوله شاعرٌ لقبيلته المهزومة المشرّدة بعد الهزيمة؟ حاولتُ أن أضعَ نفسي مكان درويش؛ ربما كان عليَّ أن أعيد الأمل إليهم، لكن كم يبدو ثقيل الظلّ زائفاً ذلك الأملُ الرخيص الذي يمكن أن يُبَثَّ بينما نارُ الهزيمة لم تبرد. ربما يليق ذلك بسياسيٍّ لا يؤرقه نصيبُه من ثقل الظلّ والزيف، أما الشّاعر فكان ذلك كافياً لمحو شاعريته. تقدّم درويش نحو المنصة، وغنّى وحيداً لأكثر من ساعة. اعترف بالهزيمة، مجّد مقاومته الباسلة، واكتفى بنصيبه من النصر: ألا يخضع لسيادة الأشياء. بجملةٍ، ارتضى أن يكون جسدَ الأُضحية التي عليه تقتات الحقيقةُ؛ أن يكون بطلاً، ولكن للتراجيديا. وفي الأخير، قرّر أن يحاصر حصاره.
والآن، والأشياء سيدة، وهذا الصّمت عالٍ كالذبابة
هل ندرك المجهول فينا؟
هل نغني مثلما كنا نغني؟
درويش هو الفلسطينيّ الحقّ. تشعرُ بهشاشة وجودِهِ في كلّ كلمة، وهو الذي اعترف بأنّ المتنبّي سبق وقال كلّ ما أراد هو أن يقوله، في نصف بيت: "على قلق كأنّ الريح تحتي". يشبه درويش المتنبي كثيراً، كلاهما منفيٌّ عن ذاتِهِ، وثمّة أفق لا يمكن الشّعور بالامتلاء إلا بالوصول إليه، والوصول إليه مستحيلٌ عند كليهما. الأول لأنه في المنفى الفعليّ، يموت ويحيا بلا وطن، أما الثاني فمنفيٌ في نفسه عن طموحه الذي حرمته الأيامُ منه: "أصارع خيلاً من فوارسها الدهر".
درويش هو متنبي العربيّة المعاصرة، تماماً كما كان المتنبي "أعظم شاعر في تاريخ العربيّة" كما قال درويش. كلاهما فيلسوفان لا شاعران، وهكذا وصف المتنبي نفسَه حين سُئِل في الموازنة بين أبي تمام والبحتري فقال: "البحتري الشّاعر، أما أنا وأبو تمام فحكيمان".
في شعر درويش والمتنبي حكمةٌ مريرةٌ. تبدو الحكمة في أحد وجوهها اعترافاً بالمرارة. لا تكتمل التّجربةُ عند درويش، لا بدّ أن تنبترَ لأنّ الحياةَ وجودٌ ناقصٌ، تلك هي الحكمة التي ربما تَكشِفُها وتُجليها مرارةُ المنفى. تُشبهُ الحياةُ عند درويش، لا الحبّ وحده، إنما المقهى كذلك، بكلِّ ما في المقهى من عرضية العبور المؤقت السّريع حيث لا قرار. حبيبة درويش لا تأتي أبداً، هي "لم تأتٍ" وهو قال: "ولن". ربما أراد أن يقول هنا أنّ الحبيبة التي نحيا في انتظارها لن تأتي أبداً. رغم ذلك، لا نملك إلا أن ننتظرها كما قال في درسه المأخوذ من كاما سوطرا. هكذا هي الحياة كلّها، رحلة إلى الأفق الذي لا وصول إليه، لا يمكن الوصول، ولا يمكن التوقف. وهكذا هي فلسطين أيضاً، وطن لا يعود، ولا يُمكن التخلّي عنه.
في شعر درويش، لا تنتهي مشاهدُ الوجود العابر المؤقت، تتكرر فحسب، انتظار شيءٍ لا يأتي. المقهى موئل العابرين، حتى عندما يحاول أن يفتّش فيه عن سلامه النفسيّ كما في "مقهى، وأنت مع الجريدة"، الجسر المشدود بين عالمين حيث يمضي المرتحلون، يحاور عليه حبيبته الأجنبيّة بينما هو في منفاه في "نمشي على الجسر"، أو يحاور عليه ذاته الفلسطينيّة في "ضباب كثيف على الجسر".
ماذا بعد بابل؟
كلما اتضحّ الطريق إلى السماء،
وأسفر المجهول عن هدف نهائي،
تفشى النثر في الصلوات،
وانكسر النشيد!
لم يغادر درويش فلسطينيته قطّ حتى عندما قرّر أن يكتب قصائده على جدار قلبه بعد جراحته في 1998، وهي القصيدة التي يلمس فيها لمساً تلك الهشاشة التي لطالما أحسّها من قبل: الوجود بين الحياة والموت. ورغم كل التخلي فيها عن "رايات القبائل" والتمسك بالاسم "الأفقي" حيث لا نسب ولا أجداد ولا قبيلة، فتلك الهشاشة هي هشاشة المنفى الفلسطينيّ كما ذكرنا.
ربما لا نبالغ إذا قلنا، مع زكريا محمد، أنّ "كلنا من خلائقه". فقد صنع درويش الفلسطينيّ الحديث صناعة، فلسطيني المنفى الذي "من أسطورة [يمشي] إلى أسطورة" و"من الحصار إلى الحصار"، لكنه في كلّ ذلك لا يُلقي البندقية، ولا يكفّ عن السفر، وعندما اختتم أوسلو المرحلة، أعلن سيزيف الفلسطيني التعب: "لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا"، في ديوانه الجنائزي الذي كرّسه للمناسبة: "أحد عشر كوكبا على المشهد الأندلسيّ الأخير".
في أشعاره الأخيرة، تشعر أن صوت درويش قد تهدج. لم يكن شعر درويش هتافياً في أيّ وقت، ربما سوى في حقبة الطفولة الشعرية، كان رصيناً دوماً، لكنّه كان منتصباً راسخاً مستعداً لمواصلة الرحلة. لاحقاً، يبدو شعره مرهقاً وتأمّلياً. هنالك هاجس الزمن والأنا عندما يسائل صورته في قصيدة "في بيت أميّ"، ثمّ عندما توشك الحياة أن تأفل في "الآن في المنفى". لكن درويش في هشاشة الأفول يودّعنا "على محطة قطار سقط عن الخريطة" بنوستالجيا العربيّ الذي يشعر بخيانة الزمن الذي انتهز رقاده ليسرق ملكه.
هل أكون مبالغاً إذا قلتُ إنَّ منفى درويش ليس منفى الفلسطينيّ أو العربيّ وحده وإنّما منفى الإنسان اليوم؟ إنّها الهشاشة التي تستعمر حياتنا حيث اللاأمان، والركض الذي لا ينقطع وراء أحلام لا تتحقق، والوطن المحكوم على ابنه بالهجرة عنه.
ولا يكفي الكتاب لكي أقول:
وجدت نفسي حاضرا ملء الغياب..
وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين،
وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة؛
هل أنا الفرد الحشود؟